لبنان بين الخَوفِ والتَخوِيف!

عبد الرحمن عبد المولى الصلح*

في خبرٍ نقلاً عن “رويترز” ذكرت صحيفة “النهار” (الأربعاء 16-6-2021) أن الممثلة الأميركية انجيلينا جولي شوهدت تتردّد على طليقها الانكليزي جوني ميلير في منزله في نيويورك. المُلفت ما جاء في ختام الخبر بأن عقد الزواج بينهما دُمِغَ بنقطةِ دمٍ من كلٍّ منهما، ومع ذلك لم يستغرق الزواج أكثر من 3 سنوات!

مناسبة التذكير بما سبق، أن وسائل الإعلام على اختلافها المرئيّة حين تأتي على ذكر الرئيس المكلّف سعد الحريري ووزير الطاقة “الأبدي” جبران باسيل (وصفته أخيراً صحيفة التايمز البريطانية ب”أكره رجل في لبنان” “the most hated man in Lebanon”)، تنشر صوراً تجمع الاثنين وإمارات الفرح والود والوئام والتآلف بادية على الوجوه، إضافةً إلى الضحكات العريضة… وكأن زواجاً “مارونيّاً” عُقد بين الاثنين. والذي يسترجع تلك الصور يسال: هل يُعقَل ان يتحوّل ذلك الود الذي لا يوصف والذي غمر الاثنين إلى الكراهية والبغض! كيف حلّ البغض مكان الودّ والوئام الذي كان سائداً بين الرجلين؟ ولِمَ هذه القطيعة؟ الثابت لو ان العلاقة الشخصية بين الرجلين استمرت كما كانت لما وصل بنا الحال إلى ما وصلنا اليه. واذا كان عقد الزواج بين أنجيلينا جولي وطليقها قد دُمِغَ بالدمّ، فإن التسوية الرئاسية التي حصلت بين الحريري وباسيل في باريس وتم بموجبها انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية قد تم دمغها برؤى وآفاق -أكثر عُمقاً ودلالة من نقط الدم التي دمغت عقد زواج أنجيلينا جولي وطليقها- عادت بالمنافع إلى الاثنين وكان من الصعب التكهّن أنها سوف تؤول إلى الفشل كما حال زواج أنجيلينا. غازل الحريري باسيل في أكثر من موضوع، ويكفي قانون الانتخاب الذي جرت على أساسه انتخابات 2009 والذي مع  الأسف كرّس الطائفية والمذهبية وطعن لبنان الواحد الموحَّد، لكنه ساهم بفوز باسيل بالانتخابات الاخيرة، مع العلم أنه سبق وفشل بدورتين سابقتين. يجزم الرئيس حسين الحسيني بأن قانون الانتخاب قسّم اللبنانيين ولم ينتج حكومة دستورية “النهار” (11-9-2018) . وللتذكير فقط فلقد قصد الحريري اثناء الحملة الانتخابية لانتخابات 2019 بلدة “راسنحاش” البترونية لان كل ناخبيها من السُنّة وحثّ الاهالي على انتخاب… “صديقي جبران باسيل” كما قال. نفهم أنّ الحريري بعد أن قدم استقالة حكومته أثر انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، رغِبَ بحكومة اختصاصيين، ممّا يعني حُكماً استبعاد باسيل من تشكيل الحكومة ومن وزارة الطاقة، الوزارة الأكثر “دسامة”!! ونفهم أيضاً عدم اكتراث “حزب الله ” على تشكيلة حكومة اخصائيين آنذاك وكذلك لاحقاً في محاولة السفير مصطفى أديب لتشكيل الحكومة. تُرى هل ندِمَ الحريري على إجراء التسوية مع باسيل؟

في كتابه “أجمل التاريخ كان غداً” – (سائر المشرق، 2021)- يذكر نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي انه كان ضمن مجموعة من 6 مستشارين دأبوا، بناءً على طلبٍ من جبران باسيل، على الاجتماع أسبوعيّاً، كل نهار سبت، بالعماد عون قبل انتخابه رئيساً وذلك لتقديم المشورة بهدف وصول عون إلى رئاسة الجمهورية. كان من ضمن المستشارين كريم بقرادوني والذي ذكر لاحقاً في مقابلة تلفزيونية ان تسلُّط جبران باسيل على القرار عرقل الإصلاح والتغيير!! يبدو أن الفرزلي اختار الفراق عن رئيس الجمهورية وفريقه، فتصريحه منذ اسابيع يدعو فيه رئيس الجمهورية أن يغادر قصر بعبدا ويذهب إلى منزله، إضافةً إلى دعوته الجيش اللبناني لتسلم السلطة لا يجب أن يمر مرور الكرام. أن يدعو نائب فاز في أكثر من دورة انتخابية بأن يتسلم الجيش مقدرات الامور يعكس قناعته ان المخاض الدائم والمستمر والمؤلم والموجع الذي يمر به لبنان في هذه المرحلة منذ أشهر لن يُثمر عن ولادة حكومة او انفراج سياسي ينتشل البلاد ممّا تعاني من أزمات عميقة ومؤلمة على كافة الصُّعد، واستتباعاً يعني ذلك أن الفرزلي مُقتنع –وكذلك غالبية العباد- بأن الجيش هو خشبة الخلاص!! قد نفهم ان ضابطاً أو ضباطاً يسعون إلى تسلّم السلطة، لكن ما يُشكّل سابقة في التاريخ السياسي اللبناني أن يدعو إلى ذلك نائب منتخب، وسياسي عريق كالفرزلي! الفرزلي -وغيره – وصل إلى قناعة  تامة أن لا أمل على الاطلاق بالوصول إلى حلول جذريّة تُشفي الام الناس وتخفف عذاباتهم  وآلامهم في ظل العهد الحالي. وكان البنك الدولي أكّد أن لبنان غارق في انهيار اقتصادي قد يضعه ضمن أسوأ 10 ازمات عالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر في غياب لأي حلّ في الأفق. وقد أشار بذلك بوضوح جوزيف بوريل الممثل الأعلى للاتحاد الاوروبي في ختام زيارته للبنان مُضيفاً أن ما يواجه لبنان هي أزمة محليّة فرضها اللبنانيون على أنفسهم!!

كان السائد في الخمسينات والستينات من القرن الماضي حين راجت موضة الانقلابات العسكرية في العالم العربي وتسلّم الجيش السلطة، أن الجيش هو المُنقذ من الضلال ومن الفساد والانقسامات المجتمعية، وأنه رمز العدالة. لستُ هنا في صدد تقييم تلك التجربة لكن إشارة بسيطة كما ثبُت في بلدان عربية عدّة (كمصر، سوريا، العراق، ليبيا…) أن تسلّم الجيش شابَهُ ثغرات أهمّها التسلّط على العباد وفقدان الشفافية. في عودة إلى الجيش اللبناني الأبيّ، الذي أحترم وأقدّر، لم يكن منذ الاستقلال إلّا داعماً للسلطة المدنيّة. يخطر في الذاكرة بضع محطات استعرض بإيجاز أهمّها : ( ( i تسلم الراحل الكبير الرئيس فؤاد شهاب السلطة في العام 1958. لا يمكن يومها نكران تدخُّل الجيش في مجريات الأمور لكن كان ذلك انطلاقاً من مبدأ الضرورات تبيح المحظورات بخاصة في ضوء انقلاب القوميين السوريين في العام 1961، إضافةً إلى وصف شهاب السياسيين بـ “آكلة الجبنة”، لكن المفارقة وصف غسان  تويني الرئيس شهاب: “بالعسكري الديموقراطي”. تخلّى الراحل الكبير عن بذلته العسكريّة وكان أكثر حرصاً على الوحدة الوطنيّة وتطبيق جوهر وروح الدستور وليس كما هو الحال حاليّاً. قيل الكثير عن تدخل ما سمّي المكتب الثاني “في شؤون البلاد”، لكن يجب التذكير أن ذلك الزمان كان زمن العسكر في البلاد العربية وأن دور المكتب الثاني مقارنة بالعسكر الذي حكم أكثر من بلد عربي كان دوراً خافتاً . (ii) في السبعينات الفائتة طغت المقاومة الفلسطينية المسلّحة وتجاوزاتها على الدور المنوط بالجيش اللبناني، وانقسم الجيش وبتنا نسمع بأحمد الخطيب كقائد ل”جيش لبنان العربي”، و”جيش أنطوان لحد”، وقبله “جيش سعد حداد” في الجنوب اللبناني . (iii) في الثمانينات الفائتة انقسم الجيش إلى ألوية، وتم إقحامه بحرب الإلغاء والتحرير والتي كانت نتائجها كارثية.  (iiii) في التسعينات، تم توحيد الجيش في زمن الوصاية السورية لكن، لم يكن بامكان الجيش اللبناني لأسباب معروفة أن يلعب الدور المنوط به كما يجب. بعد الانسحاب السوري في العام 2005 تكرّست ازدواجية شكّلت سابقة لم يشهدها أي بلد آخر في العالم: وجود جيش آخر مُوازٍ للجيش اللبناني يتلقّى أوامره من طهران ويخدم أهدافها الإقليميّة.

بالرغم من كل ما سبق لم يكن من بديل للجيش كي يكون الضامن للسلم الأهلي إمّا بالقوة كسحقه الإرهابي شاكر العبسي في العام 2007 من مخيّم نهر البارد. يومها فوجئ الناس بتصريح الأمين العام ل”حزب الله” قائلاً: “مخيّم نهر البارد خط أحمر”، لكن لا عجب فالتطرّف السنّي هو حاجة إيرانيّة… وإمّا بالحياد كما فعل انثاء غزو بيروت في 7 أيار (مايو) 2008. لكن الثابت أن قادة الجيش ابتداء من العماد إميل بستاني في عهد الرئيس الراحل شارل حلو ولحينه كانوا مرشّحين إن لم يكونوا توّاقين لملء سدّة الرئاسة، علماً ان تجربة العماد إميل لحود وميشال سليمان لم تكن ناجحة في نظري!!

الرعاية الدولية للجيش اللبناني أضحت واضحة وضوح الشمس، وهي مع كل أهميتها والحاجة الملحّة إليها تُضيف مأخذاً على لائحة المآخذ على العهد، الذي وُصِف بالعهد القوي، لأنه لم يكترث ولم يفعل ما يجب فعله لعدم وصول الجيش لما وصل إليه من أحوالٍ مُزرية –كحال كل البلاد- الأمر الذي اضطرّه لطلب مساعدات ليس عسكريّة فحسب بل حياتيّة ومعيشيّة… من الخارج. في المؤتمر الدولي الافتراضي الذي عُقد أخيراً لدعم الجيش -وقد سبق ذلك دعم واشنطن لدور الجيش اللبناني والحرص على تزويده بما يلزم من معدّات- أكد قائد الجيش العماد جوزيف عون “أن لبنان يواجه أزمة إقتصادية غير مسبوقة، ويبدو واضحاً انعدام فرص الحلول في الوقت القريب. لذا، تزداد الحاجة اليوم أكثر إلى دعمه ومساندته كي يبقى قادراً على القيام بمهماته ” (“النهار” 17-6-2021) واذا كان الحرص على الجيش اللبناني واجباً كي يقوم بواجباته فالعدالة تقتضي أيضاً أن لا نهمل قطاعات أخرى، فعلى سبيل المثال لا الحصر ماذا عن سلك القضاء؟! كيف يمكن ان نضمن نزاهة قاضٍ ينظر بدعاوى تُقدَّر بملايين الدولارات وراتبه لا يتعدى ال400 $ ؟! وكيف يمكن لطبيب يعمل في القطاع العام، راتبه أضحى في الحضيض أن يحافظ على أدائه الطبي في معالجة المرضى؟!

لم يعُد خافياً، لا بل أضحى معلوماً، أن رئيس الجمهورية لا يريد الحريري كي يؤلّف الحكومة، لا بل صار واضحاً أنه يهدف إلى نقض جوهر اتفاق الطائف وتوريث صهره سدّة الرئاسة. لكن الناس يعلقون قائلينً: ليس هذا وقت الترف السياسي للجدال والنقاش لقد سئم الناس وملّوا الجدل العقيم حول تفسير وتطبيق المادتين في الدستور 53 و 64 … ومن يُكلِّف ومن يُصدِر … إضافةً إلى صلاحيات رئيس الجمهورية. يقول الناس بأن هذا ليس وقت الترف السياسي للدخول في مناكحات سياسية والبلاد تغرق بأزمات حادّة لم تشهدها بلاد الأرز ولن تشهدها حين يتولّى رئاسة الجمهورية الشخص المناسب!

الجدل حول صلاحيات الرئيس صار عقيماً في غياب الحكمة و المودّة والحرص على مصالح البلاد والعباد. لقد أعلنها صراحةً البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، سدد الله خطاه وأدامه، في موعظته يوم الاحد 20-6-2021 بأننا “لا نشكو من قلة الصلاحيات بل من قلّة المسؤولية”. يجدر التذكير بما جاء في محاضرة فؤاد بطرس في ستينات القرن الماضي حين قال ان صلاحيات الرئيس وُضِعت كي لا تُمارس!! كان ذلك زمن العمالقة…. زمن الراحل الكبير الرئيس الأمير اللواء (الالقاب الثلاثة يستحقها عن جدارة..!!) فؤاد شهاب زمن الحرص على وحدة البلاد والعباد. بِئس هذا الزمن حين يختار رئيس الجمهورية الوزراء المسيحيين والرئيس المكلّف الوزراء المسلمين. هذا أمر مُشين يُشكّل انتكاسة للبنان الواحد الموحّد وطعناً بلبنان الرسالة، ثم أن الكلام عن حصة رئيس الجمهورية في الحكومة أَعتبره انتقاصاً من مقام الرئاسة الأولى، ذلك ان رئيس الجمهورية بناء على روحية الدستور وجوهره يشكّل البوصلة السياسية التي تتجه إليها كل الأطراف السياسية، فهو رئيس البلاد وكل الشعب ورئيس كل المؤسسات، ورئيس كل الوزراء، وليس فريقاً كي يكون جزءاً من صراعات الوزراء. لكن الواضح أن رئيس الجمهورية الحالي يرضى مع الأسف بأن يكون جزءاً من هذا الصراع، وأن يكون مع هذا الفريق ضد الآخر. في ردّه على رئيس المجلس النيابي نبيه برّي بأن رئيس المجلس فقد دوره كوسيط، ينسى رئيس الجمهورية أو يتناسى بأن دوره هو دور الوسيط بين كل الأطراف، لا بل أنه فوق الكل … ومع الكل… ولكن يبدو أن لا حياة لمن تنادي !!! لقد بلغ السيل الذُّبى بعد تصريح باسيل (الاحد 20-6-2021) عن حقوق المسيحيين وصلاحيات رئيس الجمهورية. لقد أكّد باسيل، مع الأسف المؤكَّد: مصالحه الشخصية وطموحاته الرئاسيّة تبرّر الحقن الطائفي البغيض. وبدلاً من أن يسعى إلى بناء الدولة القويّة القادرة لحماية حقوق كل اللبنانيين وحقوق لبنان الواحد الموحّد، نسمعه يستجير بأمين عام “حزب الله” !! بصراحة، لم يعد السؤال من يحمي حقوق المسيحيين بل، من يحمي كل اللبنانيين من جبران باسيل؟!

ما أشبه اليوم بالبارحة. فمنذ خمسة وعشرين عاماً حذّر الراحل الكبير غسان تويني عن مضاعفات ونتائج ضعف لبنان وفقدانه لمكانته وهزال دوره، وأنّ لبنان لم يعُد يشكّل هاجساً ومحوراً للآخرين. فكتب قائلاً: ” لو كان هذا الوطن لا يزال يخيف احداً، أي احد، لكان ذلك دليل قوة بل سلطة. والقوة كالسلطة، كالسيادة، لم يعد يتمتّع بها هذا الوطن. هو إذاً لا يخيف عسكرياً ولا أمنياً، كما لا يخيف ديبلوماسياً ولا سياسيّاً” (“حكم الخوف من الخوف”…”النهار” 12-2-1996). هَزُلَ هذا البلد وضعُفَ نتيجة المصالح الخاصّة المحليّة الطائفيّة والإقليمية، ولم يعُد، كما ذكر تويني يُخيف أحداً وبات أسير من يُخوّف اللبنانيين طمعاً بمصالحه الخاصة الضيّقة – محليّةً كانت أم إقليميّة، وخوف اللبنانيين الشرفاء على بلد بات ينزف كل يوم … دمّاً ودَمْعاً !!

  • عبد الرحمن عبد المولى الصلح هو كاتب لبناني.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى