أَوقِفُوا هذا النُواح علـى بيروت

بقلم هنري زغيب*

تتهاطَلُ علينا كلَّ يوم من الشاشات أَخبارٌ وصُوَرٌ ومشاهدُ وتصاريحُ تتلاطَمُ وتتزاحَمُ وتتوالى وتتعالى حول زلزال المرفأِ، وجميعُها مثيرةٌ كلَّ نوع من الغضب واللعنة والقرف والثورة، والتسابقِ على سبَقٍ إِعلامي مشروع ومشكور من زميلات وزملاء في المحطَّات الـمُتابعة بِـمِهنية عالية وتقنيات متطورة.

غير أَنَّ من أَسْوأِ ما نتابع: مشاهدَ وتصاريحَ حكوميةً ورسميةً تنادي على إِعانات ومساعدات، وتسأَل أَهالي بيروت وسكانها أَن يتقدَّموا لتسجيل أَسمائِهم وعناوينهم، حاملين بطاقاتِ الهوية أَو ما يعرِّف بهم، تمامًا كما أَيُّ محتاج مسكين محنيِّ الرأْس مكسورِ الكرامة يقف على باب وكالة غوث اللاجئين يستعطي بضْعَة أَرغفةٍ وكمشةَ سُكَّر.

لا. أَبدًا. لا ومئةَ أَلف لا. ما هكذا يكون التعاطي مع أَهل بيروت وسكَّان بيروت. الجمعيات الأَهلية وجمعيات المجتمع المدني تقوم بواجبها النبيل وتَتَقَدَّمُ هي، بصباياها وشبانها، من البيوت والأَهالي غيرَ منتظرةٍ هاتفًا من أَحدٍ ولا بطاقةَ تعريف.

البيارتة أَعرقُ من أَن يُعامَلوا بهذا الشكل. بيروت ليست منكوبةً بآلام بل منكوبةٌ بـحكَّام أَهملوا واجباتهم بـحراسة بيروت والوطن.

بيروتُ البيوتِ التاريخية والتراثية والعائلية العريقة تعود، وسوف تعود، إِنما على أَلّا يعودَ الحراس الذين لا يستحقُّون الشرَف بحراسة بيروت ولبنان.

وسكَّان بيروتَ المنكوبون ببيوتهم يرفُضون قراصنة السمسرات، ولن يبيعوا بُيُوتًا ليست حجارةً وأَبوابًا بل عمرٌ كاملٌ محفورٌ على تلك الحجارة وذكرياتُ أَهلٍ وأَحبةٍ تضج خلف الأَبواب. فليَكُفَّ وطاويطُ الليل عن إِغراء مَن تهشَّمَت وجُوهُهُم لكنَّ رأْسَهم ما زال مرفوعًا شامخًا بنُبل وكرامة.

ويزيد من الرغو البَصري على الشاشات، صوَرًا وأَفلامًا، جَلْدُنا بأُغنياتٍ مصوَّرةٍ أَو موشَّاةٍ بمشاهد، تَنوح على بيروت وتبكي وتتفجَّع كما على جثَّةٍ باردةٍ لا أَملَ بعودتها إِلى الحياة، وتغنِّي بأَصواتٍ مُنحَنيةٍ نوَّاحةٍ بَـكَّاءة، تَستمطرُ الدموع أَو تُـهَوْبِرُ بعنتريَّات زجلية في الأَغاني كلماتٍ فارغة وأَلحانًا دربكِّيَّةً. وليكُفَّ الكتَّاب وثرثارو نظْم الأَغاني عن شَخْصَنَة بيروتَ امرأَةً جميلةً يتغَزَّلون بها في حالات الرَخاء ويَرْثونها ندَّابين في حالات الدمار.

بيروت ليسَت امرأَةً للغواية. بيروت مدينةٌ عريقةٌ عظيمةٌ ذات تاريخٍ مشرِّفٍ وهويةٍ ساطعةٍ نَسَجَها أَهالي بيروت بالأَمس واليومَ وكلَّ يومٍ سيأْتي.

بيروتُ مدينةٌ قويةٌ بفرادتها، تَـهتزُّ ولا تَـهوي، من هنا اليوم غضب أَهلها وسكانها منصَبٌّ لعنةً وقرفًا ورفسًا ورفضًا كلَّ بوقٍ يدَّعي، وكلَّ صوتٍ ينعى، وكلَّ أُغنيةٍ تنوح كأَننا في جنازٍ وداعيٍّ لـميتٍ لن يعود، بدل أَن تغنَّى بيروت بِكِبَرٍ ونُبْل وقوَّةٍ وشَـمَم.

علامةُ بيروت اليوم: أَهلُها وسكَّانُها ومواطنون لبنانيون رائعون تقاطروا من كلِّ لبنان لنجدة بيروت أَهلًا وسُكَّانًا إِثْرَ زلزالٍ زعزعَها ولم يطرحْها بل أَطاح أَولياءَها الدجَّالين تجار الهيكل.

وسوف تَطيب جراحُها، ويكونُ ضحاياها قرابينَ مقدَّسةً في معبد لبنانٍ جديدٍ سقطَت عن وجوه ساسَتِهِ أَقنعةُ الزَيْف والدَجْل وكياناتٍ سياسيةٍ كرتونيةٍ كذَّابة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني:email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو على تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى