حين تتراجَعُ الدولة: قراءةٌ في تحوُّلاتِ الحَوكَمة والسلطة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

يُقدّمُ كتابُ “الحوكمة من دون حكومة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” قراءةً نقدية مُعمّقة لتحوُّلات السلطة في سياقات الصراع والهشاشة، حيث لم تَعُد الدولة الفاعل الوحيد في إدارة الشأن العام. ومن خلال دراساتِ حالةٍ وتحليلٍ نظري، يفتح الكتاب نافذةً لفَهمِ أنماطٍ جديدة للحوكمة تتشكّلُ خارج الأطر التقليدية.

غلاف الكتاب

سمير الحلو*

في كتاب “الحوكمة من دون حكومة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: الدولة، والفاعلون من غير الدول، وتحوّلات النماذج”، الصادر باللغة الإنكليزية، والذي أشرف على تحريره الباحث الأكاديمي الدكتور موسى علاية العفري ، يُقَدَّمُ للقارئ عملٌ جماعي طموح يسعى إلى إعادة التفكير في مفهوم الحوكمة خارج الإطار التقليدي للدولة المركزية، في واحدة من أكثر مناطق العالم اضطرابًا وتعقيدًا من حيث السياسة والصراع وبناء السلطة. الكتاب، الصادر عن دار “سبرينغر” ضمن سلسلة دراسات المجتمع المدني والمنظمات غير الربحية، يأتي في توقيت بالغ الدلالة، بعد أكثر من عقد على انتفاضات 2011، وفي ظلِّ استمرار الحروب الأهلية، وتآكل مؤسسات الدولة، وصعود أدوار فاعلين جدد يملؤون فراغ السلطة.

ينطلق الكتاب من أطروحةٍ جريئة مفادها أنَّ الحوكمة في المنطقة لم تَعُد حكرًا على الدولة، بل أصبحت نتاجَ تفاعُلٍ مُعقّد بين الدولة وفاعلين من غير الدول، مثل المنظمات المدنية، والجماعات المسلحة، والقبائل، والمؤسسات الدينية، والمنظمات الدولية. وبدل النظر إلى هذا الواقع بوصفه “اختلالًا” مؤقتًا أو حالة فوضى، يدعو الكتاب إلى التعامل معه كنمطِ حوكمة بديل –أو هجين– له منطقه الخاص وآلياته وحدوده.

يعتمد المحرر في الفصل التمهيدي على مفهوم “الحوكمة من دون حكومة” كما طوّره الباحث الأميركي جيمس روزناو، لكنه لا يكتفي باستعادته نظريًا، بل يُعيد توطينه في سياق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث انهيار الدولة ليس استثناءً بل تجربة مُعاشة في دولٍ مثل اليمن وسوريا وليبيا والعراق. وهنا تكمن إحدى نقاط قوة الكتاب: قدرته على المزاوجة بين التنظير السياسي والتحليل السياقي العميق

بُنية مُتماسكة ومُقاربة متعددة المستويات

ينقسم الكتاب إلى جُزءَين رئيسيين. يُركّزُ الجُزءُ الأول على ديناميات الحوكمة والصراع والعمل الإنساني، مع إبراز أدوار الفاعلين من غير الدول في إدارة الشأن العام وتقديم الخدمات في سياقات هشّة. أما الجُزءُ الثاني، فينتقل إلى سؤال الشرعية: كيف تكتسبُ هذه الأطراف شرعيتها؟ وعلى أيِّ أساسٍ أخلاقي أو اجتماعي أو سياسي تُمارَس السلطة؟

هذا التقسيم ليس شكليًا، بل يعكس تطوّرًا منطقيًا في الحجة: من توصيف الواقع المعقّد للحوكمة الهجينة، إلى مساءلة نتائجه وحدوده ومعاييره. ويُحسَب للكتاب أنه لا يتعامل مع الفاعلين من غير الدول بوصفهم “ملائكة خلاص” أو “قوى تخريب” بالمُطلق، بل يُقدّم قراءة نقدية متوازنة لأدوارهم المتناقضة.

دراسات حالة غنية ودلالات عابرة للحدود

يعتمد الكتاب على مجموعة واسعة من دراسات الحالة، تمتد من العراق وإقليم كردستان، إلى السودان واليمن وسوريا وليبيا وفلسطين. وتتميّز هذه الفصول بأنها لا تكتفي بالسرد الوصفي، بل تحاول تفكيك أنماط الحوكمة المحلية، وآليات اكتساب الشرعية، والعلاقة الإشكالية بين المحلي والدولي.

في حالة العراق، مثلًا، تُعرض تجربة الحوكمة الهجينة بين الدولة والفاعلين المسلحين بوصفها نتاجًا لتاريخ طويل من الصراع والانقسام، لا مجرّد نتيجة لانهيارٍ مفاجئ. وفي السودان، تبرز المبادرات المجتمعية كبديل عملي من تقديم الخدمات في ظل انسحاب الدولة، مع ما يحمله ذلك من إمكانات ومخاطر. أما في اليمن، فيكشف الفصل الخاص بالشراكات الإنسانية عن توتر دائم بين المنظمات الدولية والمنظمات المحلية، حيث تتقاطع اعتبارات الفعالية مع أسئلة السيادة والتمثيل.

هذه الدراسات، على تنوّعها، تشترك في إبراز فكرة محورية: الحوكمة في المنطقة باتت “مُجزَّأة”، ومتعددة الفاعلين، ولا يمكن فهمها أو إصلاحها بأدوات الدولة القومية وحدها

إسهام نظري: إعادة تعريف الشرعية

من أبرز إسهامات الكتاب تطويره لإطارٍ تحليلي جديد لفهم شرعية الفاعلين من غير الدول، يقوم على ثلاثة معايير: “الوجود المشروع”، و”العدالة الأساسية”، و”حق تقرير المصير الجماعي”. هذا الطرح يتجاوز التعريفات الكلاسيكية للشرعية المرتبطة بالانتخاب أو الاعتراف الدولي، ويقترح مقاربة أكثر التصاقًا بالواقع المحلي.

غير أنَّ هذا الإسهام، على أهميته، يفتح في الوقت نفسه بابًا للنقاش والنقد. فالسؤال الذي يظل مُعلَّقًا هو: إلى أي مدى يمكن تعميم هذه المعايير من دون أن تتحوَّلَ إلى تبريرٍ دائم لسلطات الأمر الواقع؟ وهل يمكن الفصل فعليًا بين “العدالة الأساسية” وتكريس هياكل موازية للدولة قد تعيق إعادة بنائها مستقبلًا؟ الكتاب يطرح هذه الإشكاليات، لكنه لا يحسمها، وهو خيارٌ قد يُحسَبُ له أكاديميًا، وإن ترك القارئ الباحث عن إجاباتٍ عملية بشيء من القلق.

لغة أكاديمية بروح تحليلية

من حيث الأسلوب، يلتزم الكتاب بلغة أكاديمية رصينة، لكنها ليست جافة. فالفصول مكتوبة بروح تحليلية واضحة، وتستفيد من خلفيات مؤلفيها المتنوّعة بين البحث الأكاديمي والعمل الميداني. ورُغمَ أنَّ بعض الفصول يميلُ إلى الكثافة النظرية، فإنَّ البناء العام يحافظ على توازن معقول بين المفهوم والتطبيق.

الواقع أنه يمكن القول إن “الحوكمة من دون حكومة” ليس مجرّد كتابٍ عن الفاعلين من غير الدول، بل هو محاولة جادة لإعادة التفكير في الدولة نفسها، وحدودها، ومستقبلها في منطقة مأزومة. قوته الأساسية تكمن في شموليته، وتعدديته، وجرأته على مساءلة المسلّمات السائدة في دراسات الحوكمة وبناء الدولة.

في المقابل، قد يشعر بعض القراء أنَّ الكتاب يُركّز أكثر على توصيف الواقع وتحليله، وأقل على تقديم تصوُّراتٍ عملية لكيفية الانتقال من الحوكمة الهجينة إلى نُظُمٍ أكثر استقرارًا وعدالة. لكن ربما تكمن قيمة الكتاب تحديدًا في هذا التواضع المعرفي: فهو لا يقدّم وصفات جاهزة، بل يوفّر أدوات تحليل تساعد الباحثين وصنّاع السياسات على فَهمِ واقعٍ لا يمكن تغييره قبل الاعتراف بتعقيده.

بهذا المعنى، يشكّل الكتاب إضافة نوعية للمكتبة العربية والأجنبية المهتمة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومرجعًا مهمًا لكل من يسعى إلى فهم الحوكمة خارج قوالب الدولة التقليدية، في زمن تتقدّم فيه الأسئلة على الإجابات

  • سمير الحلو هو صحافي لبناني من أسرة “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى