لماذا تتعجّل موسكو تسوية في سوريا؟

محمد قوّاص*

في ما عدا مشروع مرور غاز وكهرباء مصر والأردن نحو لبنان من طريق سوريا، لم يصدر عن النظام السياسي العربي عامةً إلّا أعراض تجريبية مُرتَجلة لا يمكن الركون إليها لتسجيل تبدّلٍ نوعي في الموقف الرسمي من نظام دمشق. تحت سقف هذه المبادرة “الكهربائية” التي نالت غضّ طرف أميركي مُلتَبِس حماها من مخالب قانون قيصر، تمّ إجتماعُ أطرافِ تلك الورشة في عمّان، وتمّت زيارة وفد لبناني وزاري لدمشق. ومع ذلك فإن من الخطأ تهميش الحدث والتقليل من تداعياته على مآلات الشأن السوري.
أفصحُ المواقف وأكثرها وضوحاً هي تلك الصادرة عن الأردن. تحدّثت المعلومات عن مرافعات ألقاها العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني لدى مستقبليه في البيت الأبيض ودوائر الكونغرس في تموز (يوليو) الماضي. دعا إلى تموضعٍ جديد في مقاربة الأزمة السورية، من خلال التخفيف من حال القطيعة الدولية مع نظام بشار الأسد. والأرجح أن واشنطن أنصتت للملك وتجاوبت مع نصائحه من خلال بوابة المأزق في لبنان.
مدخل المقاربة الأميركية المُتحوّلة حيال دمشق أعلنته سفيرة واشنطن لدى بيروت دوررثي شيا. “بشّرت” بمشروع استجرار غاز مصر وكهرباء الأردن عبر سوريا. بدا أن “العذر” اللبناني وفّر المناسبة لإعراب الولايات المتحدة عن بدايات خجولة للتعرّض لـ”قيصر” وتقليم أظافره إذا ما كانت مصالح ما تتطلب ذلك. ومع ذلك فإن الأمر ما زال قيد الدرس في واشنطن.
إلتقطت موسكو الانعطافة الأميركية باعتبارها رسالة على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن ينهل من ندرتها. تمت زيارة بشار الأسد لموسكو في 13 أيلول (سبتمبر) وفق هذا السياق. إكتفى بوتين بلقاء قصير متلفز بعث به رسائل التبرّم من “الوجود الأجنبي” في سوريا، وهي رسائل، وإن كانت تُلمّح إلى ذلك الأميركي، إلّا أن وجهتها الأساسية صوب تركيا. أتت زيارة الأسد على خلفية التطور الذي أعاد، تحت إشراف موسكو، سيطرة النظام على درعا في الجنوب، وعلى خلفية تصعيد بعد ذلك في إدلب شمال غربي سوريا شاركت به مقاتلات روسية (على منطقة عفرين) عشية زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان موسكو.
تتواطأ روسيا والولايات المتحدة في توفير الظروف المواتية لتحسين شروط الخروج بتسوية ما في سوريا. مفاوضات فيينا النووية المُتعثّرة، كما تَعَقُّد علاقات أردوغان وبايدن وانحدارها إلى مستوى سيئ، عوامل تحمل تركيا وإيران على الإصغاء الى روسيا، لا سيما في ما ترسمه بشأن سوريا. حتى أن هناك من رأى في عدم لقاء بايدن وأردوغان في نيويورك أخيراً إضعافاً مقصوداً للأخير في محادثاته مع بوتين في سوتشي. والحال أن قمة بوتين – أردوغان تشكّل مؤشراً الى قدرة موسكو على إقناع أنقرة في أن تكون شريكاً في ما يُمكن أن تُرتّبه لسوريا، خصوصاً أن أردوغان اعتبر أخيراً أن نظام دمشق خطر على بلاده. والظاهر أن تبادل التحديات العسكرية الخطيرة بين الطرفين ميدانياً في شمال سوريا قد يُعقّد أيّ تفاهمات في الأجل العاجل.
وفيما يتسرّب من موسكو ما يشي بهمّة نوعية لإحداث دينامية سياسية في سوريا، تعمل دوائر أكاديمية روسية على نفخِ غبارٍ حولها. تكثر الجلبة عن توافق دولي على إنشاء مجلس عسكري، وتطل همهمة عن توليفة حكم في دمشق تعمل عليها موسكو. وداخل ذلك الضجيج ضمانات روسية ببقاء الأسد في منصبه وفق صلاحيات يجري تحديدها في دستورٍ جديد تعمل موسكو على إعادة تنشيط المفاوضات حوله. وغداة الزيارة استجابت دمشق لطلب موسكو إعادة تفعيل عمل اللجنة الدستورية في تشرين الأول (أكتوبر).
تحدث بعض الأخبار عن إحباطٍ أصاب وفد المعارضة السورية (برئاسة رئيس الائتلاف الوطني السوري سالم المسلط) -الذي حضر أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك- من برودة سلبية في الموقف الأميركي وغياب سياسة معادية لبقاء نظام الأسد. وتحدّثت أنباءٌ أخرى عن أن وفد “الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا” الذي زار واشنطن (برئاسة الرئيس المشارك للمجلس التنفيذي لمجلس سوريا الديموقراطية إلهام أحمد) بعد أيامٍ على زيارته موسكو في 16 أيلول (سبتمبر)، سمع من المسؤولين الأميركيين تأكيد استمرار الحضور والدعم الأميركيين شمال سوريا وشرقها ونصائح تدعو الأكراد الى مزيد من التنسيق مع موسكو، ما يشي بأن روسيا ما زالت مرجع الحل في سوريا لإنتاج تخريجة لن تأتي على مزاج أطراف الصراع في سوريا.
وفق ذلك المعطى، وبعد أسابيع من عودة العاهل الأردني من زيارتيه لواشنطن وموسكو، أعادت عمّان فتح حدود الأردن البرية مع سوريا، وعادت وتريّثت في تسيير رحلات جوية نحو دمشق (بعد صدور تحفّظ أميركي)، واستقبلت وفداً وزارياً سورياً. والواضح أن الأردن يسعى لاستعادة دورٍ أساسي في ما يُدبَّر لسوريا، وأن ملاقاة مصر الأردن في ملف كهرباء لبنان سيكون مقدمة لتبدّلٍ مُحتمل لمواقف دول عربية أخرى من مسألة العلاقة مع دمشق (لقاء وزير خارجية سوريا مع نظراءٍ عرب في نيويورك مؤشر إلى هذا الاتجاه). ومع ذلك فإن أي انزياح عربي – غربي في هذا الصدد رهن بما يمكن أن يُنجزه العرّاب الروسي في مداولاته مع أطراف الداخل كما في قدرته على تدوير الزوايا الحادة مع تركيا وإيران وإسرائيل.
تودّ موسكو أن يتطوّر مشروعها السوري وأن يحظى برعاية دولية واضحة المعالم. ينقل موقع “أكسيوس” الأميركي عن مسؤولين إسرائيلين أن روسيا اقترحت على إسرائيل اجتماعاً ثلاثياً يجمعهما مع الولايات المتحدة للتداول في شأن سوريا. ويكشف أيضاً أن مُنسّقَ البيت الأبيض للسياسة في الشرق الأوسط بريت ماكغورك عقد قبل أسابيع في جنيف، بطلب من الجانب الروسي، اجتماعاً مع نائب وزير الخارجية الروسية سيرغي فيرشينين، والمبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرينتييف. وكانت مصادر أميركية كشفت أن ماكغورك هو مَن أقنعَ القاهرة بمدّ خط الغاز إلى لبنان وهو الذي يُشدّد على تطبيق اتفاق 2018 المُتعلّق بجنوب سوريا (بعد تطورات درعا).
ولئن يهتم الطرفان الإسرائيلي والأميركي بمعرفة مصير الوجود الإيراني في سوريا المستقبل، فإن تَوقَ موسكو إلى لقاءٍ ثلاثي (ستتم مناقشته أثناء زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت المقبلة لروسيا) يهدف إلى جعل المسألة الإيرانية في سوريا علنية، تحظى بأبعاد دولية ولها امتدادات داخل المنطقة العربية.
يمنح الأمر روسيا أوراقاً إضافية في مداولاتها مع طهران حول ما يتعلق بالتسوية السورية العتيدة. تعرف موسكو أنه ما زال عسيراً تسويق الأسد ونظامه لدى المجتمع الغربي، وأنها تحتاج إلى شراكة إسرائيل في إعادة تعويم نظام دمشق على قاعدة الضمان الكامل لمصالح إسرائيل واستمرار غض الطرف عن ضرباتها ضد “الأخطار” في سوريا. لكن حتى هذه الوصفة باتت مُتقادِمة ولم تعد شرطاً كافياً لإقناع المجتمع الغربي بها من دون العبور إلى تسويةٍ سياسية حقيقية وفاعلة وفق القرار الأممي 2254 تكون المعارضة جُزءاً وازناً داخلها. أمرٌ لم تَلحَظ واشنطن حتى الآن أن موسكو نجحت في توفيره.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: (@mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره على موقع “النهار العربي” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى