كيف أعاد تنظيم “الدولة الإسلامية” تشكيل الشرق الأوسط

عندما إنسحبت القوات الأميركية من العراق، ظنت واشنطن أن وجودها في الشرق الأوسط لن يكون مركزياً كما كان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن ظهور تنظيم إرهابي يدعى “داعش” أو “الدولة الإسلامية” كما يحلو أن يسمي نفسه، غيّر أشياء كثيرة في تفكير أميركا والقوى الإقليمية الكبرى في المنطقة: المملكة العربية السعودية، إيران وتركيا، الأمر الذي أعاد تشكيل القوى والتحالفات.

رجب طيب أردوغان: يريد هدف إسقاط الأسد على الطاولة قبل أي تدخل في سوريا
رجب طيب أردوغان: يريد هدف إسقاط الأسد على الطاولة قبل أي تدخل في سوريا

لندن – محمد سليم

في أواخر العام الفائت (تشرين الثاني (نوفمبر) فشلت المحادثات النووية مع إيران ولم تسفر عن إتفاق، لكن الموعد النهائي لإجراء صفقة تم تمديده من دون عوائق. ما كان يمكن أن يكون أزمة كبيرة قبل عام، تزخر بالتهديدات والقلق، تمّ التعامل معها من دون دراما أو صعوبة. هذا الرد الجديد لفشل آخر في التوصل إلى إتفاق يمثّل تحوّلاً في العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران، وهو تحوّل لا يمكن فهمه من دون النظر أولاً في التحوّلات الجيوسياسية الهائلة التي حدثت في الشرق الأوسط، التي جعلت القضية النووية ملحّة.
تمتد جذور هذه التحوّلات إلى ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). إيديولوجياً، هناك فرق قليل بين “الدولة الإسلامية” وغيره من الحركات الجهادية الإسلامية المتطرفة. ولكن من حيث الوجود الجغرافي، فإن التنظيم الإرهابي وجد نفسه في وضع متميز مختلف عن البقية. بينما يتوق تنظيم “القاعدة” ربما إلى السيطرة على دولة قومية مهمة، إلا أنه ظل في المقام الأول، منظمة إرهابية متفرّقة مشتتة على نطاق واسع. فهو ليس مسيطراً على أي منطقة كبيرة بشكل دائم؛ لذا كان حركة، وليس مكاناً. ولكن تنظيم “الدولة الإسلامية”، كما يوحي إسمه، هو مختلف. إنه يرى نفسه على أنه النواة التي من خلالها يجب أن تنمو الدولة الإسلامية العابرة للوطنية والحدود، وقد أقام في سوريا والعراق كياناً جغرافياً. وتسيطر الجماعة على منطقة محددة تقريباً في البلدين، ولديها شيء من القوات العسكرية التقليدية مصممة للدفاع وتوسيع سيطرة “الدولة”. حتى الآن، مهما يكن التقدم الذي أحرزه أوالإنتكاسات التي مني بها، فإن تنظيم “داعش” حافظ على هذا الطابع. في حين أن المجموعة المتشددة وزّعت بالتأكيد جزءاً كبيراً من قواتها في تشكيلات عصابات متفرّقة وإحتفظت بجهاز إرهابي إقليمي مهم، فإنها لا تزال شيئاً جديداً بالنسبة إلى المنطقة – حركة إسلامية متشددة تعمل كدولة إقليمية.
من غير الواضح ما إذا كان تنظيم “الدولة الإسلامية” يستطيع الصمود طويلاً ويمكنه البقاء على قيد الحياة. إنه يتعرض لهجوم عراقي أرضي في تكريت، وغارات جوية من أميركا وحلفائها، وتحاول الولايات المتحدة خلق قوة تحالف التي من شأنها مهاجمته والقضاء عليه. ومن غير الواضح أيضاً ما إذا كانت المجموعة يمكنها التوسّع. يبدو أن “الدولة الإسلامية” قد بلغ أقصى حدوده وإستطاعته في كردستان، والجيش العراقي (الذي هزم بشدة في المرحلة الأولى من ظهور “الدولة الإسلامية”) يُظهر بعض علامات القوة والتي بدأت تتجلى في تكريت.
تهديد إقليمي جديد
ولّد “داعش” دوّامة إنسابت إلى القوى الإقليمية والعالمية، معيدةً تحديد كيفية التصرف ضده. إن وجود التنظيم التكفيري المتشدد هو على حد سواء رواية ومستحيل تجاهله لأنه كيان إقليمي. لقد إضطرت الدول إلى تعديل سياساتها وعلاقاتها مع بعضها البعض نتيجة لذلك. ونحن نرى هذا داخل سوريا والعراق. وليست دمشق وبغداد وحدهما اللتان تحتاجان إلى التعامل مع “الدولة الإسلامية”؛ قوى أخرى إقليمية – تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية – تحتاج إلى إعادة حساب ومراجعة مواقفها أيضاً. يمكن لمنظمة إرهابية إلحاق الألم والتسبب بإضطرابات، ولكنها لا تستطيع البقاء على قيد الحياة إلّا إذا ظلّت مشتتة. لدى تنظيم “الدولة الإسلامية” عنصر الإرهاب، وإنما هو أيضاً قوة مركّزة يمكنها أن توسّع أراضيها. إن المجموعة تتصرف بطريقة جيوسياسية، وطالما صمدت وبقيت على قيد الحياة فإنها تشكّل تحدياً جيوسياسياً.
داخل العراق وسوريا، يمثل “الدولة الإسلامية” عناصر من السكان العرب السنة. فقد فرض نفسه على المنطقة العربية السنية في العراق، وعلى الرغم من وجود مقاومة ضد سلطة “داعش”في أوساط السنة، فإن بعض المقاومة لأية دولة ناشئة أمر لا مفر منه. وقد تمكّن “داعش” من مواجهة هذه المقاومة حتى الآن. لكن الجماعة التكفيرية أيضاً ضغطت ضد حدود المناطق الكردية والشيعية، وسعت إلى إنشاء إرتباط جغرافي مع قواتها في سوريا، وتغيير ديناميكية العراق الداخلية إلى حد كبير. وبعدما كان أهل السنة سابقاً ضعفاء ومشتتين، فإن تنظيم “الدولة الإسلامية” أصبح الآن قوة سنية كبيرة في المنطقة الشمالية وغرب بغداد، مما يشكل تهديداً محتملاً لإنتاج النفط الكردي والحكم العراقي. وكان للمجموعة تأثير أكثر تعقيداً في سوريا، إذ أنها أضعفت مجموعات أخرى مقاوِمة لحكومة الرئيس السوري بشار الأسد، وبالتالي عزّزت موقف الأسد في حين زادت قوتها الذاتية. وتوضح هذه الدينامية التعقيد الجيوسياسي لوجود “الدولة الإسلامية”.
مواجهة مع التحالف
إنسحبت الولايات المتحدة من العراق على أمل أن بغداد، حتى لو كانت غير قادرة على حكم أراضيها مع مستوى ثابت من السلطة، سوف تقوم بتطوير ميزان قوى في البلاد الذي سيمنح درجات مختلفة من الحكم الذاتي، الرسمي وغير الرسمي. كان ذلك هدفاً غامضاً، ولكنه ليس بعيد المنال. ولكن ظهور “الدولة الإسلامية” أخلّ بالتوازن في العراق بشكل كبير، ونقاط الضعف الأولية في القوات العراقية والكردية التي واجهت مقاتلي “الدولة الإسلامية” أجبرت الولايات المتحدة على تغيير رأيها وموقفها حول إمكانية التدخل ضد المجموعة التكفيرية التي سيطرت على أجزاء كبيرة من العراق وسوريا. بات هذا الوضع يشكل تحدياً ذلك أن الولايات المتحدة لا يمكنها التراجع ولا الإنخراط الكامل. وكان الحل في واشنطن بإرسال طائرات والحد الأدنى من القوات البرية لمهاجمة “الدولة الإسلامية”، في الوقت الذي تسعى إلى بناء تحالف إقليمي الذي من شأنه أن يوسع عملية الردع ضد “داعش”.
اليوم، تشكل تركيا المفتاح لهذا التحالف. أصبحت أنقرة قوة إقليمية كبيرة. لديها أكبر إقتصاد وأكبر جيش في المنطقة، وهي الأكثر عرضة للأحداث في سوريا والعراق، التي تمتد على طول حدودها الجنوبية. وكانت إستراتيجية أنقرة في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان قائمة على تجنب النزاعات مع جيرانها، وهو ما كانت قادرة على القيام به بنجاح حتى الآن. تريد الولايات المتحدة حالياً أن تقدّم تركيا قواتاً – برية بشكل خاص – لمقاومة “الدولة الإسلامية”. أنقرة لديها مصلحة في القيام بذلك، لأن النفط العراقي من شأنه أن يساعد على تنويع مصادرها من الطاقة، ولأنها تريد أن تُبقي الصراع بعيداً من التمدّد إلى تركيا. وقد عملت الحكومة التركية بجهد وصعوبة للحفاظ على عدم عبور الصراع السوري عبر حدودها وللحدّ من تدخلها المباشر في الحرب الأهلية. أنقرة أيضاً لا تريد أن يقوم تنظيم “الدولة الإسلامية” بالضغط على أكراد العراق والذي يمكن أن ينتشر في نهاية المطاف إلى الأكراد الأتراك.
إن تركيا تجد نفسها في وضع صعب. إذا تدخّلت ضد “الدولة الإسلامية” جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة، سيتم إختبار جيشها بالطريقة عينها التي لم يتم إختباره بها منذ الحرب الكورية، وجودة أدائه غير مؤكدة. المخاطر حقيقية، وضمان النصر لا يزال بعيداً. قد تستأنف تركيا الدور الذي لعبته في العالم العربي في عهد الإمبراطورية العثمانية، في محاولة لتشكيل السياسة العربية في سُبُلٍ تجدها مرضية. من جهتها لم تفعل الولايات المتحدة ذلك بشكل جيد في العراق، وليس هناك ما يضمن أن تركيا ستنجح على حد سواء. في الواقع، يمكن أن تنجر أنقرة إلى صراع مع الدول العربية التي لن تكون قادرة على الإنسحاب منه بدقة كما فعلت واشنطن.
في الوقت عينه، إن عدم الإستقرار في جنوب تركيا وظهور قوة إقليمية جديدة في سوريا والعراق يمثلان تهديدات أساسية لأنقرة. هناك مزاعم بأن الأتراك دعموا سراً “الدولة الإسلامية”، ولكننا نشك في هذا الأمر كثيراً. قد يميل الأتراك بشكل إيجابي تجاه الجماعات الإسلامية الأخرى، ولكن “الدولة الإسلامية” هو على حد سواء أمر خطير والضغوط المرجحة من الولايات المتحدة ضد أيّ من مؤيديه سوف تكون مؤلمة. ومع ذلك، فإن الأتراك لا ينفّذون توجيهات أميركا ببساطة؛ أنقرة لديها مصالح في سوريا التي لا تتناغم مع مصالح واشنطن.
تركيا تريد إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، ولكن الولايات المتحدة مترددة في القيام بذلك خوفاً من فتح الباب أمام قيام نظام سني جهادي (أو على أقل تقدير، فوضى جهادية) الذي مع “الدولة الإسلامية” في العمل، سيكون من المستحيل تشكيله أو السيطرة عليه. من ناحية أخرى يقوم الأتراك أيضاً بتعويم قضية الأسد، إلى حد ما، كذريعة لعدم الإنخراط في الصراع. لكن أنقرة تريد ذهاب الأسد وحلول نظام سني مكانه مؤيد لها. اذا رفضت الولايات المتحدة التنازل لهذا الطلب، فإن لدى تركيا أساساً وعذراً لرفضها التدخل. وإذا وافقت أميركا فإن تركيا ستحصل على النتيجة التي تريدها في سوريا، ولكن على قدر أكبر من الخطر بالنسبة إلى العراق. وهكذا أصبح تنظيم “داعش” النقطة المحورية في العلاقات الأميركية-التركية، لتحل محل القضايا السابقة مثل علاقات تركيا مع إسرائيل.
تغيير دور إيران الإقليمي
إن ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية” أعاد بالمثل تحديد الموقف الإيراني في المنطقة. ترى طهران أن النظام الذي يهيمن عليه الشيعة الموالي لها في بغداد هو حرج لمصالحها، تماماً كما ترى سيطرتها على جنوب العراق أمراً حاسماً. خاضت الجمهورية الإسلامية حرباً مع العراق الذي كان يهيمن عليه السنة في ثمانينات القرن الفائت، مع خسائر مدمرة؛ إن تجنب حرب أخرى من هذا القبيل أمر أساسي لسياسة الأمن القومي الإيراني. من وجهة نظر طهران، لدى “الدولة الإسلامية” القدرة على تقويض الحكومة في بغداد، وإحتمال كشف موقف إيران في العراق. رغم أن هذا ليس هو النتيجة الأكثر ترجيحاً، بل هو تهديد محتمل ينبغي على إيران مواجهته.
وقد تألفت تشكيلات إيرانية صغيرة بالفعل في شرق كردستان، وقاد طيارون إيرانيون الطائرات العراقية في هجمات على مواقع ل”الدولة الإسلامية”. إن مجرد إحتمال هيمنة “الدولة الإسلامية” حتى على أجزاء في العراق غير مقبول بالنسبة إلى طهران التي تلتقي مصالحها هنا مع مصالح الولايات المتحدة. يريد البلدان القضاء على “الدولة الإسلامية”. كلاهما يرغب بأن تنجح الحكومة في بغداد وتعمل. ليست لدى واشنطن أي مشكلة مع إيران لضمان الأمن في الجنوب، كما ليس لدى الإيرانيين إعتراض على إقليم كردستان المؤيد للولايات المتحدة طالما أنهم يهيمنون على تدفقات النفط الجنوبية.
بسبب تنظيم “داعش” – فضلاً عن زيادة إتجاهاته الطويلة الأجل – فقد تموضعت الولايات المتحدة وإيران معاً لأن مصالحهما المشتركة تتلاقى في تلك المنطقة في الوقت الراهن. وكانت هناك تقارير عديدة عن التعاون العسكري الأميركي الإيراني ضد “الدولة الإسلامية”، في حين أن القضية الرئيسية التي تفرقهما (البرنامج النووي الايراني) وضعت على نار هادئة وقتياً. وأعقب الإعلان عن عدم التوصل بعد إلى تسوية في المحادثات النووية في أواخر العام الفائت إلى تمديد فترة التهدئة للموعد النهائي لإتفاق، وأيٌّ من الجانبين لم يهدد الآخر أو أعطى أي إشارة إلى أن الفشل قد غيّر التوافق العام الذي تم التوصل إليه. في رأينا، إن تحقيق سلاح نووي يمكن أن يُستخدم هو أكثر صعوبة من تخصيب اليورانيوم، وإيران ليست قوة نووية وشيكة. وهذا يبدو أنه قد أصبح الموقف الأميركي. لا واشنطن ولا طهران تريد توتر العلاقات بشأن القضية النووية، والتي وضعت على الموقد الخلفي في الوقت الحالي بسبب تصاعد تهديد “داعش”.
هذا التناغم بين الولايات المتحدة وإيران يقلق بشكل طبيعي المملكة العربية السعودية، القوة الإقليمية الرئيسية الثالثة التي تتمتع بالثروة والقدرة على تمويل ودعم الحركات السياسية في المنطقة. تَعتبر الرياض بأن طهران تشكل منافساً في الخليج العربي حيث يمكنها زعزعة إستقرار المملكة السعودية من طريق سكانها الشيعة المتمركزين في غالبيتهم في المنطقة الشرقية من المملكة. ويعتبر السعوديون أيضاً أن الولايات المتحدة هي الضامن النهائي لأمنهم القومي، على الرغم من أنهم قد أقدموا على إتخاذ مواقف والإقدام على أعمال عدة من دون العودة إلى واشنطن أو محاباتها منذ بداية “الربيع العربي”. وبسبب قلقها من إرتفاع الحرارة في علاقة إيران مع الولايات المتحدة، فقد أصبحت الرياض أيضاً أكثر إهتماماً وقلقاً جراء الإكتفاء الذاتي الأميركي في مجالات الطاقة والذي خفض بشكل كبير الأهمية السياسية للسعودية لدى الولايات المتحدة.
كانت هناك تكهنات بأن “الدولة الإسلامية” تموّله قوى عربية، ولكن سيكون من غير المنطقي بالنسبة إلى الرياض كي تقوم بتمويل هذه الجماعة الإرهابية. كلما كان تنظيم “داعش” أقوى فإن العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران تصبح أكثر ثباتاً وحرارة. لا يمكن لواشنطن العيش مع “الخلافة العابرة للحدود” التي قد تصبح يوما ما قوية إقليمياً. كلما إزداد تهديد “الدولة الإسلامية”، فإن إيران والولايات المتحدة بحاجة الى بعضهما، والذي يتناقض تماما مع مصالح الأمن السعودي. لذا تحتاج الرياض إلى زيادة التوترات بين واشنطن وطهران. وبغض النظر عن الدافع الديني أو الإيديولوجي، فإن تحالف أميركا مع الجمهورية الإسلامية يشكّل قوة ساحقة تهدد بقاء النظام السعودي. و”الدولة الإسلامية” ليس من مؤيدي العائلة المالكة السعودية ولا يحبها. إن “الخلافة” يمكن أن تتوسع في إتجاه المملكة العربية السعودية أيضاً، لقد رأينا نشاطاً شعبياً فعلياً يتعلق ب”الدولة الإسلامية” الذي جرى داخل المملكة. وقد إنخرطت الرياض في العراق، وتقوم حالياً بمحاولة تعزيز القوات السنية غير “الدولة الإسلامية” بسرعة، حيث تدفع هذه القوات واشنطن وطهران إلى الهدوء معاً.
مكانة أميركا المركزية الشرق الأوسط
من جهة واشنطن، أظهر تنظيم “الدولة الإسلامية” بأن فكرة إنسحاب الولايات المتحدة ببساطة وترك المنطقة هي غير واقعية. وفي الوقت عينه، فإن أميركا لن تشارك في الحرب المتعددة الأقسام في العراق. لقد فشلت واشنطن في تحقيق الإستقرار الموالي للولايات المتحدة هناك للمرة الأولى؛ فمن غير المحتمل أن تحقق ذلك هذه المرة. لا شك أن القوة الجوية الأميركية تؤدي دوراً لا يستهان به ضد “الدولة الإسلامية”، وهي رمز قوة أميركا ووجودها – وكذلك حدودها. إن إستراتيجية الولايات المتحدة لتشكيل تحالف ضد “الدولة الإسلامية” هي معقّدة للغاية، حيث أن الأتراك لا يريدون أن يتم زجهم في المعركة من دون تنازلات كبيرة، والإيرانيون يريدون خفض الضغط عن برامجهم النووية في مقابل مساعدتهم، والسعوديون على بيِّنة من المخاطر التي تمثّلها إيران.
اللافت هو التأثير الذي شكّله “الدولة الإسلامية” بالنسبة إلى العلاقات في المنطقة. لقد وضع ظهور المجموعة التكفيرية مرة أخرى الولايات المتحدة في مركز ووسط النظام الإقليمي، وأجبر القوى الكبرى الثلاث في الشرق الأوسط على إعادة تحديد علاقاتها مع واشنطن بطرق مختلفة. وقد أحيى أيضاً المخاوف الأعمق لتركيا وإيران والمملكة العربية السعودية. ترغب أنقرة في تجنب الإنجرار مرة أخرى إلى الكابوس العثماني السابق للسيطرة على العرب، في حين إضطرت إيران إلى إعادة تنظيم نفسها وعلاقاتها مع الولايات المتحدة لمقاومة صعود سنة العراق والمملكة العربية السعودية، كما كان الشاه يفعل في السابق. وفي الوقت عينه، رفع تنظيم “الدولة الإسلامية” مخاوف السعودية من تخلي الولايات المتحدة عنها لصالح إيران، ورهبة الولايات المتحدة من إعادة الإنخراط في العراق كانت حاضرة في تحديد كافة إجراءاتها.
في النهاية، من غير المحتمل أن يستطيع تنظيم “الدولة الإسلامية” الإقليمي الصمود والبقاء على قيد الحياة. والحقيقة هي أن تركيا والمملكة العربية السعودية تنتظر فقط تحرك الولايات المتحدة من أجل حل مشكلة “الدولة الإسلامية” من طريق القوة الجوية وعدد قليل من القوات البرية فيما إيران تحاول تقديم المساعدة المحدودة المباشرة للحكومة العراقية. وهذه الإجراءات لا تدمر “الدولة الإسلامية”، لكنها تكسر التماسك الإقليمي للمجموعة وتجبرها على العودة إلى تكتيكات حرب العصابات والإرهاب. في الواقع، هذا ما يحدث بالفعل. ولكن وجود هذه المجموعة بالذات، ولو كان مؤقتاً، قد فاجأ المنطقة ودفعها إلى الإدراك بأن الإفتراضات السابقة لم تأخذ في الإعتبار الحقائق الراهنة. إن أنقرة لن تكون قادرة على تجنب زيادة مشاركتها في النزاع؛ وسيكون على طهران التعايش مع الولايات المتحدة؛ والرياض سوف تضطر إلى النظر بجدية إلى نقاط ضعفها. أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإنه يمكنها ببساطة العودة إلى ديارها، حتى لو كانت المنطقة في حالة من الفوضى. ولكن البعض الآخر بالفعل هو في دياره، وهذه هي النقطة التي إستفاد منها تنظيم “الدولة الإسلامية” وجعلها واضحة تماماً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى