جميعنا بَيَارتة… ولادةً أَو انتماءً

هنري زغيب*

يقترب 4 آب/أُغسطس (نهار انفجار مرفإِ بيروت). يقترب حاملًا غضَبًا لا يقلُّ عصفُه عمَّا حدَث قبل عام. وإِذا كارثةُ الانفجار سبَّبَت تدميرًا أَپوكاليپتيًّا كأَنه “قيام الساعة”، فذكراه آتيةٌ غضَبًا مضاعَفًا على تدمير نفسي تسبِّبُهُ سلْطةٌ توتاليتارية بلغ إِنكارُها الجبانُ محاولةَ التهرُّب من المسؤُولية في عريضة فُجُورٍ نيابية تُنقذ معطِّلي مسار العدالة وفيهم المرتكب والمهمِل والمتغاضي عن الإِجرام. إِنما ستبقى بيروت أُمَّ الشرائع وستسطع فيها العدالة مُشرقةً على عيون أَهل الضحايا، وسينكشف مجرمون لا يستحقُّون شرف الانتماء إِلى لبنان.

يقترب 4 آب/أُغسطس، ذكرًى أُولى لزلزال خطف أَنقى أَبناء لبنان وما زال النَيرونيون الحقيرون مُتَطاوِسين في مرابعهم. لذا لن تكون ذكرًى سنويةً بل هي يومية لأَننا لن نغفر ولن ننسى.

في التاريخ أَنَّ زلازلَ عدَّةً ضربَت بيروت فانخسَفَت أَجزاءُ منها في البحر، لا نعرف خسائرَها لكننا نعرف خسائر زلزال العصر. مشهدُ المرفَإِ المحروقِ الفاجعُ أَقربُ إِلى الدمع الحافي منه إِلى البُكاء. لا كلامَ يَصف، لا تَفَجُّعَ تعبِّر. ليس دمارًا ما حصل. ليس رمادًا ما بقي. المرفأُ الذي كان بابًا إِلى المنطقة صار منطقة بلا باب. ومن المرفإِ إِلى واجهة المدينة: خَلْخَلَها العصْف كما أَرضٌ تشقَّقَت في هيولى نهاية الكون فكان ضحايا، وكان مصابون، وكان مشرَّدون، وكانت بُيُوتٌ لم تَعُد بُيُوتًا، وأَبنيةٌ لم يَعُد فيها بناء، وكان تراثٌ مزهوٌّ بأَلَقه من أَرجِ التاريخ ضَرَبَه التشَوُّه في حقْد وحشيّ.

ليس جديدًا ما نُوَصِّف. قيلَ فيه الكثير ولن نُعيد. يبقى أَن نفرض الإِرادة ونرفض الإِدارة: الإِرادةُ أَنَّ ما انفجر كان قلبَ المرفَإِ التاريخي لا قلب بيروت، والإِدارة خطأُ أَنَّ بيروت انفجَرَت. لم يبقَ قلمٌ ما ناح على بيروت وبكاها ورثاها وندَبها كأَنما انتهت أَو احترقَت  أَو… ماتت.

لا. أَبدًا. هذا مرفوض. بيروت لم تَمُت. انكسَر ضلْعٌ في صدرها لكنها لم تَمُتْ. ارتعدَ قلبُها لكنه لم يتوقَّف عن نبْض. تهشَّم بعضُ وجهها لكن جسدها لم يَتَجَثْمَنْ.

بيروت أَقوى من أَن تموت.    مرارًا في التاريخ انخسَفَت ثم نشبَت من قلب المياه حوريةً أَجمل. وهذه المرة أَيضًا، سيعود مرفأُها بعد حين، وتداوي بثُورًا في وجهها وأَثلامًا، ويعود وجهُها ووهجُها إِلى الأَناقة لأَنها مرصودة على الحياة.

لا تسقط مدينةٌ إِذا سقطت منها جدران وتهدَّمت بُيُوت. فكيف والمدينةُ بَيروت عروسُ المتوسط ولؤْلؤَةُ الشرق! أَبناؤُها هرعوا إِليها، وأَبناءُ كُلِّ لبنان لأَنها مدينةُ كُلِّ لبنان، لأَنها المدينةُ الأُم، والأُمُّ يهرع أَبناؤُها بفيض بُنُوَّةٍ إِليها من حيثما يكونون.

هكذا هي بيروتُ، بيروتُ الأُم، بيروتُ الخالدة، بيروت عاصمةُ الجمال، ابنةُ الحياة التي لا تنطفئُ فيها الحياةُ من الفجر إِلى الفجر. جميعُنا بَيَارتة، إِنْ ليس بالولادة فبالانتماءِ، والانتماءُ شرطُ الكيان. ويا تعسَ مَن لا ينتمي إِلى عاصمته كَينونيًا وكِيانًا. فكيف والعاصمةُ هي بيروت الحبيبةُ بالذات؟

وسوف تعود. لا إِلى الحياةِ فالحياةُ فيها لم تتوقَّف، بل إِلى الأَلَق لأَن الأَلَق فيها انجرَح والجرحُ يندمل لأَن البلسم نُسْغٌ حيٌّ في شرايين أَهلها وسكَّانها. لأَن كلَّ لبناني يحمل في دقَّات قلبه نبْض بيروت.

وكما النجومُ يحجُبها غيم عابر وتعود لأْلأَتُها بعد عبور الغيم، هكذا سيَعبُر الغيمُ الأَسود من قُبَّة الجَلَد، ونُعود فنَنعَمُ بسعادة الهناءة، وبأَن تحرُسَنا بحُبِّها الكبيرِ نجمةُ بيروت.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في جريدة “النهار” – بيروت.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى