عندما لا تكون الحريَّة بريئة

بقلم إيلي صليبي*

لا مسلّمات في صخب الجدليَّة الفكرية، ومخاض أرحام التلاقح الذهني في بطون كتب الأنبياء والفلاسفة من أزمان الإغريق إلى عصر الحداثة.
وكلَّما أضيف إلى “سُلَّم القيَم” درجة إعتلتها مجتمعات، وإنتشت بمُناخها ومتَّنت وقوفها عليها. إعتبرتها مجتمعات أخرى تفلُّتاً وإستهتاراً بمكارم الأخلاق.
ويحضرني هنا قول “ميخائيل نعيمة”: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا. فما لا يحدُّه في مغارب الأرض “مقدَّسات” يجده أهل مغارب الأرض تدنيسًا وكفراً وتهتُّكاً. وما لا يحرِّك هناك جفنًا يوقظ هنا حفائظ وشوارع وزوابع. وما بلغه وبلغ به إنسان “العالم الأول” من إنقلاب على ما كان في قديم زمانه فضائل، يناهضه إنسان “العالم الثاني” متشبِّثاً بموروثات دينيَّة وتقاليد وعادات لا تنازل عنها.
لعلَّه من الظُّلم، أو الخطأ على الأقلّ، توصيف هذا المنتَج العصريِّ بـ”صراع الحضارات”، إلّا متى إنتقل الإختلاف من فوضى التخبّط في بلاد الناس الى حال أخير ما، وليس آخيراً، وإستقرَّ في أمان الشرائع والقوانين وإرتقى إلى ما يعتبره حضارة قائمة بذاتها… ومتى قابله شرقنا بحضارة مستقرة قائمة على شموليَّة وعقلانيَّة.
أيُّ قراءة للزلازل الشعبوية وتردُّداتها، لا تلامس هذا التناقض، وتستعجل الدمج بين “الزيت والماء”، تسعِّر حرارة الغليان، ويستثمرها ما أسمّيه: “الإستعمار من بعيد” في لعبة الأمم.
ولعلَّ موضوع “الحرية”، وقود حروبنا الصغيرة المستمرة حتى آخر نقطة نفط وغاز في برِّنا وبحرنا.
فالغرب حرٌّ في التمادي بالحرية والتماهي مع تداعياتها. أما الشرق فلا يبحث عن الحريَّة الشخصيَّة، إلّا في الحدود المعلّبة بكتبه المقدَّسة. أما الحريّات العامّة فمسألة يقرِّرها أصحاب العمائم البيضاء والجُبب السوداء بما يخدم الأنظمة والسلطات المدنيَّة والماليَّة.
هناك حريَّات مباحة وتستبيح كلَّ المحرَّمات، وهنا حريّات مقموعة بالحدِّ الأقصى، ومتململة بالحدِّ الأدنى.
ولكن حركة تصدير الحريَّة وإستيرادها متاحة بفضل وسائل التواصل غير القابل للضبط والإنضباط.
فما كان يعتمد “الحمام الزاجل” كأسرع وسيلة للرسائل، صار يعمِّم ما يشاء ولمن يشاء في المعدود القليل من الثواني، وفي المفتوح من الصفحات. “والتغريد” على المواقع مباح وهو أمضى سلاح.
وعليه،
ليست كلُّ حريَّة بريئة.
فالحرية لا تُحصر في التعبير بالكلام والرسم والتصرُّف. ولا في المعتقد والرأي. ولا الفعل وردة الفعل. بل هي من العمق أعمق من أعماق البحار، ومن السموِّ أسمى من حدود السماء. ولم يصل الغطّاسون إلى جواهر جوهرها بعد، ولا الفضائيون إلى شقِّ حجبها ولو بلغوا ضواحي الكواكب.
الحريَّة، كأنّي بها، حورية البحر التي يبحث عنها عشّاق جمالها، ويخشون إن اصطادوها خذلهم منها قبحها!

• كاتب وأديب وصحافي لبناني والمدير العام السابق للأخبار في المؤسسة اللبنانية للإرسال (أل بي سي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى