“حزب الله” في زمن التغيّرات

الإنتفاضات العربية، وردود الفعل السلطوية عليها، إضافة إلى سلسلة الحروب الأهلية وإنهيار الدول المرافق لذلك، قد هزّت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأصابتها في الصميم، الأمر الذي أدّى إلى إنهيار تحالفات قديمة وبداية أخرى جديدة.
حالياً، تبدو الطائفية أكثر بروزاً من مظالم طال أمدها مثل الصراع العربي – الإسرائيلي، وباتت الجهات الفاعلة من غير الدول (التنظيمات المسلحة)، مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” و”جبهة النصرة”، تشكّل وتحدّد جزءاً كبيراً من جدول أعمال المنطقة.
من ناحية أخرى، تهزّ الخضّات الإقليمية لبنان دائماً بشكل قاسٍ للغاية، وأحدث الكوارث ليست إستثناءً. إن قوس الأزمات الممتدّ من ليبيا إلى العراق يبدو واضحاً بالنسبة إلى “حزب الله” اللبناني، الحركة الأقوى، والأكثر تعقيداً في بلاد الأرز. لقد إعتمد هذا الحزب الشيعي على مدى فترة طويلة على ثلاث ركائز: معارضته لإسرائيل وقوة “ميليشياته”؛ علاقاته مع جهات راعية أجنبية: إيران وسوريا؛ وموقفه القوي سياسياً وإجتماعياً داخل لبنان. وأدّى هذا المزيج الناتج من السلطة والمال والأداء إلى تمكين “حزب الله” من العمل مع مجتمعات خارج قاعدته الشيعية، الأمر الذي جعله الحزب المهيمن في لبنان، ورسّخ نفسه كلاعب إقليمي مهم.
كل هذه الأمور تمرّ حالياً في حالة تغيّر مستمر. فالصراع السوري قد حوّل “حزب الله” وغيّر موقعه. إن الحركة التي إدّعت طويلاً تجاوزها للطائفية هي الآن أطول عمود في “خيمة” النظام السوري، وأصبحت “بعبع” الطائفة السنية في المنطقة. في الوقت عينه، أدّى تورّط “حزب الله” العميق في الأزمة السورية إلى ضرر كبير في موقفه ووضعه ومكانته في لبنان، بل وأدّى إلى تساؤلات داخل قاعدته الشيعية. وفي حين أن الصراع مع إسرائيل لا يزال يشكّل محوراً خطابياً، فإنه قد تلاشى ووُضِع في المقعد الخلفي.
إن مسألة مستقبل “حزب الله” هي مفتاح لإستقرار لبنان والمنطقة. والحرب الأهلية قد تشتعل في بلد الأرز إذا إستمرت الطائفية في النمو وتوسّعت الحرب السورية بكثافة أكبر. وقد ثبت أن دور “حزب الله” كان حيوياً لبقاء نظام بشار الأسد وغيّر أيضاً في طبيعة المعارضة السورية، حيث شكّل حافزاً لتمكين الجهاديين الذين يعتمدون على الطائفية في معارضتهم والذين يرون أن الحزب الشيعي هو عدوهم الأساسي. من جهتها تعتبر إسرائيل منذ فترة طويلة “حزب الله” الجار الأكثر خطورة، وإنخفاض قدرته على شن حرب ضدها هو أمر تسعى إليه الدولة العبرية منذ مدة. من جهة أخرى وجدت الولايات المتحدة نفسها منحازة بصعوبة إلى “حزب الله” في النضال ضد “الدولة الإسلامية”، ولكن هذا التقارب الذي فرضه الواقع يمكن أن يتغيّر بسهولة ومن دون سابق إنذار.
التقرير التالي يناقش ويحلّل كيفية سباحة “حزب الله” في المياه المضطربة في الشرق الأوسط، والآثار المترتبة عن النهج الجديد.

حرب 2006: رفعت أسهم الحزب في لبنان والعالم العربي
حرب 2006: رفعت أسهم الحزب في لبنان والعالم العربي

بيروت – رئيف عمرو

أُعلن عن وفاة “حزب الله” مرات عدة منذ إنشائه في أوائل ثمانينات القرن الفائت، لكنه مع ذلك إستطاع البقاء والصمود وتمكّن من النجاة من تحدّيات عديدة: ثلاثة صراعات عسكرية عالية الكثافة مع إسرائيل في الأعوام 1993، و1996، و 2006؛ وإغتيال تل أبيب لعدد من قادته الأساسيين، بمن فيهم الشيخ راغب حرب في العام 1984، وعباس الموسوي في العام 1992، وعماد مغنية في العام 2008؛ ورحيل السوريين من لبنان في العام 2005؛ وحرب مستمرة مع وكالات الإستخبارات ومكافحة التجسس في إسرائيل؛ وأزمات سياسية مختلفة في بيروت؛ والمحكمة الدولية التي تحقّق في مقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في شباط (فبراير) 2005 التي إتهمت رسمياً أربعة أعضاء من “حزب الله” بإغتياله.
إن كيفية نجاة “حزب الله” من كل هذه العواصف يمكن أن تُعزى إلى عدد من العوامل الداخلية والخارجية، بما في ذلك القيادة والتماسك التنظيمي، والإنضباط والعنف السياسي، والتكتيكات والتدريب المتفوِّق، وبطبيعة الحال، المساعدة الإيرانية والسورية. ولكن كل هذه الأمور تُعتبر قليلة وغير كافيةٍ للحزب ولا تعوِّض الدعم الذي يتلقّاه من جمهوره الشيعي. على عكس العديد من الجهات الفاعلة الأخرى من غير الدول (التنظيمات المسلحة) في المنطقة، فإن لدى “حزب الله” قاعدة محلية داعمة يوليها إهتماماً عميقاً، كما تُبدي هي الأخرى إهتماماً مماثلاً به أيضاً. وقد وضع الحزب أولوية قصوى في “زراعة” علاقات جيّدة مع الشيعة اللبنانيين، وهو يعلم جيداً بأن مثل هذه العلاقات ستكون بمثابة الخطوط الأولى والأخيرة للدفاع.
مع ذلك، ربما أكثر من أي وقت آخر في تاريخ “حزب الله”، تبدو هذه العلاقة الخاصة تحت الضغط. من خلال تدخّله في سوريا لمساعدة الرئيس بشار الأسد، وضع الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله حركته على مسار تصادمي مع السنة -المعتدلين والمتطرفين على حد سواء– في سوريا ولبنان، وأماكن أخرى في المنطقة. إن هذا الإجراء هو مخاطرة كبيرة ل”حزب الله” وجمهوره بسبب التركيبة السكانية الإقليمية التي عملت دائماً ضد الشيعة. وحتى أن أشد أنصار الحزب من الشيعة اللبنانيين يفضّلون السلام مع اخوانهم السنة في لبنان – والمنطقة – على الصراع.
لا بدّ أن يتساءل نصر الله في إحدى اللحظات عمّا إذا كان نهجه في الحرب الأهلية في سوريا قد جاء بنتائج عكسية. لم يستطع المتطرفون السنة فقط، على الرغم من التقدم العسكري ل”حزب الله” في سوريا، من الوصول الى عمق مجال نفوذ الحزب الشيعي والعيث فيه تخريباً وقتلاً، بل الأهم من ذلك، يمكن لهؤلاء المتطرفين أنفسهم، الذين كان يأمل نصر الله محاربتهم خارج لبنان، أن يحوّلوا بلد الأرز إلى عراق آخر، البلد الذي يحدّده العنف الطائفي بين السنة والشيعة. في هذا السيناريو المحتمل، سيكون “حزب الله” الخاسر الأكبر، لأن حرباً أهلية لبنانية أخرى ستكون إلهاءً كبيراً له عن النضال العسكري ضد إسرائيل.
لكن لا ينبغي المبالغة حول التوترات الظاهرة داخل معسكر “حزب الله”. إن مشاعر الشيعة في لبنان لا تزال موالية له، على الرغم من أن بعضاً في المجتمع يتساءل: لماذا يُجازِف الحزب بكل شيء ويقف مع نظام سوري غير مستقر وقاتل؟ الواقع إن الأمر سيستغرق وقتاً طويلاً لزيادة وتكوين معارضة شيعية مؤثّرة غير راضية تستطيع زعزعة قبضة “حزب الله” على المجتمع الشيعي.
بعد كل شيء، فإن الحزب يرعى هذه العلاقة منذ العام 1982، موفّراً للشيعة اللبنانيين الحاجات الإجتماعية، والصوت السياسي، والأمن، والشعور بالتمكين. كما أنه ليست هناك حركة منافسة قوية له. ولعلّ الأهم، إن ذبح الأقليات من قبل تنظيم “الدولة الإسلامية” وخطابه المعادي للشيعة والمتعطّش للدماء ولّد شعوراً بأن “حزب الله” ليس لديه خيار سوى مساعدة الأسد – إنه واقع يتمثّل بأن تقوم بالقتل أو تتعرّض للقتل (أي أن تكون قاتلاً أم مقتولاً). إن الأمر لا يعني بأن “حزب الله” صار أكثر شعبية؛ بل أن الشيعة اللبنانيين والمجتمعات الأخرى صاروا أكثر يأساً. ولكن مع كل قنبلة تنفجر في معقله (الضاحية الجنوبية لبيروت)– ومع كل خسارة في الأرواح من الشيعة لا تنتج من الصراع مع إسرائيل، فإن محافظة الحزب على دعم قاعدته الشعبية قد تضعف.
من ناحية أخرى، يُمكن لعلاقات “حزب الله” مع حركة “أمل” الشيعية و”التيار الوطني الحر” المسيحي أن تعاني نتيجة لتدهور الأوضاع الأمنية في سوريا ولبنان، والإنهيار المحتمل للنظام السوري. ومن المرجح أن تقف “أمل” إلى جانب “حزب الله” نظراً إلى عدم وجود بديل أمني حقيقي، لكن “التيار الوطني الحر” قد يعيد النظر في تحالفه مع الحزب الشيعي نظراً إلى إختلاف قيمهما ونظمهما العقائدية. ومع ذلك، فمن الممكن أيضاً أن يعزّز الكثيرون من المسيحيين، بما في ذلك أنصار “التيار الوطني الحر”، علاقاتهم مع “حزب الله” لأنهم يرون فيه على أنه حامٍ جدي ذي مصداقية ضد المتطرفين السنة، إن لم يكن الوحيد، نظراً إلى الضعف النسبي للجيش اللبناني. في كل الأحوال من الصعب أن نرى زعيم “التيار الوطني الحر” العماد ميشال عون ينسحب من صفوف “حزب الله” في وقت يحتاج إلى الحزب وإنعدام الأمن، إلا إذا عُرِضت عليه حوافز سياسية وأمنية كبيرة من المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي الأخرى.
كل هذا يفترض أن الزوال التدريجي أو الكامل لنظام الأسد أمر لا مفر منه، وليس من المرجح له أن يصمد طويلاً ويبقى على قيد الحياة. ولكن، على الرغم من أن الأسد قد لا يكون قادراً على حكم كل سوريا، فإن سيطرته على المدن الكبرى، بما في ذلك قاعدة نظامه في دمشق، آخذة في الإزدياد. والجمود إلى أجل غير مسمّى مكلفٌ ل”حزب الله” لأنه لا يحل مشكلة إمتداد وتمدّد الأزمة السورية، ويطيل التوترات السياسية في بيروت، ويُبقي أنصار الحزب من الشيعة واللبنانيين الآخرين في خطر من هجوم المتطرفين السنة — ولكن هذا لن يُجبر أيضاً “حزب الله” وإيران على إتّخاذ قرارات جذرية وتنازلات صعبة.

دورٌ إقليمي أوسع؟

لولا الدعم المستمر من طهران و”دمشق –الأسد” لما كان بإستطاعة “حزب الله” الوصول إلى تبوء المكانة التي وصل إليها، ولما كان قادراً على الهيمنة على السياسة اللبنانية، وبناء دولة داخل الدولة، وأن يصبح قوة إقليمية هائلة. ولكن العلاقات عينها التي حوّلت “حزب الله” وزاادت من قوته على مدى سنوات عدة طويلة قد تطلّبت أيضاً تكاليف كبيرة من المنظمة الشيعية في الأرواح والموارد والسمعة والمكانة السياسية في لبنان والمنطقة. إن التدخل العسكري للحزب في سوريا هو مثال واضح على كيف أن روابطه الإستراتيجية مع سوريا وإيران والتي خدمته جيداً على مرّ السنين، يُمكن أيضاً أن تكون عبئاً كبيراً عليه. الواقع إن النزاع السوري يشكّل بالنسبة إلى “حزب الله” أكبر تحدٍّ يواجهه منذ تأسيسه.
لقد دعا “حزب الله” في البداية إلى إيجاد حل سلمي للأزمة، ولكن فيما كان النضال الشعبي يتعسكر دخلت عناصر قتالية سنية متطرفة المعمعة -جزئياً نتيجة لتكتيكات وحشية نظام الأسد— فلم يعد بمقدور الحزب أن يبقى متفرّجاً. إذا سقط نظام الأسد، فإن “حزب الله” سيخسر داعماً أساسياً من بلد لعب تاريخياً دوراً مهيمناً في السياسة اللبنانية. والأهم من ذلك، إن سوريا هي الحليف الأقرب لإيران، وكانت طهران تدعو “حزب الله” ووكلاء وحلفاء آخرين لها لرص الصفوف حول نظام الأسد.
إذا سقط نظام البعث في سوريا، من المرجح أن يفقد “حزب الله” طريق عبور ومنشأة لتخزين الأسلحة من طهران ودمشق. وتحسّباً لأي إنهيار للنظام السوري، أو تدهور سريع للأوضاع الأمنية في بلاد الشام، أفادت تقارير بأن الحزب الشيعي قام بنقل مئات الصواريخ من مواقع التخزين في سوريا الى قواعد في شرق لبنان. إن الخسارة المحتملة لمركز التموين وخط الإمداد من سوريا سيضع “حزب الله” في وضع حرج غير مؤات في حالة نشوب نزاع آخر مع إسرائيل. في حرب 2006 التي خاضها مع الدولة العبرية، إستفاد الحزب الشيعي من طريق العبور الإستراتيجي عبر بلاد الشام، والذي سمح له تجديد وتعويض إمدادات أسلحته بسرعة؛ وبالتالي، فإن فقدان الدعم السوري قد يُجبر “حزب الله” على التمسك بالأسلحة الإستراتيجية التي في حوزته إذا لم يستطع الحصول على غيرها وإستبدالها بسهولة. وما لم يتمكّن “حزب الله” وإيران من بناء قدرات مشابهة في مكان آخر، فإن الحزب على الأرجح سيواجه تحديات وصعوبات لإعادة تموين صواريخه وقذائفه على المدى القريب.
ولكن لو عُزِل الأسد وترك منصبه –أو حتى لو نما خصومه الجهاديون وصاروا أقوى، كما يحدث في الوقت الراهن— فإن أخطر تهديد بالنسبة إلى “حزب الله” (ولبنان ككل) سوف يكمن في كيفية تعامله ومواجهته الوشيكة مع التطرف السني. إن المتشدّدين السلفيين السنّة لن يستقرّوا ويقنعوا بالسيطرة على سوريا، لكنهم سيسعون أيضاً إلى التوسع إلى لبنان (وربما الأردن) للوفاء بأهدافهم الإيديولوجية وملاحقة “حزب الله” ومؤيديه الشيعة. خلال العام 2013، هاجم الجهاديون السنة مصالح الشيعة في لبنان في مناسبات متعدّدة (تفجير السفارة الإيرانية في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، كان الأكثر دموية والأكثر إثارة، مما أسفر عن مقتل ثلاثة وعشرين شخصاً وإصابة عشرات آخرين). من جهته أظهر “حزب الله”، بمساعدة من الجيش اللبناني، مرونة وتمكّن حالياً من إحتواء التهديد بقتاله المسلحين المتطرفين السنة (“داعش” و”جبهة النصرة”) ومواجهتهم عبر الحدود السورية – اللبنانية وفي مناطق مختلفة في شمال لبنان، وإجبار العديد منهم على التراجع إلى بلاد الشام. ولكن المعركة لم تزل في بداياتها ولم تنتهِ بعد.
إن “حزب الله” ليس غافلاً عن المخاطر والتكاليف للتدخل العسكري في سوريا. لقد حسبت قيادته أنه طالما مال ميزان القوى لصالح قوات الأسد، والحدود السورية – اللبنانية آمنة إلى حد كبير، فإن تكاليف الإنحياز إلى النظام البعثي تبقى مقبولة. ولكن، إذا تفاقم الوضع بشكل كبير في بلاد الشام، مع تحوّل المعارضة السورية إلى جماعات أفضل تسليحاً وتنظيماً، ونأي الدول الحليفة للأسد – في المقام الأول إيران وروسيا– بأنفسها عن دمشق، فإن تكاليف الدعم لنظام ينهار ستكون أعلى من ذلك بكثير بالنسبة إلى الحزب. لذلك، فمن الممكن ان تعيد الحركة الشيعية النظر في سياستها للدفاع عن جوهر مصالحها — حماية إمدادات السلاح، والحفاظ على موقف رادع عسكري وجهاً لوجه ضد إسرائيل، ومساعدة إيران إذا تعرّضت إلى هجوم.
على الرغم من مصير الأسد وماذا سيحلّ بنظامه، من المرجح أن تبقى علاقات “حزب الله” مع إيران سليمة وجيّدة، حيث من المتوقع أن تضطر إلى التكيُّف مع البيئة المتغيّرة.
وخلافاً لعلاقته البراغماتية مع سوريا، تستند شراكة “حزب الله” العضوية مع إيران على الثقة العميقة والمصالح المشتركة. من جهته يبحث “حزب الله” عن التوجيه الإيديولوجي والإستراتيجي من المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي الذي يأمر بدوره مؤسسات المخابرات في نظامه ووحدات النخبة العسكرية للعمل بشكل وثيق مع الحزب الشيعي اللبناني.
وقد إكتسب “حزب الله” مزيداً من الحكم الذاتي من إيران منذ ثمانينات القرن الفائت، وربما يُعتبر حالياً شريكاً أكثر من وكيل أو تابع، لكن الحزب لا يزال يعتمد على التدريب والأسلحة والتمويل من طهران.
في حين أن الرقم الإجمالي غير معروف، فمن المرجح أن الحزب يتلقى ما بين 100 مليون و200 دولار سنوياً من إيران –وهذا الرقم كثيراً ما يرتفع في أوقات الحاجة. إن المصلحة المشتركة لهاتين الجهتين تضمن أن هذه العلاقة سوف تصمد وتبقى على قيد الحياة في شكل ما، بغض النظر عن نتائج الأحداث في سوريا.
مع ذلك، فإن كيفية إستجابة ورد فعل النظام الإيراني على الإنهيار المحتمل لحليفه السوري سوف تؤثّر بشكل مباشر في مستقبل “حزب الله”. وقد تدعو إيران الحزب إلى مواصلة القتال في سوريا في محاولة للحفاظ على طرق الإمداد وخلق حلفاء جدد.
من الممكن أن يرى “حزب الله” نفسه أيضاً يضطلع بدور إقليمي أكبر لخدمة المصالح الإيرانية، للتعويض عن خسارة سوريا (العراق هو مكان واضح حيث يمكنه التحرك نظراً إلى الروابط القائمة بين “حزب الله”منذ فترة طويلة والجماعات الشيعية هناك ومصالح إيران القوية في بلاد الرافدين). ولكن كل هذا من شأنه أن يؤدي إلى مخاطر عالية جرّاء التمدّد، الذي يمكن أن يُضعف الحزب الشيعي بشدة في لبنان. ليس فقط سوف يكون على “حزب الله” حماية نفسه ضد بيئة أكثر عدائية بكثير في سوريا، ولكن سيكون أيضاً بحاجة إلى وقاية محتملة من الجهات الفاعلة السياسية المحلية الإنتهازية التي يمكنها إستغلال ضعفه النسبي. وبينما يقدّم “حزب الله” العديد من الفوائد لإيران، بما في ذلك الولاء للإيديولوجية الثورية ونشر السلطة الشيعية في الأراضي العربية، فإن أكبر قيمة له تتمثل في ترسانته العسكرية، التي يمكن إستخدامها في حال شنّت إسرائيل حرباً ضد إيران.

تطوّر القوة العسكرية والإستراتيجية

صنع “حزب الله” حروباً والحروب صنعته. في صراع بعد آخر، أثبتت المنظمة الشيعية براعتها وأظهرت نفسها على أنها أعلى مستوى من الجماعات المسلحة الشرق الأوسطية الأخرى – وحتى بعض جيوش الدول العربية. من العام 1985 إلى العام 2000، إشتبكت قوات “حزب الله” مع الجيش الإسرائيلي في المنطقة الأمنية على طول الحدود اللبنانية -الإسرائيلية، حيث ألحقت بقواته إصابات بشكل مستمر الأمر الذي أدّى في نهاية المطاف إلى إنسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، وكانت المرة الأولى التي تهزم أسلحةٌ عربية أسلحةً إسرائيلية. وقد أطلق “حزب الله” صواريخ على الدولة العبرية أيضاً، وفيما تنوّعت وتوسّعت أنظمة أسلحته، كذلك توسّع قلق القادة الإسرائيليين. في العام 2006، خاضت تل أبيب حرباً ضد “حزب الله” لأكثر من شهر، حيث قتل الحزب الشيعي أكثر من مئة وستين من الجنود الإسرائيليين – وهذه خسائر ثقيلة بالنسبة إلى الدولة اليهودية الصغيرة والحساسة من الإصابات. خلال المعركة، أثبت “حزب الله” قوته العسكرية، بنصبه كمائن للقوات المدرّعة الإسرائيلية والإحتفاظ بوابل من الصواريخ في مواجهة الغارات الجوية والتوغل البري الإسرائيليين. وقد أشار ضابط إسرائيلي، إلى أن “[قوات “حزب الله”] هي جيش إسرائيلي مصغّر. يمكنها أن تفعل كل شيء يمكن أن نفعله نحن”. وقد إرتفعت شعبية “حزب الله” في أعقاب تلك الحرب، مع إحتلال زعيمه حسن نصر الله، لفترة وجيزة، الرجل الاكثر إثارة للإعجاب في العالم العربي.
بعد حرب 2006 وحتى إندلاع الصراع السوري، ركّز “حزب الله” عسكرياً على إسرائيل، إذ أن كلا الجانبين كان يخشى من إندلاع حرب أخرى. من جهتها ساعدت إيران في إعادة تسليح “حزب الله”، جاعلةً منه قوة هائلة أكثر من ذي قبل ومجدِّدة (ومحسِّنة) ترسانته الصاروخية. كما بنى الحزب بدوره في معسكرات التدريب التابعة له نماذج من الشوارع الإسرائيلية حيث أعدّ قواته إستعداداً لمواجهة مع إسرائيل. ويحافظ الحزب أيضاً على شبكة واسعة من الأنفاق لإخفاء قواته وقاذفات الصواريخ وكذلك لإجراء إتصالات آمنة، كل ذلك في إطار التحضير لمواجهة أي هجوم إسرائيلي. لدى “حزب الله”، حسب مصادر مخابراتية، ما يقرب من عشرين ألف رجل تحت السلاح، منهم خمسة آلاف من المقاتلين النخبة. ويمكن للحزب دعوة آلاف آخرين في فترة قصيرة؛ لكنه إحتفظ عمداً بحجم محدود من القوات لضمان مستوى عال من التدريب والإلتزام.
بدأ “حزب الله” تدخله العسكري في سوريا في العام 2012. وإقتصر الأمر في البداية على عمليات محدودة، ولكن اليأس المتزايد الذي أصاب نظام الأسد أجبر الحزب على تصعيد مشاركته وتبرير دوره. وقد أصيبت المنظمة الشيعية بخسائر فادحة، وربما سبعمئة قتيل ، حسب بعض التقارير، وغيرهم الكثير من الجرحى. كما أن عدداً من القادة المخضرمين كانوا في عداد الضحايا.
وتفيد المعلومات أن ما يقرب من خمسة آلاف مقاتل من “حزب الله” يقاتلون في وقت واحد في بلاد الشام، لكن المنظمة تدوِّر بإنتظام وتغيٍّر قواتها لنشر العبء بالتساوي. ومع ذلك، للحفاظ على العدد مرتفع، فإن الحزب ينشر مجنّدين صغاراً أقل تدريباً. لقد غيّر “حزب الله” أيضاً تكتيكاته. في معارك حول وفي بلدة القصير السورية في العام 2013، تكبّد الحزب الشيعي خسائر فادحة فيما كانت قواته تقوم بهجوم مباشر على مواقع المتمردين السوريين المتمترسين في حفر عميقة. في العمليات اللاحقة في منطقة القلمون الجبلية، مع ذلك، تقدمت قواته ببطء، وحتى سمحت لبعض المتمرّدين بالهروب، من أجل تقليل سقوط المزيد من الضحايا.
بالنسبة إلى “حزب الله” فإن التحدي العسكري في سوريا أصعب مما واجهه ويواجهه في لبنان.
على النقيض من جنوب لبنان، فإن قوات الحزب ليست لديها معرفة وثيقة بالتضاريس السورية. بالإضافة إلى ذلك، يجب عليها أن تتعاون مع قوات سورية نظامية وغير نظامية وميليشيات عراقية، بدلاً من الإعتماد فقط على مقاتليها.
يعمل الحزب في كثير من الأحيان على مستوى فصيلة وحتى كتيبة في سوريا، مستخدماً تشكيلات أكبر بكثير مما كان يستخدم عادة في لبنان عندما شنَّ حرب عصابات ضد إسرائيل. ومع تقدم مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق، فإن ميليشيات شيعية عراقية عدة التي تقوم بمساعدة نظام الأسد ذهبت إلى وطنها للقتال، الأمر الذي زاد العبء على الحزب الشيعي اللبناني.
وجرّاء دوره الثقيل والعميق في بلاد الشام، تستثمر إيران عسكرياً في “حزب الله” أكثر من أي وقت مضى. في سوريا، يقوم “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإسلامي بمساعدة الحزب في القيادة والسيطرة والتدريب. الواقع، إن دخول الحرب كان في جزء منه “دفع دين” لمساعدات سابقة — ولكن بقيامه بذلك، فقد ربط “حزب الله” نفسه حتى أكثر إحكاماً بسيده الإيراني.
وأخيراً، يعتقد “حزب الله” أيضاً بأن له دوراً عسكرياً في لبنان. على طول الحدود، تقوم قواته بدوريات وحتى بزرع ألغام لمنع التسلل. إن الحزب ينسق بهدوء مع القوات المسلحة اللبنانية، التي تتفادى مواجهة المنظمة الشيعية.

الآثار المترتبة على لبنان وإسرائيل وأميركا

ليس من المرجح أن يستفيد تحالف 14 آذار (وهو تجمع سياسي من الفصائل المناهضة لسوريا في لبنان) أو الأصوات الموالية للغرب في لبنان من عمليات “حزب الله” في بلاد الشام. وهي منقسمة من الداخل، حيث أظهرت على أنها غير قادرة على مواصلة الدعم الشامل. بدلاً من ذلك، فإن قادة الميليشيات والمتطرفين من أهل السنة هم الذين من المرجح أن تنمو قوتهم أكثر. هناك أكثر من 1.2 مليون لاجئ سوري في لبنان — قليلاً أكثر من ربع مجموع سكان البلاد- يشكّلون بؤراً للمشاكل. وهناك إحتمال كبير أن يتحوّلوا إلى التطرف، كما يمكن أن تصبح مخيّماتهم ملاذاً للمقاتلين في سوريا. بل ومن الممكن مع مرور الوقت، أن بصبحوا فريقاً من اللاعبين العنيفين في السياسة اللبنانية نفسها، كما فعل الفلسطينيون من قبلهم. هذا هو مصدر قلق خاص بالنسبة إلى “حزب الله”، حيث أن غالبية اللاجئين في لبنان هم من المسلمين السنة الذين يعتبرون الحزب الشيعي صديق عدوهم.
الواقع أن “حزب الله” هو على حد سواء منهك قتالياً وأكثر صلابة في القتال. إن تجربة سوريا قد عمّدت قواته بالدم في أرض لا تعرفها جيداً، الأمر الذي جعلها أكثر مهارة وسمح للحزب إختبار قادته. وفي الوقت عينه، فإن إرتفاع عدد القتلى والضغط المستمر يشكّلان أمرين ساحقين، ولا يمكن ل”حزب الله” أن يجابه بسهولة خصماً جديداً. كما أن القتال في سوريا هو أيضاً يختلف عن محاربة إسرائيل. إن الحزب في بلاد الشام يشكّل قوة مكافحة تمرّد، حيث يجابه متمردين أقل تنظيماً، وغير مدرّبين تدريباً جيداً، ومسلحين تسليحاً خفيفاً. أما الجيش الإسرائيلي فهو مختلف وأكثر خطورة.
نتيجة لذلك، فإن تهديد “حزب الله” العسكري لإسرائيل غير مؤكد. وعلى الرغم من إستنزافه في الصراع السوري، فإن أقساماً من “حزب الله” لا تزال تركّز على الصواريخ وغيرها من وسائل ضرب إسرائيل. وبالفعل، فقد حذّرت قيادة الحزب، بأنه إذا وقع صراع آخر، فقد تعدّل إستراتيجيتها العسكرية وتقوم بعمليات عبر الحدود. إن مجموعة متزايدة من صواريخ “حزب الله” تضع كل إسرائيل في خطر، على الرغم من أن النجاح النسبي لأنظمة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية يقدّم للإسرائيليين بعض الراحة.
مع ذلك، فإن “حزب الله” ليس في مزاج للإشتباك مع إسرائيل. إن الحدود اللبنانية مع الدولة العبرية كانت هادئة منذ العام 2006، وإن نزف الصراع السوري يجعل الحزب الشيعي حتى أكثر حذراً.
من جهتها تحاول تل أبيب السير على خط رفيع. من جهة، تريد منع نقل الأسلحة السورية والإيرانية إلى “حزب الله”، وخصوصاً أنظمة مثل صواريخ أرض-جو وصواريخ كروز المضادة للسفن، أو حتى الأسلحة الكيميائية التي قد تزيد بشكل كبير الخطر على إسرائيل. وتحقيقاً لهذه الغاية، فقد أغار طيرانها أحياناً على قوات “حزب الله” وهي تنقل الأسلحة، مما أدى بالحزب، رداً على ذلك، إلى شن وتنفيذ هجمات محدودة في مرتفعات الجولان، مستخدماً الأراضي السورية كقاعدة. من ناحية أخرى، ليست لدى إسرائيل شهية لإشتباك أوسع. إن الكثير من الضربات ضد “حزب الله”، أو إجبار قيادته على إتخاذ موقف حيث يعتمد وضعه السياسي على معركة مع إسرائيل، سوف يشكّل هزيمة ذاتية لتل أبيب، حيث ستستدعي حرباً تأمل في منعها من الحدوث.
ومع ذلك، فإن الصراع ما زال قابلاً للإندلاع: قلّة توقّعت حرب 2006، على سبيل المثال. وبالنظر إلى أن الطائرات الإسرائيلية تغير بإنتظام على شحنات أسلحة “حزب الله”، فإن فرص التصعيد لا تزال كبيرة.
قد تخطىء تل أبيب في الحساب حول ما إذا كانت ضربة معيَّنة من شأنها أن تؤدي إلى تصعيد، في حين قد يعتقد “حزب الله” أن إستجابة محدودة لا تؤدي بإسرائيل إلى إطلاق حرب شاملة. الكثير سيعتمد على الموقف السياسي الداخلي لكل من الحكومة الإسرائيلية و”حزب الله”، ولا يبدو أن واحداً منهما على إستعداد لفهم سياسات الآخر. بالإضافة إلى ذلك، فقد وضع “حزب الله” قواته لمساعدة ومؤازرة إيران لردع إسرائيل.
إذا وقعت ضربة عسكرية على المنشآت النووية الإيرانية، أو خلافاً لذلك، إذا دخلت إيران في صراع مباشر مع إسرائيل، فإن “حزب الله” سيكون على إستعداد للتحرك.
لا يبدو في الأفق أن هناك نهاية قريبة للصراع في سوريا، وسوف تضع الطائفية المتزايدة وخطر العنف في لبنان الجهاديين السنة في سوريا -وليس أميركا أو إسرائيل– على رادار “حزب الله” الأساسي، بغض النظر عن إدعاءاته وخطابه. إن الإستنزاف العسكري الذي يتطلب حفظ الآلاف من المقاتلين للدعم والمدرّبين تدريباً جيداً سوف يكون مزاحماً لأولويات أخرى للحزب، وسوف يُنظَر أكثر إلى “حزب الله” بأنه ممثل طائفي في لبنان. سوف يكون على الحزب الشيعي الإعتماد أكثر على الصواريخ والأنشطة شبه العسكرية بمثابة ردٍّ غير متماثل.
كما يحتفظ “حزب الله” بقدرته على “الإرهاب” الدولي. في السنوات الأخيرة، إستخدم هذا التكتيك للرد على ما يراه عدواناً إسرائيلياً ضده أو ضد إيران.
على سبيل المثال، زُعِم أن “حزب الله” ضرب مرافق إسرائيلية ويهودية في الأرجنتين في تسعينات القرن الفائت، رداً على ما إعتبره تصعيداً إسرائيلياً في الحرب الحدودية مع لبنان. ويعتقد بعض المتابعين بأن الحزب قد حاول أيضاً القيام بهجمات إرهابية دولية عدة ضد أهداف إسرائيلية بعدما زعمت إسرائيل أنها قتلت عماد مغنية، كبير القادة العسكريين في الحزب الشيعي ورئيس العمليات الخارجية.
وعلى الرغم من دور “حزب الله” في الإرهاب والخطاب المناهض للولايات المتحدة، فإن مصالحه تلتقي في كثير من الأحيان مع مصالح أميركا — على الرغم من أن كلاً من الجانبين يكره الإعتراف بذلك. يواجه الفريقان حرباً مع تنظيم “الدولة الإسلامية” والمتطرفين السنة الآخرين، وكلاهما يريد دعم حكومة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في بغداد.
حتى داخل لبنان، في حين أن واشنطن تدعم خصوم “حزب الله” السياسيين في “تحالف 14 آذار” المناهض لسوريا، فإنها تعترف بأن “حزب الله” يساعد في إبقاء البلاد موحَّدة ومستقرة، وبأن توسع “الدولة الإسلامية” أو الإنزلاق الى الفوضى سيكون أسوأ من الوضع الراهن.
مع ذلك، فإن التعاون المفتوح لا يبدو وارداً سياسياً لكلا الطرفين. في الواقع، يمكن لتحوّل طفيف أن يحوّل الشك إلى صراع. وتركّز الحملة الأميركية في سوريا على المتطرفين السنة، وبالتالي تساعد بشكل غير مباشر نظام الأسد، حليف “حزب الله”. ولكن، إذا قررت واشنطن أن ترقى إلى مستوى خطابها المناهض للأسد وتهاجم النظام السوري بالإضافة إلى الجهاديين السنة، فإنها ستهاجم “حزب الله” أيضاً. إن عداء الحزب الشيعي لإسرائيل لا يزال قوياً، وهذه نقطة أخرى للإحتكاك. بالإضافة إلى ذلك، فإن “حزب الله” ينام في سرير واحد مع إيران الآن أكثر من أي وقت مضى، وأي عمل عسكري ضد طهران بسبب برنامجها النووي أو غيره من القضايا يجب أن يُدخِل بجدية في حساباته ردود فعل “حزب الله”.
لا يزال “حزب الله” لاعباً إقليمياً رئيسياً. وهو أيضاً حصان مطاردة لايران ودعامة للنظام السوري. ومع ذلك، فإن المنظمة الشيعية أيضاً منهكة عسكرياً وفي موقف دفاعي سياسياً.
يجب على الولايات المتحدة الإعتراف بهذا المزيج من القوة والضعف إذا أرادت لسياساتها الإقليمية أن تتكلل بالنجاح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى