حينَ يُعيدُ المِيدانُ تَشكيلَ القرار: الفلسطينيون على حافةِ تَحَوُّلٍ سياسيٍّ حاسِم
تكشفُ البيانات الميدانية أنَّ الفلسطينيين يُعيدون تقييمَ خياراتهم بين المقاومة والتسوية، فيما يُحدِّدُ أداءُ وقف إطلاق النار مُستقبلَ الشرعية السياسية في غزة والضفة الغربية.

محمد الجوهري*
شَكّلَ وقفُ إطلاق النار الهشّ بين إسرائيل وحركة “حماس” أوّلَ فرصة جدّية لالتقاط الأنفاس في حربٍ تعيش عامها الثاني في غزة. وعلى الرُّغم من أنّ الخطوط العريضة لمسارٍ سياسي باتت تحظى بقبولٍ دولي واسع—تُرجِمَ أخيرًا بموافقة مجلس الأمن الدولي على الخطة التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 17 تشرين الثاني (نوفمبر)—فإنّ الأسئلة الأعمق ما زالت بلا إجابات. فمسائل من قبيل: مَن يَحكُمُ غزة في اليوم التالي؟ وهل تُنزَع أسلحة “حماس” وكيف؟ وكيف يُمكِنُ إدماجُ الحركة في الحياة السياسية؟ وما مصير الاحتلال الإسرائيلي المستمر؟ كلّها قضايا تتجاوزُ قدرةَ أيِّ قرارٍ دولي. فمصيرُ العملية السياسية سيعتمد، بدرجةٍ كبيرة، على ما يريده الفلسطينيون أنفسهم.
منذ الساعات الأولى لهجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، اصطفّ الفلسطينيون خلف “حماس”، مُعتبرين المقاومة المسلحة أداةً ضرورية لمواجهة الاحتلال. لكنَّ الكلفةَ الإنسانية الهائلة التي أعقبت الغزو الإسرائيلي—عشرات آلاف القتلى ودمار طال أكثر من 90% من الأبنية السكنية—أعادت تشكيلَ المزاج الشعبي. ومع طولِ أمدِ الحرب واستنزاف المجتمع، تراجعت النظرة إلى “حماس” والكفاح المسلح عمومًا، ولو ظلّ كثيرون مُتردِّدين في تبنّي بدائل واضحة. ومع ذلك، بدأت المؤشرات تُظهِرُ انفتاحًا مُتزايدًا على تسويةٍ تفاوضية مع إسرائيل، ورغبةً أكبر في أن تتولّى هيئة فلسطينية جديدة، لا تتبع لـ”حماس”، إدارة غزة بعد الحرب.
إذا واصلت هذه التوجُّهات مسارها الحالي، فقد يجد الفلسطينيون أنفسهم أكثر ميلًا إلى دعمِ تشكيلِ هيئةٍ حاكمة جديدة من خبراء ومتخصِّصين فلسطينيين، تكون مستقلة تمامًا عن “حماس” وعن السلطة الفلسطينية، وتحظى بإسنادٍ من شركاءٍ عرب ودوليين. لكنَّ هذا الاحتمالَ بعيدٌ من أن يكونَ مضمونًا؛ إذ إنَّ نجاحَهُ يتوقّفُ على الكيفية التي ستُديرُ بها إسرائيل والولايات المتحدة و”حماس” وقف إطلاق النار، وعلى ما إذا كانت الخطوات التالية ستُعزّزُ ثقةَ الفلسطينيين بالمسار التفاوضي وبالقيادة السياسية التي قد تتولّى المرحلة المقبلة.
خلال الأسابيع الأخيرة، لم يكن أداءُ الأطراف مشجّعًا: ممرّات المساعدات التي تشرف عليها الأمم المتحدة فُتِحَت ثم أُغلِقت مرارًا، صفقاتُ تبادل الأسرى تعثّرت، أي قوة دولية لحفظ الاستقرار لم تُنشَأ، والغاراتُ الإسرائيلية عادت لتُوقِع قتلى فلسطينيين. هذه الوقائع جميعها تُقوِّضُ الثقة المطلوبة لمساندة أي عملية سلام. ففي المرحلة التي سبقت وقف إطلاق النار، كانت مخاوف الفلسطينيين من سوء الإدارة اليومية أحد الأسباب التي دفعت كثيرين إلى الابتعاد من “حماس”. والإبقاء على هذا التحوّل يتطلّب توفير الأمن والمساعدات وإعادة الإعمار بطريقةٍ فعّالة ومنظَّمة، بما يمنح الفلسطينيين دليلًا ملموسًا على أنَّ سلطةً مدنية مُحترمة—برضا الفلسطينيين وبمساندة المجتمع الدولي—يمكن أن تكون بديلًا قابلًا للحياة وجديرة بالدعم.
إرتفاعات وانخفاضات
على الجانب الآخر، يكشفُ مسار استطلاعات الرأي عن حجم التقلّبات في المزاج الشعبي. فالمؤشر الأكثر موثوقية يبقى استطلاعات المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، وهو مؤسسة مستقلة تعمل منذ 1991. بين آذار (مارس) 2023 وتشرين الأول (أكتوبر) 2025، أجرى المركز تسعَ جولاتٍ من الاستطلاعات في غزة والضفة الغربية، تُقدّمُ صورةً دقيقة عن كيفية تغيُّرِ الرأي العام قبل الحرب وفي ذروتها وفي مراحلها اللاحقة.
في أحد الأسئلة الجوهرية، طُلِبَ من المشاركين تحديد الجهة الأكثر أهلية لتمثيل الفلسطينيين وقيادتهم: حركة “حماس”، حركة “فتح”، أم لا أحد. قبل هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كانت الساحة الفلسطينية في حالة شبه جمود: 27% دعموا “حماس”، و24% أيّدوا “فتح”، بينما اختار معظم المشاركين الإجابة التي تفيد بأنَّ أيًّا من الطرفَين لا يستحق القيادة. لكنَّ الحربَ قلبت هذا المشهد بالكامل. ففي أول استطلاع نُشِرَ بعد الهجمات، في كانون الأول (ديسمبر) 2023، صرّحَ أكثر من نصف الفلسطينيين بأنَّ “حماس” هي الأجدر بالقيادة، فيما تراجع التأييد ل”فتح” وتقلّصت نسبة من رَؤوا أنَّ الخيارَين معًا غير مقبولَين.
يُمكِنُ فَهمُ موجةَ الدعم التي حصدتها “حماس” بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) عبر أكثر من زاوية. فبالنسبة إلى شريحةٍ واسعة من الفلسطينيين، بدت تلك الهجمات ردًّا مشروعًا على الاحتلال وعلى سلسلةٍ طويلة من الاستفزازات الإسرائيلية، كما رأى كثيرون فيها وسيلةً فعّالة لخلقِ زخمٍ قد يفضي إلى الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين. هذه القراءة منحت الحركة قدرًا من الشرعية الأخلاقية والاستراتيجية، ودفعت بفلسطينيين كانوا مُتردّدين في السابق إلى الاصطفاف خلف طرفٍ بدا وكأنه يُمسِكُ بزمامِ المبادرة ويتصرّفُ بسلطةٍ وثقة—وهو ما يشبه “تأثير الحشد” المعروف في لحظاتِ الصراع الكبرى.
إنخفاض التأييد
وخلال ربيع وصيف 2024، ظلّت كتلةٌ واسعة من الفلسطينيين مُلتَفَّة حول “حماس”. غير أنَّ الصورة بدأت تتغيّرُ مع ارتفاعِ أعداد الضحايا واتساع رقعة الدمار والنزوح، وخصوصًا في غزة. ومع تمدُّدِ الكارثة الإنسانية، تراجعت النظرة الإيجابية بأثرٍ رجعي إلى هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وازدادَ عددُ مَن وصفوه لاحقًا بأنه كان “خطأً”. نتيجة ذلك، انخفضت نسبة مَن اعتبروا “حماس” الأجدر بقيادة الفلسطينيين إلى 41% بحلول خريف 2025. صحيحٌ أنَّ الدعم بقي أعلى مما كان عليه قبل الحرب، لكنَّ صعوبةَ التمسُّك بخيارٍ عسكري طويل الأمد، إضافة إلى الإدراك المتزايد لأهمية إدارةٍ فعّالة في مرحلة ما بعد القتال، منعت الحركة من تثبيت أغلبية مستقرّة ودائمة.
المنحى ذاته ظهر عند سؤال الفلسطينيين عن خياراتهم في انتخاباتٍ رئاسية وتشريعية افتراضية. فبعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، ارتفعت شعبية مرشحي “حماس” بشكلٍ لافت، لكنها سرعان ما بدأت تتراجع تدريجًا. بقيت الحركة وقادتها في الصدارة في معظم السيناريوهات المحتملة للمواجهات المباشرة، لكن هامش التقدم أخذ يضيق مع مرور الوقت. في المقابل، شهدت حركة “فتح” تراجُعًا واضحًا في دعم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بعد الهجوم، وظلّ أداؤه مُتدنيًا. غير أنّ المشهدَ يصبح أكثر تنافسية عندما يُستبدل عباس بمُرشَّحٍ آخر من داخل “فتح”. فقد أظهرت نتائج الاستطلاع أنَّ الفلسطينيين يُفضّلون مروان البرغوثي—القيادي البارز في “فتح” والمُعتَقل في إسرائيل منذ مشاركته في الانتفاضة الثانية—على أيِّ مُرشَّحٍ محتمل من “حماس” بفارقٍ يصل إلى 16 نقطة مئوية.
عندما طُرِحَ سؤالُ “اليوم التالي” للحرب على الفلسطينيين، بدا واضحًا أنَّ مواقفهم أصبحت أكثر مرونة مع مرور الوقت. ففي أيلول (سبتمبر) 2024، لم يُبدِ سوى 27% استعدادًا لقبول عودة السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس إلى حكم غزة، فيما عارضَ ذلك 70%. لكن بحلول أيار (مايو) 2025، ارتفعت نسبة التأييد إلى 40% وتراجعت المعارضة إلى 56%. وبعد بضعة أشهر، في تشرين الأول (أكتوبر) 2025، حين سُئل المستجيبون عن رأيهم في إدارة غزة عبر لجنة مهنية تُنسّقها السلطة الفلسطينية، أبدى 54% من سكان غزة و40% من سكان الضفة الغربية تأييدهم لهذا السيناريو.
اتسع هذا الانفتاح أيضًا ليشمل فكرة وجود قوة أمنية عربية أو دولية إلى جانب إدارة مدنية فلسطينية. ففي حزيران (يونيو) 2024، أيّد 23% فقط هذا الطرح، بينما رفضه 75%. لكن في أيار (مايو) 2025، ارتفعت نسبة القبول إلى 31% وانخفض الرفض إلى 65%. وبحلول تشرين الأول (أكتوبر) 2025، أصبحت الأرقام أكثر لفتًا للنظر: 53% من فلسطينيي غزة و43% من سكان الضفة باتوا يؤيدون هذا النموذج، وهو تحوّلٌ يُظهِرُ استعدادًا مُتزايدًا للنظر في ترتيباتٍ أمنية مُختلطة طالما أنها تفتحُ البابَ لحُكمٍ مدني فعّال.
في الوقت نفسه، بدأ الفلسطينيون يُبدون انفتاحًا أكبر على خيار التفاوض مع إسرائيل. فمنذ ما قبل الحرب، كانت غالبية الفلسطينيين تعتبرُ حل الدولتين غير قابل للتطبيق، ولذلك لم يكن مُفاجئًا أن يميلَ كثيرون نحو الكفاح المسلح عندما يُسألون عن أفضل وسيلة لإنهاء الاحتلال. لكن هذه المعادلة تغيّرت مع طول الحرب وتفاقم أثمانها. فبعد أن بلغ دعم الكفاح المسلح ذروته بنسبة 63% مباشرة بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، انخفض إلى 40% بحلول تشرين الأول (أكتوبر) 2025، ما يعني أن غالبية الفلسطينيين باتت تفضّل مسارًا غير عسكري.
بالمقابل، ازداد عدد من يرون في المفاوضات خيارًا واقعيًا: ارتفعت نسبة مؤيدي الحل التفاوضي من 20% قبل الحرب إلى 36% في تشرين الأول (أكتوبر) 2025، فيما اختار 19% المقاومة السلمية كأفضلِ وسيلةٍ للمضي قُدُمًا. وحتى النظرة إلى حلِّ الدولتين—المُحَمَّل بكثيرٍ من الشكوك والتجارب الفاشلة—شهدت تحوُّلًا ملحوظًا: فقد ارتفعت نسبة مَن يرونه قابلًا للتطبيق من 33% في أيار (مايو) إلى 41% في تشرين الأول (أكتوبر).
ورُغمَ أنَّ كثيرين ما زالوا يُشكّكون في قدرة هذا الإطار على تحقيقِ دولةٍ فلسطينية فعلية، فإنَّ المفاوضات استعادت قدرًا من الشرعية؛ لا لأنَّ الفلسطينيين باتوا يثقون بها بالكامل، بل لأنَّ جُزءًا مُتزايدًا منهم بات يرى فيها الخيار العملي الأكثر واقعية في ظلِّ الظروف الراهنة.
ومن اللافت أنّ اتجاهاتَ الرأي بين فلسطينيي غزة والضفة الغربية لم تتحرَّك بالوتيرة نفسها. ففي الضفة، حيث الاحتكاكات اليومية مع الجيش الإسرائيلي وتصاعد عنف المستوطنين جُزءٌ من الواقع المستمر، كان التأييد لـ”حماس” بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) أعلى وأكثر ثباتًا طوال فترة الحرب. أما في غزة، فكانَ المسارُ مختلفًا بشكلٍ واضح: فقد أدت الخسائر البشرية الهائلة، والنزوح الواسع، والدمار شبه الكامل للبنية السكنية، إلى دفع السكان نحو مواقف أكثر براغماتية وأسرع تغيّرًا. هناك، انفتح الفلسطينيون مُبكرًا على خيار المفاوضات، وأبدوا استعدادًا أكبر للنظر في ترتيبات حُكمٍ انتقالية أو هجينة لا تكون “حماس” طرفًا مباشرًا فيها في مرحلة “اليوم التالي”. وهذا لا يعني بالضرورة أنَّ الغزّيين تخلّوا عن الحركة، لكنهم أصبحوا أكثر تقبُّلًا للبدائل التي قد تجلب الإغاثة وتُعيدُ إطلاقَ عملية إعادة الإعمار. ففي تشرين الأول (أكتوبر) 2025، على سبيل المثال، أيّد 51% من سكان غزة—مقابل 41% فقط من سكان الضفة—خيار تشكيل سلطة فلسطينية جديدة لا تتبع لا لـ”حماس” ولا للسلطة الفلسطينية لتولّي إدارة القطاع.
اختيارات كبيرة
تُظهِرُ نتائج عامَين من الاستطلاعات مسارًا واضحًا. ففي المرحلة الأولى، وتحت ضغط الحرب وتداعياتها، رأى معظم الفلسطينيين أنَّ “حماس” هي الطرف الأكثر قدرةً على إدارة المواجهة مع إسرائيل. لكن هذا التأييد لم يتحوَّل في أيِّ مرحلةٍ إلى تفويض سياسي لمرحلة ما بعد الحرب. ومع استمرار القتال، وانتقال النقاش من “مَن يقاوم؟” إلى “مَن يستطيع أن يَحكُم؟”، بدأت مساحة الخيارات تتوسّعُ مُجددًا—خصوصاً في غزة، حيث بات الناس يطمحون قبل كل شيء إلى الأمن والمساعدات وإعادة الإعمار الملموسة. فالرأي العام الفلسطيني يبحث عن إدارةٍ ذات مصداقية تُوفِّرُ الخدمات الأساسية، وتحمي المدنيين، وتفتح الطريق نحو الخروج من حالة الطوارئ المستمرة. يريد الفلسطينيون أن تكون القيادة فلسطينية أوَّلًا، لكنَّ كثيرين منهم مستعدون لقبول دعم عربي ودولي محدود، شرطَ ألّا تُكلّف القوات الخارجية بشكلٍ مباشر بمهمة نزع السلاح وأن يظلَّ دورها تقنيًا ومؤقتًا.
ومن هذه الخلاصات، تبرزُ جملةً من الدروس لصانعي السياسات. أوّلًا، إنَّ تحقيقَ مكاسب مُبكرة وملموسة—كالتخفيف من حدّة العنف في الشوارع، وضمان تدفّق منتظم لقوافل المساعدات التابعة للأمم المتحدة، وإبرام صفقات تبادل تضمن عودة الرهائن الإسرائيليين مقابل الإفراج عن السجناء الفلسطينيين، ووضع خطة واضحة لإعادة الإعمار—كلها خطوات يمكن أن تعمّق الميل الشعبي نحو المفاوضات والانفتاح على خياراتٍ سياسية بديلة لـ”حماس”. أما غياب هذه النتائج، فربما يعيد الفلسطينيين إلى منطق المقاومة المسلحة وتصعيد العنف.
ثانيًا، لا يمكن لأيِّ ترتيبات انتقالية أن تُكتسب شرعيتها ما لم تكن بقيادة فلسطينية. فقد تراجعت شرعية “حماس” بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وفي المقابل لا تستطيع “فتح” بقيادة محمود عباس الادعاء بأنها تملك تفويضًا واضحًا. لكن الاستطلاعات تشير إلى وجود أرضية متنامية لتقبُّلِ فكرة سلطة فلسطينية مُصَلَّحة أو صيغة قيادة جديدة مدعومة بدور إقليمي أو دولي محدود.
ثالثًا، ثمة فارق مهم بين المزاج السياسي في غزة ونظيره في الضفة الغربية. الإجراءات التي قد تعزز شرعية إدارة جديدة في غزة—مثل ضمان ممرّات فعّالة للمساعدات، وتسريع عملية إعادة الإعمار، وتفعيل شرطة مدنية—لن تكونَ كافية وحدها لإقناع الفلسطينيين في الضفة، الذين يعيشون واقعًا يوميًا من المداهمات الإسرائيلية، وتصاعُد عنف المستوطنين إلى مستوياتٍ غير مسبوقة منذ العام 2006، إضافةً إلى القيود الاقتصادية الخانقة. وبالتالي، فإنَّ أيَّ خطة ناجحة يجب أن تُبنى على فَهمٍ عميقٍ لاحتياجات المُجتَمَعَين معًا، وأن تكون قادرة على مخاطبة هواجس كل من الضفة وغزة في آن واحد.
ما سيجري خلال وقف إطلاق النار سيُحدّدُ إلى حدٍّ بعيد المسار الذي سيتخذه المزاج الفلسطيني: هل سيتعزّزُ دعمُ حكومة مدنية جديدة، أم سيعود الناس إلى خيارات أكثر تشدُّدًا؟ ففي السيناريو الأمثل، يصمد وقف إطلاق النار المدعوم بقرارٍ من مجلس الأمن الدولي، ويُتيحُ انطلاقَ عملية انتقال سياسي قابلة للاستمرار. في هذه المرحلة الأولى المثالية، يهدأ العنف، وتستقر قنوات المساعدات، وتنطلق مرحلة إعادة الإعمار ودفع التعويضات، وتُستكمل صفقات تبادل الأسرى والرهائن. ومن ثم، يفترض أن تتشكل حكومة تكنوقراطية تمتلك تفويضًا زمنيًا واضحًا، وميزانية شفافة، وآليات رقابة خارجية على تدفُّق المساعدات. وبعد توفُّرِ الحد الأدنى من الشروط الأساسية—حرية الحركة، وإتاحة الإعلام، وضمانات أمنية عبر شرطة مدنية—يمكن إجراء انتخابات. وتشير البيانات المتاحة إلى أنَّ الدعم لإنهاء الصراع عبر مسار تفاوضي سيرتفع ما دامت خطوات الانتقال هذه تتقدم بثبات.
لكنَّ احتمالاتَ التعثُّر تظلُّ كبيرة، بل وربما أكثر ترجيحًا في ضوء الواقع الميداني. فاستئناف إسرائيل الغارات الجوية، وتصاعد اعتداءات المستوطنين، وتعثّر وصول المساعدات، وغياب الوضوح بشأن تفويض قوة الاستقرار التي أقرتها الأمم المتحدة—كلها عناصر تُقوِّضُ مسارَ الانتقال. وإذا تباطأت المساعدات الإنسانية بشكلٍ كبير، وشهدت إعادة الإعمار تقدُّمًا ضئيلًا، واستمرّت العمليات العسكرية في الضفة الغربية، وتوقفت صفقات تبادل الأسرى والرهائن قبل إتمامها، فمن المرجح أن يتراجَعَ الحماس الشعبي للمفاوضات. حينها، قد تعود تفضيلات الفلسطينيين إلى خيارات الكفاح المسلح وتتجدد الثقة بقيادة “حماس”.
وهذه التحوُّلات لن تكونَ متماثلة في غزة والضفة. ففي غزة، حيث يعيش الناس تحت وطأة الخراب وانهيار الخدمات، سيزداد الضغط الشعبي من أجلِ إدارةٍ فعّالة وسريعة النتائج، ما يجعلُ أي تباطؤ في الإغاثة أو إعادة الإعمار أكثر تكلفة سياسيًا. أما في الضفة الغربية، فمن المتوقع أن يتجه الرأي العام أكثر نحو التشدُّد بفعل الغارات اليومية وعنف المستوطنين والضغوط الاقتصادية. ومع تزايد الإحباط، ستتعرَّضُ أي سلطة انتقالية لمواجهة مباشرة مع الشارع، وستجد القوى المتطرفة أو “المخرّبون المحتمَلون” فرصةً لاستعادة النفوذ عبر استثمار مشاعر الغضب ونقمة الجمهور على غياب التقدُّم.
وإذا انهار وقف إطلاق النار بالكامل، أو شهدت الضفة الغربية موجةَ تصعيدٍ حاد، فمن المرجح أن يعيد المشهد إنتاج حالة “الحشد” التي برزت أواخر العام 2023. حينها، سيعود الدعم لـ”حماس” بقوة، وسيتلاشى سريعًا أيُّ تحسّنٍ محدود في موقع “فتح”، فيما ستزداد نسبة الفلسطينيين الذين يفضلون الانسحاب من الحياة السياسية. وتحوّلات كهذه ستجعل تشكيل سلطة حاكمة جديدة مغامرة وخطوة غير واقعية وغير حكيمة على الإطلاق.
لكن ثمة احتمال واحد قد يعيد رسم الخريطة السياسية الفلسطينية: بروز مروان البرغوثي، أو شخصية إصلاحية أخرى من داخل “فتح”، كمرشَّحٍ موثوق وقادر على تحريك الشارع. فوجود اسم ذي مصداقية إصلاحية سيقدّم منافسًا حقيقيًا لـ”حماس”. فحتى لو بقيت الأخيرة متقدّمة—ولو أجريت انتخابات اليوم قد تحصد أكثر من 40% من الأصوات—إلّا أنَّ وجود بديل جذّاب وقابل للثقة يمكن أن يرفع نسب المشاركة الشعبية ويُقلّص الفارق، ويحوّل السباق إلى منافسة فعلية وليس إلى استفتاءٍ لصالح طرف واحد. بل إنَّ طرح قائمة إصلاحية جدية قد يساهم في نقل جزء من الجمهور بعيدًا من منطق الصراع المسلح نحو أفق سياسي تفاوضي.
وفي مواجهة هذا المشهد الدقيق، تبرز مجموعة من الإجراءات المباشرة التي ينبغي على صانعي السياسات والوسطاء اعتمادها للحفاظ على التزام الفلسطينيين بمسار الانتقال والتسوية. فمن المهم، مثلًا، أن يحظى وصول قوافل المساعدات بالتغطية والاهتمام نفسه الذي تحظى به المؤتمرات السياسية، لإيصالِ رسالةٍ بأنَّ الوعودَ تقترن بإنجازاتٍ ملموسة. وبمجرّدِ إنشاءِ كيانٍ فلسطيني لإدارة المرحلة، ينبغي لهذا الكيان أن ينشرَ سجلًّا دوريًا لعملية إعادة الإعمار تحت إشرافِ رقابةٍ دولية شفافة. ويمكن لهذا السجل أن يكونَ على شكل بوابة إلكترونية قابلة للبحث، أو خريطة تفاعُلية تُظهِرُ المشاريع حيًّا بحي، أو حتى نشرة أسبوعية تُطلع الجمهور على عقود المقاولين، والجداول الزمنية، ونسب الإنجاز، مع توفيرِ آليةٍ واضحة لتقديم الشكاوى ومعالجتها.
إنَّ جعلَ إعادة الإعمار عملية شفافة وقابلة للقياس لا يخدم فقط فكرة المساءلة، بل يعزّزُ ثقةَ الجمهور بأنَّ مسارَ السلام ليس مجرّد تعهّدات سياسية، بل خطوات واقعية تُترجَمُ حياةً يومية أفضل. وفي سياقٍ هشٍّ كالمرحلة المقبلة، قد يكون هذا النوع من الشفافية هو الشرط الضروري للحفاظ على دعم الفلسطينيين لأيِّ تسويةٍ مستقبلية.
عندما يشارك الشركاء العرب والدوليون في دعم مهام الشرطة والإشراف وحلّ النزاعات، يجب أن تكونَ أدوارهم مُحَدَّدة بدقة ومُقيَّدة زمنيًا، حتى لا تتحوَّل إلى بديل من القيادة الفلسطينية نفسها. فجوهرُ أي انتقال ناجح هو أن تُرسَّخ المسؤولية في مؤسسات فلسطينية جديدة، لا أن تُستَبدَل بوجودٍ خارجي طويل الأمد. وفي الضفة الغربية، تحديدًا، ينبغي أن ترافق أي محاولة لبناء قيادة سياسية جديدة إجراءات ملموسة للتقليل من المداهمات الإسرائيلية، والحد من عنف المستوطنين، وإيجاد قناة رسمية تمكّن الفلسطينيين من تقديم شكاواهم ومتابعتها ضمن آليات واضحة للمحاسبة. وأخيرًا، على أيِّ هيئةِ حُكمٍ انتقالية أن تتجنّبَ التسرُّع في الدعوة إلى انتخابات. فاستطلاعاتُ الرأي تُشيرُ إلى أنَّ شريحةً واسعة من الفلسطينيين لا تزال مترددة في المشاركة قبل أن تلمسَ تحسُّنًا ملموسًا في ظروف حياتها اليومية، ما يعني أنَّ إجراء انتخابات مبكرة قد يؤدّي إلى نتائج مشوهة لمصلحة المتشدّدين، ويُنتج قيادةً بلا تفويضٍ حقيقي، ويُعمّقُ الفجوة بين الضفة وغزة بدلًا من تضييقها.
وعلى امتداد الحرب في غزة، رسمت استطلاعاتُ الرأي منحنًى واضحًا لمزاج الشارع الفلسطيني. فقد اكتسبت “حماس” زخمًا في البداية، لكن مع تراكم الخسائر واتضاح حجم التحديات المرتبطة بإدارة غزة في المستقبل، تراجع هذا الدعم تدريجًا، فيما ازدادت رغبة الجمهور في مسارٍ تفاوضي تقوده إدارة فلسطينية تحظى بدعمٍ إقليمي ودولي. ويمكن لوقف إطلاق نار يُنفَّذ بجدية—يرافقه إعلان إسرائيلي صريح بالالتزام بحل الدولتين، والحد من التوسع الاستيطاني، وكبح هجمات المستوطنين—أن يوجّه الرأي العام الفلسطيني نحو وسط سياسي أكثر اعتدالًا، وخصوصًا في غزة، حيث يبحث الناس عن استقرارٍ ملموس. أمّا وقف إطلاقِ نارٍ يبقى حبرًا على ورق، ولا يُترجَم إلى تحسُّنٍ فعلي في حياة الفلسطينيين، فسيدفع المزاج العام في الاتجاه المعاكس. وفي النهاية، سيتحدّد المسار المستقبلي لمواقف الفلسطينيين وفق ما إذا كانت ستُتاح لهم فرصة واقعية لتخيّل مستقبل لا يُختزل في استمرار الحرب بأساليب أخرى.
- محمد الجوهري هو أستاذ علوم سياسية في جامعة جورج ميسون، ولاية فيرجينيا، الولايات المتحدة. وقد قاد سابقًا فريق تحليل الدعاية العربية في مشروع جامعة شيكاغو حول الأمن والتهديدات.




يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.