ضيقُ الخِياراتِ مع تَعدُّدِ الولاءات

بقلم سجعان قزي*

هذه إنتفاضةٌ على كلِّ شيءٍ لأنَّ المواطنين يَنقُصهم كلُّ شيء. وهذه نقمةٌ على جميعِ المسؤولين لأن هؤلاءِ أَهملوا حقوقَ الناسِ مدى ثلاثينَ سنة. ليلةَ 14 تموز (يوليو) 1789، هَروَل الدوق “دو لاروشفوكو” يُبلغ الملِكَ لويس السادس عشر بسقوطِ الـــ”باستيل” فقال له الملِك: “ما هي إلّا انتفاضة”، فأجابه الدوق: “بل هي الثورة”. دَهاءُ الثوراتِ أن تُرهِبَ السلطةَ من دونِ أن تُخيفَ الشعب. لذا، كلّما انحرفت الثورةُ في لبنان نحو العنف، بَطُلت أن تكونَ كذلك وأَصبحت “أحداثًا” يُـحَلَّلُ ردعُها. بالمناسبةِ، كان يُستحسنُ بمجلسِ الأمنِ المركزيِّ (20/01) استعمالُ كلمةً أخرى غيرَ “الردع”، فاستذكارُ “قوّاتِ الردع” ممزوجٌ بالحربِ والدمعِ…

مُرتَكزاتُ لبنان سَقطت، وما بقي منها غيرُ كافٍ ليبقى لبنانُ كما هو شكلًا ومضمونًا: لبنانُ الكبير ضَربَته الديموغرافيا. الإستقلالُ ضَربه الإنحيازُ. السيادةُ ضربَها تداولُ الإحتلالات. الوِحدةُ الوطنيّةُ ضَربَتها القوميّاتُ المتضارِبة. الدستورُ ضَربَه التخطّي والتعليق. الهويّةُ ضَربها انتحالُ الصِفة. الصيغةُ ضَربها تَعدّدُ الولاءات. المساواةُ ضَربها السلاح. التعدديّةُ الحضاريّةُ ضَربها اتّساعُ الفوارقِ في أنماطِ الحياة. إتفاقُ الطائفِ ضَربه التباسُ موادِّه وسوءُ التطبيق. الديموقراطيّةُ ضَربتها التوافقيّة المعطِّلة. النظامُ الليبراليُّ الإقتصاديُّ والماليُّ ضَربه اختلالٌ في قطاعاتِه وجشعُ أركانِه وغيابُ الطبقةِ الوسطى، ولبنان الرسالةِ ضَربه الخلافُ على دورِه ورسالتِه.

بموازاةِ سقوطِ هذه المُرتَكزاتِ البنيويّة، تهاوت شبكةُ الدفاعِ العربيّةِ والدوليّة عن لبنان. لقد تمتّع لبنانُ طَوالَ تاريخِه الحديث بحمايةٍ فعّالةٍ حين كانت قوّتُه في حكمتِه (لا في ضعفِه)، وحتّى حين صارت قوّتُه بــ”قوّةٍ غيرِ شرعيّةٍ” أَضْعفته أكثرَ من أيِّ عامل آخَر. الأضعفُ من الضعيفِ هو مستقوٍ لا يَملِكُ سوى السلاح. كان لبنانُ من بين أكثرِ دولِ العالم الذين كَسِبوا أكبَر عددٍ من الأصدقاءِ والأحبّاء. والّذين يُشَكِّكون في هذه “القوّةِ الدفاعيّة” يَكفيهم أن يُقارنوا بين أحوالِ لبنانَ في ما مَضى (أمنٌ وسلامٌ وحرّياتٌ وازدهار)، وأحوالِه اليومَ (كسادٌ وفسادٌ وعِقابٌ وعُزلة).

لكنَّ هؤلاءِ الأصدقاءَ التزموا الدفاعَ عن لبنانَ بما هو تعبيرٌ عن تلك المُرتَكزاتِ الفريدة. أما وقد تَحوّل لاعبَ أدوارٍ نقيصةٍ بالوَكالةِ، فتراجعت أولويّتُه لديهم، لأنَّ لبنانَ الساحةَ المفتوحةَ ليس بنظرِهم وطنًا يَستحقُّ الحماية. أصدقاءُ لبنان تَعِبوا من حمايةِ بلدٍ لا يَحمي نفسَه، ومن مساعدةِ شعبٍ لا يُساعد نفسَه. وإذا كانت دولٌ مثلَ فرنسا لا تزالُ تنظِّمُ مؤتمراتٍ دوليّةً (باريس 1 و2 و3 وسيدر)، فعلى أملِ إحياءِ ذاكَ اللبنان الذي، وإنْ أَبحَرَ، لا يزال في المياهِ الإقليميّة.

تَهاوي هذه المُرتكزاتِ أشدُّ تأثيرًا من حدوثِ الثورة. وأصلًا ما كانت الثورةُ لتندلعَ لولا سقوطُ تلكِ المُرتكزاتِ تِباعًا. التغييراتُ السلبيّةُ التي حَدَثت في لبنان منذ سنةِ 1975، على الأقلّ، وَضعت لبنانَ في مسارٍ مختلِفٍ عن مسارِ النزاهةِ والفسادِ والحَوكمةِ والطبقةِ السياسيّة. منذ تلك الفترةِ تَفاقم الخللُ البُنيويُّ في التركيبةِ اللبنانيّةِ، وصار الصراعُ الحقيقيُّ مع بقاءِ الوطنِ لا مع الحَوكمةِ أكانت رشيدةً أم سيّئة. تغييرُ الطبقةِ السياسيّةِ فقط، ما عاد يُحيي التركيبةَ اللبنانيّةَ، إنّها تحتاجُ إلى صيغةِ تعايشٍ اتّحاديّةٍ دونَها ممانعةٌ بعد. وما عوارضُ الفسادِ سوى الوجهِ اللاأخلاقيِّ لتفكّكِ هذه البُنيةِ الوطنيّةِ أمام “الذاتيّات” الطائفيّة والمناطقيّة. وأساسًا، العلاقةُ سببيّةٌ بين تراجعِ الدولةِ وتَقدّمِ الفساد.

وما يَحولُ دونَ سقوطِ وِحدةِ لبنان كليًّا هي العاطفةُ الطيّبةُ بين اللبنانيّين. لكن العاطفةَ تُقيم وليمةً ولا تُنشِئُ وطنًا. لبنانُ الحقيقيُّ ليس كبيرًا أو صغيرًا: هو حضاريٌّ عابرُ الطوائفِ والأديان والمناطق. غريبٌ أن تُصبحَ الحضارةُ في لبنان طبقيّةً. لتسويق لبنان لدى أبنائه، إخترَعنا قِصصًا ونوادرَ وأساطيرَ حول وجودِنا. قدّسنا الأرز، جمّلنا القبحَ، أَلَّـهنا النموذجَ وجعَلنا لبنانَ “قِطعةَ سماء”. لكن كلَّ هذه المحاولاتِ إصطَدَمت بانفصامِ المكوّنات اللبنانيّةِ بين لبنانَ ولبناناتِهم، وهو ما أدّى إلى انفصالٍ لامسَ الغُربة الحضاريّة.

غالبيّةُ الدولِ المتعدِّدةِ التكوينِ الحضاريِّ أو الطائفيِّ أو اللغويِّ أو الدينيّ أَنقذت وِحدتَها في نظامٍ اتّحاديٍّ ضَمِنَ خصوصيَّاتِ مكوّناتِها وحقوقهم وحرّياتِهم وأدوارهم. أما تلك التي أصرَّت على النظامِ المركزيِّ رُغم تكوينِها التعدّدي، فانتهت بحروبٍ أهليّةٍ دائمةٍ أو بالتقسيمِ، أو بأنْ خَضَع بعضُ مكوّناتِها لحالِ الذمّيةِ أو التبعيّة. هناك فارقٌ كبيرٌ بين العيشِ في حمايةِ الدولةِ وبين العيشِ في حمايةِ النظام. وإذا لم نستدرك الوضعَ ونواجِه الحقيقةَ بجرأة، ينتقل لبنان من دولةٍ إلى نظام.

لم يعد بمقدورِنا التكيّفُ مع سلوكيّاتٍ واجتماعيّاتٍ وسياساتٍ وخِياراتٍ وولاءاتٍ تُبطِلُ الفكرةَ اللبنانيّةَ وتَفسَخُ عقدَ الشراكةِ الطوائفيّة. هذه انحرافاتٌ لا تُماثِل أيَّ مرحلةٍ من تاريخِنا، ولا تَمتُّ بصلةٍ إلى تقاليدِنا المسيحيّةِ والإسلاميّةِ، وإلى قوميّتِنا وثقافتِنا ولا حتّى إلى مفرداتِنا في الحوار. يَعملون على نقلِ لبنانَ إلى عالمٍ آخَرَ وزمنٍ آخَر، فيما قرّرنا أن نعيشَ عصرَنا وقيمَنا. وإذا كنا لا نستطيعُ أن نُقنعَهم بالأفضلِ، فلن نسمحَ لهم بأنْ يَفرِضوا علينا الأسوأ.

إنَّ الذين يَرفضون الإنتقالَ إلى دستورٍ اتحاديٍّ يَحفَظ وِحدةَ لبنان يُدركون في قرارةِ أنفسِهم أنّه الحلُ المناسِبُ، لكنهم يُعاندون لثلاثةِ أسبابٍ: وضعُ اليدِ على كلِّ لبنان وتغييرُ هويّتِه ودورِه ونظامِه، الحصولُ على مزيدٍ من المنافعِ من بقايا الدولةِ المركزيّة، واحتجازُ المكوّناتِ الأخرى رهائنَ للتفاوض مع العربِ والفرسِ والغرب. بَيدَ أنَّ هذا التشبّثَ بالنظامِ المركزيِّ الفاشل وِجاهًا سيؤدّي إلى المجازفةِ بوِحدة البلاد. نحن أمامَ تحوّلٍ تاريخيٍّ جارِف.

والغرابةُ الكبرى أنَّ الّذين خَلقوا في البلادِ واقعًا فيديراليًّا بل تقسيميَّا على الصُعدِ الحضاريّةِ أو الجغرافيّةِ أو العسكريّةِ، هم الّذين يرفضون النظامَ الإتّحادي. في حين أن الّذين معًا بَنَوا الدولةَ المركزيّةَ ورَفعوا عزّها، يميلونَ اليومَ نحو النظامِ الإتّحاديِّ غيرِ الطائفي، لأنّهم ضِدَّ التقسيمِ والإنفصالِ والهَجرِ، ومع الشَراكةِ الوطنيّة.

  • سجعان قزي كاتب، صحافي، محلّل سياسي ووزير لبناني سابق. يُمكن متابعته عبر حسابه على تويتر: @AzziSejean
  • يُنشَر هذا المقال أيضاً في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى