ماذا تَحمُلُ القاهرة إلى بيروت؟
محمّد قوّاص*
تتحدّثُ الأنباءُ عادةً عن وجودِ جهودٍ لإقناعِ “حزب الله” بضرورةِ تسليم السلاح كمدخلٍ أساسي لقيام دولة في لبنان تمتلك حصريته الكاملة، وكمدخلٍ ضروريٍّ لتَعاطي الأطراف المانحة والمستثمرة مع البلد. وما برحت وفود المبعوثين، الأميركيين خصوصًا، تُركّز على هذا المطلب، مُعتبرةً إياه أوَّليًا، وشرطًا سابقًا، قبلَ أيِّ بحثٍ في انسحاب إسرائيل من النقاط التي تحتلها في جنوب لبنان ووقف اعتداءاتها على البلد.
بالمقابل، لم يُبدِ الحزب أية أعراضٍ تشي بأنه يُصغي إلى مطالب الموفدين أو يستجيبُ لمنطقٍ داخلي تُعبّرُ عنه رئاستَي الجمهورية والحكومة، وإن بصِيَغٍ مختلفة بشأن قضية السلاح. حتى إنَّ في خطب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم ما يُظهِرُ أنَّ لا تسليمَ للسلاح حتى لو انسحبت إسرائيل وأوقفت اعتداءاتها. وكل ما قدمه الحزب من مرونة، هو قبوله النقاش للاهتداء إلى الاستراتيجية الدفاعية الشهيرة.
وما لم يَعُد غامضًا أنَّ الحزب لا يمتلكُ أيَّ هامشٍ محلّي لتقرير مصير سلاحه، وأنَّ الأمرَ هو قرارٌ استراتيجي بيد الجمهورية الإسلامية ومرشدها في إيران. وحتى حين يُخيّل للبعض غير ذلك، فإنَّ طهران نفسها تتبرّعُ بإطلاق “صليّات” من المواقف والتصريحات المدافعة عن بقاء ذلك السلاح وتحريم تسليمه لما فيه “مصلحة للبنان وشعبه”.
ولئن تَطرُق العواصم أبواب بيروت لـ”الالتحاق بركب التحوّلات” والذهاب إلى التفاوض، فإنَّ بيروت لا تملكُ وصلًا مع طهران، حتى لا نقول “مونة”، تبيح لحزبها التأقلم مع ما هو تحوّل وتغيُّر في قواعد اللعبة.
والحال فإنَّ زيارة رئيس المخابرات المصرية اللواء حسن رشاد إلى بيروت بعد أيام على لقاءٍ جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تستدرجُ مُقاربةً قد تكونُ من نوعٍ جديد. فالرجلُ لعبَ أدوارًا لافتة للوصول إلى اتفاق غزّة، من أهمّها الوصل مع حركة “حماس”.
ولئن قد تنقل مصر خبرتها الغزّية إلى الحالة اللبنانية، فإنها تُخاطبُ من خلال بيروت “حزب الله” الذي لم يُسجَّل له اعتراضٌ على وساطة القاهرة مع حليفه في غزّة ودورها في إنتاجِ اتفاقٍ حظي بتأييده. قد تكون الآلية المصرية تمتلك سجلًّا في تجربة غزّة لا يستفزّ الحزب في لبنان ولا تتوجَّس منه إيران من ورائه.
فلطالما كان خطاب القاهرة حريصًا في القطاع على مقاربةٍ تُبقي البابَ مواربًا بشأنِ مبدَإِ وكيفية تسليم سلاح الحركة ومستقبلها السياسي. حتى أنَّ القاهرة حريصة على دورٍ فلسطيني كامل يكونُ أصلًا لا فرعًا في أيِّ آلياتٍ أجنبية، سواء مثل “مجلس السلم” أو قوات حفظ الاستقرار المتعددة الجنسيات.
تستندُ القاهرة على تحسّن طرأ على علاقتها مع طهران إلى درجة أنها مرشحة، إلى جانب عواصم معنيّة أخرى مثل مسقط والدوحة، للعب دور وساطة تُعيدُ مدَّ طاولة مفاوضات إيرانية-أميركية. تُعوّلُ مصر على ما تبديه إيران من حرصٍ على بناء علاقة جديدة مع مصر تطوي عقودًا من الجفاء والقطيعة بين البلدين.
ولئن أشاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب في قمّة شرم الشيخ بنظيره المصري عبد الفتاح السيسي وثمّن المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف دور مصر ودور رئيس مخابراتها بالذات لإنتاج اتفاق غزّة، فإنَّ رجل القاهرة الزائر في بيروت يمتلك أوراق قوة ومفاتيح فاعلة لافتة.
قد تكون مصر أكثر الدول المؤهّلة لاستدراج إيران للإدلاء بدلوٍ آخر لتليين موقف حزبها الذي لا يملك قراره في مسألة تعتبرها طهران استراتيجية ولصيقة بمصالح إيران. والأصل أنَّ موقف طهران كان يهدف، على منوال ما كان اقترحه رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف، إلى أن تكون إيران حاضرة وشريكًا مقررًا في أيِّ حديثٍ بشأن مسائل السلاح وقضايا السلم والحرب في لبنان.
وإن كان لا يبدو أن اللجنة الخماسية المعنية بشؤون لبنان ستتّسع لتُصبح سداسية تضمّ إيران عضوًا جديدًا في صفوفها، إلّا أنّ المبادرة المصرية التي لا تزال تفاصيلها غامضة تُوحي بوجود مقايضات محتملة قد تكون طهران جُزءًا منها، أو على الأقل طرفًا غير بعيدٍ عن دوائرها. فالحراك المصري لا يتحرّك في فراغ، بل يُجسّ نبض الأطراف الإقليمية، باحثًا عن صيغةٍ تُوازِنُ بين المصالح المتشابكة من دون أن تُقصي أحدًا.
وفي هذا السياق، جاءت زيارة الموفد المصري إلى بيروت متزامنة مع زيارة موفدة واشنطن، مورغان أورتيغاس، وهو تزامنٌ يبدو في ظاهره مصادفة، لكنه في الواقع يحمل أكثر من إشارة. فالصمت الذي التزمته أورتيغاس وامتناعها عن الإدلاء بأيِّ تصريحات قد تُثير الحساسية أو تُربك الجهود الديبلوماسية، يمكن قراءته كجُزءٍ من رسالةٍ منسّقة تهدفُ إلى تسهيل مهمة المبعوث المصري، وترك الباب مفتوحًا أمام مسعى مصري–أميركي غير معلن لتليين المواقف وبناء أرضية تفاهم معقدة ولكن ممكنة.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).



