لبنان بروحِيَّتِهِ وواقِعِه: قراءةٌ في زيارةِ البابا ورمزِيّةِ اللحظة
البروفِسور بيار الخوري*
تُشَكِّلُ زيارة البابا لاون الرابع عشر إلى لبنان مُناسبةً تاريخية تَحمُلُ رَمزيةً روحية واجتماعية كبيرة، لكنها تكشُفُ أيضًا عن تبايُناتٍ عميقة في الواقع اللبناني بين الصورة الرسمية والمشهد الشعبي.
هذا المقال، يُسلّطُ الضوءَ على الرسائل الإنسانية والنقدية التي عبّرَ عنها كاتِبَين لبنانِيَين من خلالِ نَصّين، مُؤكِّدَين على أهمية التركيز على الفقراء والمحتاجين، وعلى كشف الوجه الحقيقي للبنان بعيدًا من المظاهر المُزَخرَفة.
النصّان يَعكسان تجربةً مُزدوجة من زاويَتَين مُختلفتَين للواقع اللبناني قبيل زيارة البابا، مُرَكِّزان على الانقسامِ العميق بين الصورة الرسمية والمشهد الشعبي.
النصُّ الأوّل، للكاتب الدكتور حسن أحمد خليل، يُقدّمُ رؤيةً صارمة، تُحذّر رأس الكنيسة الكاثوليكية من الصفِّ الأمامي في الاحتفالات، حيث تتركّزُ غالبيةُ أصحاب السلطة الفاسدة، من سياسيين ورجال دين وصحافيين وقضاة، الذين استغلّوا مناصبهم ونهبوا المال العام وأذلّوا الناس. يحثُّ الكاتب البابا على التركيز على الفقراء والمساكين والمرضى والأيتام، وعدم الانخداع بالمظاهر أو اعترافات مَن هُم في الصف الأمامي، مُؤكِّدًا أنَّ هؤلاء لا يتوبون وأنَّ مُصافحةَ قادتهم قد تمنحهم تبرئة ضمنية. النصُّ يحوي بُعدًا روحيًا عميقًا، إذ يُشدّدُ على تجربة الكاتب الشخصية مع الله، بعيدًا من السلطات الطائفية، ويُصَوِّرُ المؤمن الحقيقي كمَن يعي الله في الطبيعة وفي قلبه وعقله، بينما يُمثّل الفساد في الصف الأمامي “الشيطان” في أرضِ الواقع.
النص الثاني، للمحامي الكاتب زياد فرام، يأخذ منظورًا أكثر واقعية في البُعدِ الاجتماعي، ويُركّزُ على الفَرقِ بين الصورة التي سيشهدها البابا من خلالِ التحضيرات الرسمية وبين الواقع اليومي اللبناني. يحكي الكاتب عن الطرقات المُرَمَّمة، السيارات المُزَيَّنة، القاعات والكنائس التي أُعِدَّت لتزيين مرور البابا، مقابل بيوتٍ مُظلمة، شعب يكافح يوميًا، وواقع اقتصادي واجتماعي هش. يؤكّدُ فرام على دعوة البابا لرؤية لبنان كما هو حقًا، من دون رتوش، ليتعرَّف على معاناة الناس اليومية، والحقوق الأساسية التي يفتقدونها، وليس على مجرد احتفالاتٍ ومظاهر رسمية.
بينَ النصّين، يَتّضحُ أنَّ هناك محورين رئيسيين: الأول روحاني وأخلاقي يُركّزُ على التمييز بين الخير والشر بين اللبنانيين والنُخبة الحاكمة وأهمّية العدالة الاجتماعية، والثاني اجتماعي وسياسي يُسلّطُ الضوءَ على التبايُن بين الصورة الرسمية والواقع الشعبي. كلا النصّين يَتَّفقان على أنَّ البابا مَدعُوٌّ للتركيز على الفقراء والمحتاجين والمجتمع المدني، وليس على رموز السلطة الذين استغلّوا المناصب لتحقيق مصالح شخصية، سواء كانوا مسيحيين أو من طوائف أخرى. النصّان يُقدّمان دعوةً مُتكاملة للوَعي، حيثُ الجَمعُ بين البُعدَين الروحي والواقعي يُعطي البابا فُرصَةً لفَهمِ لبنان بصدق، بعيدًا من الواجهة الرسمية، ويُركّزُ على الإنسان العادي كمُرتَكَزٍ رئيس في الزيارة.
هكذا يُمكِنُ النظرُ إلى زيارة البابا كمرآةٍ روحية واجتماعية للبنان: فهي تضعُه أمامَ الاختبارِ الحقيقي بين المظاهر والجوهر، بين السلطة والعدل، بين الأداء الرمزي والحقيقة اليومية للناس. لبنان، بهذه الزيارة، يطرحُ سؤالًا وجوديًا عن القدرة على الاستمرار في ظلِّ الفساد، والانقسامات الطائفية والسياسية، وعن مسؤوليةِ كلِّ مواطنٍ تجاه مجتمعه. إنَّ التركيزَ على الإنسان العادي والفقراء والمحتاجين ابعد من مجرّدِ واجبٍ أخلاقي، هو يُمثّلُ اختبارًا للوعي الاجتماعي والقدرة على الإصلاح.
إنَّ مُواجَهةَ الشرِّ المُتَجَسِّدِ في بعضِ مَن هُم في الصفِّ الأمامي تُذَكِّرنا أنَّ التغييرَ يبدأُ بفَهمِ الواقع كما هو، وبالاعترافِ بالمسؤولية الفردية والجماعية. وهكذا تُصبح زيارة البابا، بما تَحملُ من رمزيةٍ دينية وروحية، فُرصةً لتأمُّلٍ أعمق في العدالة، الرحمة، والتضامُن، وتذكيرًا بأنَّ جوهرَ أيِّ مجتمعٍ يعيشُ ويزدهر في مدى اهتمامه بمَن هُم الأكثر ضعفًا وتعرُّضًا، بعيدًا من التزييف والواجهات الرسمية
- البروفِسور بيار الخوري هو باحثٌ أكاديمي لبناني وكاتب في الاقتصاد السياسي. وهو حاليًا عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: info@pierrekhoury.com



