إنقلابٌ جيواستراتيجي: لماذا قَفَزَت كازاخستان إلى قطارِ اتفاقيات أبراهام؟
يُثيرُ انضمامُ كازاخستان إلى اتفاقيات أبراهام أسئلةً تتجاوزُ الشرق الأوسط لتصل إلى قلب التنافس على جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. فالخطوةُ تبدو أقل ارتباطًا بإسرائيل، وأكثر دلالةً على إعادة تموضع أستانا بين واشنطن وموسكو في مرحلةٍ تتغيّر فيها خرائط النفوذ بسرعة.

فريدا غيتيس*
أثار إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأسبوع الماضي انضمام كازاخستان، الجمهورية السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى، إلى اتفاقيات أبراهام موجةً من الشكوك بين المراقبين، إذ اعتبر كثيرون أنَّ الخطوةَ رمزيةٌ ولا تَحمُلُ وزنًا سياسيًا حقيقيًا. لكن هذا التقدير كان في غير محلّه.
فاتفاقيات أبراهام، التي أرست تطبيعَ العلاقات بين إسرائيل وكلٍّ من الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان، لم تُعِد فقط صياغةَ خارطة التحالفات الديبلوماسية في الشرق الأوسط، بل أصبحت أيضًا إحدى ركائز النفوذ الأميركي في منطقةٍ بالغة الأهمية. ومن هنا تبرزُ دلالة قرار كازاخستان. فبانضمامها إلى اتفاقٍ ترتكزُ هندسته إلى واشنطن، تزدادُ ابتعادًا عن موسكو في لحظةٍ حساسة يخوض فيها الكرملين معركةً لإعادة تثبيت نفوذه التقليدي وسط منافسةٍ إقليمية ودولية متصاعدة—منافسة اشتدت حدتها منذ الغزو الروسي الواسع لأوكرانيا في العام 2022.
عبر المناطق الزمنية الإحدى عشرة التي امتدّ عليها الاتحاد السوفياتي السابق، ظلّ السؤال السياسي الأبرز منذ انهياره يتعلّقُ بشكل العلاقات التي ستربط الجمهوريات المستقلة حديثًا بموسكو، القوة التي حكمتها لعقود. فمن دول البلطيق التي رسّخت نفسها داخل المنظومة الغربية وتُواجِهُ حتى اليوم هجماتٍ روسية هجينة، إلى أوكرانيا التي تخوض مع موسكو أكبر حرب تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية؛ ومن القوقاز المشتعل حيث تتواجه حركاتٌ ديموقراطية مع قوى موالية لروسيا، وصولًا إلى آسيا الوسطى التي تحاولُ دولها الناطقة باللغة التركية رَسمَ مسارٍ مستقل—تتمحور الحياة السياسية في هذه المناطق حول سؤال واحد: كيف تتعامل كل دولة مع النفوذ الروسي؟
ولفهم دلالات قرار كازاخستان ربط نفسها بأبرزِ إنجازٍ ديبلوماسي حققه ترامب في ولايته الأولى، يجب النظر إلى الخطوة خارج إطار إعادة تشكيل تحالفات الشرق الأوسط. فالأدق هو وضعها ضمن المشهد المستمر للصراع على ولاء الجمهوريات السوفياتية السابقة، وهو صراع تحتدم فصوله منذ ثلاثة عقود.
صحيح أنَّ كازاخستان لا تبدو، من حيث الجغرافيا أو الهوية، دولة ملائمة تمامًا لاتفاقيات أبراهام الأصلية المُتَمَحورة حول الشرق الأوسط. فهي دولة غالبية سكانها من المسلمين، لكنها ليست عربية، وتقعُ على بُعد آلاف الكيلومترات من قلب المنطقة. والأهم أنها، على عكس كثير من الدول المُنضَمَّة إلى الاتفاقيات، ترتبطُ بإسرائيل تاريخيًا بعلاقاتٍ طبيعية ووثيقة. فبعد استقلالها مباشرة، اعترفت كازاخستان بإسرائيل في العام 1992، وافتتحت سفارة في تل أبيب، وحافظت منذ ذلك الحين على تواصُلٍ ديبلوماسي وتجاري نشط معها. وبالمقارنة، فإنَّ العلاقات المغربية–الإسرائيلية، رُغم قدمها، بقيت غير رسمية قبل التطبيع.
من هذا المنطلق، فإنَّ خطوةَ الرئيس قاسم جومارت توكاييف خلال زيارته إلى البيت الأبيض—عندما منح ترامب انتصارًا ديبلوماسيًا عبر تعهّده بأن تكون كازاخستان أول دولة تنضم إلى الاتفاقيات منذ خمس سنوات—لا تتعلق أساسًا بإسرائيل. إنها خطوةٌ مُوَجَّهة نحو واشنطن، وتحملُ رسالة واضحة لموسكو: أستانا تُعيدُ تموضعها بعيدًا من المدار الروسي، وتقتربُ أكثر من المظلّة الأميركية.
تبرزُ خطوة كازاخستان اليوم باعتبارها لافتة على نحوٍ خاص، لأنَّ الرئيس قاسم جومارت توكاييف ربما ما كان ليظل في السلطة لولا تدخُّل فلاديمير بوتين قبل عامين فقط. ففي كانون الثاني (يناير) 2022، شهدت البلاد موجةً واسعة من الاحتجاجات المُناهضة للحكومة بعد ارتفاعٍ حاد في أسعار الوقود. وجاءت هذه الاضطرابات بعد ثلاث سنوات فحسب من تولّي توكاييف الحكم خلفًا لنور سلطان نزارباييف، الذي قاد كازاخستان بقبضةٍ استبدادية منذ الاستقلال ولمدة تقارب ثلاثة عقود. ورأى كثيرون في تلك اللحظة صراعًا مكتومًا على النفوذ بين الرجلين، في وقتٍ كانت قبضة توكاييف على السلطة لا تزال هشّة. ومع سقوط عشرات القتلى في الاشتباكات مع قوات الأمن، بدا أنَّ الرئيس الجديد يفقد السيطرة — إلى أن وافق بوتين على إرسالِ قوات روسية ضمن مهمة “حفظ سلام” شكّلتها منظمة معاهدة الأمن الجماعي، لكنها كانت عمليًا قوة تدخُّل لقمع الانتفاضة.
وبمجرّد أن أعاد بوتين تثبيت توكاييف في موقعه، أعلن الانتصار واصفًا الاحتجاجات بأنها “مؤامرة إرهابية مدعومة من الخارج”، ومُتعهِّدًا بتوفير الحماية لحكّام الجمهوريات السوفياتية السابقة كلما استدعت الحاجة. لكن في تلك المرحلة، كان القلق من حملة موسكو لتقويض استقلال هذه الدول قد أخذ يتصاعد بالفعل في أرجاء المنطقة. فروسيا كانت قد أشعلت قبل ذلك انتفاضة انفصالية في دونباس الأوكرانية وقدّمت للمتمرّدين السلاح والمقاتلين، لكن اللحظة المفصلية جاءت بعد أسابيع فقط، حين دفع بوتين الدبابات الروسية نحو أوكرانيا في محاولةٍ واضحة للسيطرة على البلاد بأكملها.
كان الغزو الروسي لأوكرانيا صادمًا بوجهٍ خاص لكازاخستان، لأنه مَثّلَ خرقًا فاضحًا لمذكرة بودابست لعام 1994، التي تعهّدت فيها موسكو —إلى جانب واشنطن ولندن— باحترام سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها مقابل تخلّي كييف عن ترسانتها النووية السوفياتية لصالح روسيا. ووقّعت كلٌّ من بيلاروسيا وكازاخستان اتفاقاتٍ مماثلة في تلك الفترة. لكن الأحداث أثبتت أنَّ تعهّدات موسكو لم تكن أكثر من حبرٍ على ورق.
وبينما تقاتل أوكرانيا اليوم دفاعًا عن استقلالها، تحوّلت بيلاروسيا المجاورة إلى دولةٍ تابعة عمليًا للكرملين. فبعد الانتخابات الرئاسية المُزَوَّرة وما أعقبها من احتجاجاتٍ عارمة، أنقذ بوتين الرئيس ألكسندر لوكاشينكو من السقوط، وبات الأخير يعتمد على موسكو في استمرار حكمه وفي بقاء اقتصاد بلاده على قيد الحياة.
وفي الجهة الأخرى من أوكرانيا، تواجه مولدوفا —الدولة الصغيرة المحاصرة بين طموحاتها الأوروبية وضغوط روسيا— احتمال الوقوع تحت السيطرة الروسية إذا نجح بوتين في إخضاع أوكرانيا. فالقوات الروسية تسيطر بالفعل على منطقة ترانسنيستريا الانفصالية منذ تسعينيات القرن الماضي، بينما تتعرض حكومة مولدوفا لأساليب هجينة من التدخُّل الروسي تهدفُ إلى إرباك مؤسساتها وزعزعة استقرارها في الوقت الذي تسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
أما في الشمال، فقد سارعت دول البلطيق —إستونيا ولاتفيا وليتوانيا— إلى الاندماج الكامل في مؤسّسات الغرب، إذ انضمّت إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي فور سقوط الاتحاد السوفياتي. ومنذ ذلك الحين، لم تتوقّف عن التحذير من الخطر الروسي، وهي اليوم من أكثر الدول الأوروبية تشدُّدًا في معارضة موسكو والوقوف ضد نفوذها.
في جنوب القوقاز، تحوّلت جورجيا إلى ساحة صراع سياسي مفتوح بين غالبيةٍ شعبية تطمحُ للانضمام إلى الغرب، وحزب “حلم جورجيا” الحاكم، الذي يتّجه أكثر فأكثر نحو موسكو بينما يُضَيِّقُ الخناقَ على الديموقراطية بدعمٍ غير مباشر من الكرملين. أما أرمينيا المجاورة، التي كانت لسنواتٍ الحليف الأقرب لروسيا وعضوًا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي وتستضيف قاعدة عسكرية روسية، فقد شعرت بخيبةِ أملٍ عميقة بعدما أحجمت موسكو عن دعمها في مواجهتها مع أذربيجان حول جيب “ناغورنو كاراباخ”، وهو إقليمٌ انفصالي ذي غالبية أرمنية سعى إلى الاستقلال عند تفكُّك الاتحاد السوفياتي وتمتّعَ بحُكمٍ ذاتي فعلي لعقود. هذا التحوُّل دفعَ يريفان بدورها إلى إعادة النظر في توجُّهاتها والاقتراب أكثر من الغرب.
وفي المقابل، تسعى أذربيجان —المُستفيدة من ثرواتها النفطية— إلى المناورة بين علاقاتها التاريخية مع روسيا، وصلاتها الثقافية العميقة بتركيا، وشراكاتها السياسية المتنامية مع أوروبا، في محاولةٍ للحفاظ على هامش مرونة وسط التوتّرات الإقليمية.
أما آسيا الوسطى، تلك المنطقة الواسعة البعيدة جغرافيًا من موسكو والقريبة سياسيًا واقتصاديًا من الجميع، فتشهد بدورها إعادة اصطفاف لافتة. فالصين، الجار العملاق والشريك التجاري الأول لدول المنطقة، وتركيا، صاحبة الروابط الثقافية واللغوية معها، هما أكبر المستفيدين من تراجع النفوذ الروسي. أوزبكستان، التي تلتزمُ سياسةَ حيادٍ واضحة، ترفضُ الوقوفَ مع موسكو في حربها على أوكرانيا، وتعمل على تعزيز علاقاتها مع الغرب وأنقرة وبكين في آن واحد. وعلى النهج نفسه، تحاول قيرغيزستان —المُعتَمِدة اقتصاديًا على روسيا— توسيع خياراتها السياسية عبر بناءِ شراكاتٍ أقوى مع الصين وتركيا. أما طاجيكستان، التي تبقى الأقرب إلى موسكو، فتسعى بدورها إلى تنويع علاقاتها عبر فتح قنوات تعاون أوسع مع الصين وتركمانستان لتأمين درجة من الحياد الاستراتيجي.
وهنا نعود إلى كازاخستان، أكبر وأكثر جمهوريات آسيا الوسطى ثراءً بين دول الاتحاد السوفياتي السابق، والتي تبنّت على مدى سنوات سياسةً خارجية “متعددة الاتجاهات” تقومُ على موازنة علاقاتها بين مختلف مراكز النفوذ الإقليمي والدولي. وفي هذا السياق تحديدًا تبرزُ أهمية اتفاقيات أبراهام بالنسبة إليها.
فالتحاقُ أستانا بالاتفاق الذي يرفعه ترامب كأحد إنجازاته الديبلوماسية ليسَ مجرّدَ خطوةٍ رمزية. إنه محاولةٌ محسوبة لكسبِ موقعٍ مُميّز لدى الرئيس الأميركي عبر منحه انتصارًا جديدًا، مع إبقاءِ الباب مفتوحًا أمام تعاونٍ أوسع مع واشنطن. وفي الوقت نفسه، يمثّل هذا القرار ابتعادًا إضافيًا عن المدار الروسي، الذي باتت كازاخستان ترى فيه شريكًا غير موثوق وربما مهدِّدًا. ومن خلال هذه المناورة، تسعى أستانا إلى تعزيز استقلالها وتوسيع هامش حركتها الاستراتيجية في لحظةٍ إقليمية ودولية شديدة الحساسية.
- فريدا غيتيس هي كاتبة ومحللة سياسية متخصّصة في الشؤون الدولية. يمكن متابعتها عبر منصة “إكس”على: @fridaghitis.




يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.