الشرق الأوسط يُعادُ رَسمُهُ من دمشق: الصراعُ الجديد على سوريا

من رمادِ الحربِ ينهضُ نظامٌ جديد في سوريا، يُعيدُ رَسمَ موازين القوى ويُحَوّلُ دمشق إلى ساحةِ اختبارٍ لمستقبل الشرق الأوسط. بين تحالفٍ تركي–خليجيٍ مُتقدِّم وتَوَجُّسٍ إسرائيليٍ مُتصاعد، تبدأ فصولُ لعبةٍ إقليمية تتجاوز حدود البلاد.

الرئيس أحمد الشرع في الأمم المتحدة: إستعادة الإعتراف الدولي.

محمد فوّاز*

أعادَ سقوطُ نظام بشار الأسد رَسمَ ملامح المشهد الإقليمي لسوريا، مُنهيًا حقبةً طويلة من النفوذ الإيراني ومُفتَتِحًا مرحلةً جديدة تَتَّسِمُ بصراعٍ محتدم على إعادة صياغة التوازنات الجيوسياسية في المشرق العربي. وفي خضمِّ هذا التحوُّل، بدأت تتبلور شبكة تحالفات إقليمية غير مسبوقة، تتقدّمها الشراكة التركية–الخليجية الداعمة للرئيس أحمد الشرع، تحت رعايةٍ أميركية دقيقة، رُغمَ المعارضة الإسرائيلية الصريحة للنظام الجديد في دمشق. ومع ذلك، يبقى السؤال الجوهري ماثلًا: إلى أيِّ مدى تتقاطَعُ مصالح إسرائيل مع مصالح داعمي الشرع، وأين تبدأ خطوط التباعد؟

تَجمَعُ القيادة السورية الجديدة وتركيا والسعودية مصلحةٌ واضحة في الحدِّ من النفوذ الإيراني داخل سوريا، ولا سيّما في تفكيك البنية الإقليمية التي نسجتها طهران لرَبطِ وكلائها من طهران إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط. ويُدركُ الرئيس الشرع أنَّ هذا التحدّي يَمُسُّ جوهرَ استقرار حكمه في ظلّ المشهد الدولي المُتقلّب، لذا جعله محورًا ثابتًا في استراتيجيته السياسية. هذا الهدف المشترك —تحجيم النفوذ الإيراني— يُشكّلُ نقطةَ التقاءٍ نادرة بين حلفاء دمشق الجدد وتل أبيب، وإن ظلّت دوافعُ كلَّ طرفٍ مختلفة ومُحَمَّلة بحساباتٍ معقّدة.

بالنسبة إلى أنقرة والرياض، تتجلّى الأولوية في بناءِ دولةٍ سورية مُوَحَّدة ومُستقرّة، تُدارُ بقيادةٍ براغماتية تتعاون مع محيطها الإقليمي. لكن هذا الطموح لا يلقى القبول نفسه في تل أبيب، التي تنظرُ بقلقٍ إلى نشوءِ جارٍ قوي ومُوَحَّد على حدودها الشمالية، خصوصًا إذا كان مدعومًا من تركيا وتحت قيادةٍ سياسية ذات تَوَجُّهٍ إسلامي. وقد عبّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن هذا القلق صراحةً حين قال: “لستُ ساذجًا؛ أنا أعرف مع مَن أتعامل”، في إشارةٍ واضحة إلى النظام السوري الجديد. ترجمت إسرائيل هذا الحذر إلى سياساتٍ ميدانية، تمثّلت في دعم النزعات الانفصالية والطائفية داخل سوريا، وفَرضِ منطقةٍ عازلة في الجنوب، وإحياءِ مشاريع تهدفُ إلى إعادة رسم الخريطة بما يخدم مصالحها الأمنية. ولم يكن مستغربًا أن يُوَجِّهَ الرئيس التركي رجب طيِّب أردوغان اتهامًا مباشرًا لإسرائيل بمحاولةِ تقويضِ جهود الاستقرار في سوريا.

في أعقابِ سقوط النظام السابق، تحرّكت إسرائيل سريعًا لضمان ألّا تستعيد سوريا قدراتها العسكرية السابقة. فاستهدفت بضرباتٍ دقيقة منشآت إنتاج الصواريخ ومستودعات الأسلحة —وعلى رأسها تلك الواقعة في مصياف— إضافةً إلى مواقع عسكرية قرب دمشق وقواعد جوية رئيسية مثل “T-4” وتدمر. كانت الرسالة الإسرائيلية واضحة: يجب أن تبقى القدراتُ الاستراتيجية بعيدةً من متناول الجيش السوري الجديد. في الوقت نفسه، عزّزت إسرائيل وجودها العسكري عبر إنشاءِ منطقةٍ عازلة في الجنوب الغربي، على تخوم الجولان المحتل، مع السيطرة على مواقع مرتفعة في جبل الشيخ. وبذلك، أصبحت القوات الإسرائيلية على تماسٍ مباشر مع دمشق ووادي البقاع اللبناني، ما وضعها في قلبِ مُعادلة الردع مع “حزب الله”، وفَرضِ حدودٍ صارمة على أيِّ توسُّعٍ تركي مُحتَمل في الأراضي السورية.

على الجانب المقابل، كثّفت تركيا تعاونها مع القوات المسلحة السورية عبر برامج تدريب ومبادرات دعمٍ لوجستي ومناوراتٍ مشتركة تهدفُ إلى إعادة بناءِ جيشٍ مُتماسك ومهني. وسارت المملكة العربية السعودية في الاتجاه نفسه، مُؤيِّدةً إعادة انتشار القوات السورية في مختلف أنحاء البلاد رُغمَ اعتراضات إسرائيل، مُعتبرةً ذلك أساسًا لا غنى عنه لاستعادة الأمن الداخلي. وفي هذا الإطار، عملت دمشق على الاستفادة من الدعم التركي والخليجي لإطلاقِ عمليةٍ تدريجية لإعادةِ تأهيل المؤسّسة العسكرية، مع إدراكها الحذر بأنَّ أيَّ تطويرٍ للأسلحة الباليستية أو الدفاع الجوي أو سلاح الجو سيُواجَهُ برفضٍ قاطع من إسرائيل.

أمّا على الصعيدِ السياسي، فقد جعلت القيادة السورية من استعادة الشرعية الدولية والاقتصادية أولوية قصوى ضمن مظلّة الرعاية التركية–السعودية. وخلال فترةٍ وجيزة، عاد الرئيس أحمد الشرع إلى الواجهة العالمية، حيث ألقى كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في وقتٍ أكدت مصادر في البيت الأبيض أن لقاءً مرتقبًا سيجمعه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في واشنطن في العاشر من تشرين الثاني (نوفمبر). اقتصاديًا، بدأت مؤشّرات التغيير بالظهور، إذ خفّف الاتحاد الأوروبي معظم العقوبات المفروضة على دمشق، بينما تدرس الولايات المتحدة مراجعة الإطار القانوني لعقوباتها، في إشارةٍ إلى تحوّلٍ تدريجي نحو التطبيع الحذر. في المقابل، تتحرّكُ تركيا والسعودية بخطى متناسقة لدعم مشروع الشرع: فأنقرة تضع نصب عينيها إعادة بناء البنية التحتية وممرّات النقل التي تربطها بالخليج، فيما تُركّزُ الرياض على تطبيق استراتيجية “الإعمار عبر الاستثمار”، التي تجعلُ من التمويل أداةً لتحقيق الاستقرار السياسي وترسيخ النظام الجديد في دمشق.

تَزايَدَ هذا الزخم الديبلوماسي والسياسي مدفوعًا بإشاراتٍ أميركية إيجابية، خصوصًا من السفير الأميركي في أنقرة والمبعوث الخاص إلى سوريا، توم برّاك، الذي أبدى تفاؤله حيال مستقبل الانفتاح السوري. فقد صرّح في 20 أيلول (سبتمبر) بأنَّ الكونغرس يقترب من إلغاء قانون قيصر، مُعتبرًا ذلك خطوة “ضرورية لإعطاء الاقتصاد السوري فرصةً للتنفّس مُجددًا”، في ما يبدو تمهيدًا لعودة دمشق التدريجية إلى الاقتصاد العالمي. غير أنَّ هذا المسار لا يخلو من العوائق، إذ تُواصِلُ إسرائيل ممارسة ضغوطٍ مكثّفة على واشنطن للإبقاء على العقوبات، باعتبارها أداةً استراتيجية لضمان استمرار نفوذها في الملف السوري.

في الوقت نفسه، انعكست جهودُ القيادة السورية لاستعادة الاعتراف الدولي في طريقةِ إدارتها للشؤون الداخلية، خصوصًا في المناطق الحسّاسة مثل الشرق السوري والساحل والجنوب. وتتبنّى الحكومة سياسةً تقومُ على خفض التصعيد والاحتواء بدلًا من فتح جبهاتٍ عسكرية جديدة. ومن أبرز التحدّيات في هذا السياق العلاقات المتوتّرة مع قوات سوريا الديموقراطية (قسد) ذات الغالبية الكردية، إذ يسعى الرئيس الشرع إلى تسويةٍ تدريجية تضمنُ دَمجَ هذه القوات ضمن مؤسّسات الدولة من دون اللجوءِ إلى مُواجهةٍ مباشرة. وقد عقد الشرع لقاءاتٍ عدة مع القائد الكردي مظلوم عبدي، أسفرت عن تفاهُماتٍ أوَّلية لم تُنفَّذ بعد، بسببِ تضارُبِ المصالح الإقليمية. وبينما تُواصِلُ تركيا ضغطها العسكري على “قسد” لدفعها نحو اتفاقٍ شامل، ترى أنقرة في القضية الكردية مسألةً تمسُّ أمنها القومي مباشرة، خشية امتدادها إلى جنوب تركيا الذي يضم كتلةً سكانية كردية كبيرة.

وانطلاقًا من المبدَإِ نفسه، انتهجت دمشق سياسةَ احتواءٍ محسوبة في المناطق الساحلية ومحافظة السويداء. ففي الساحل، حيث تتركّزُ الطائفة العلوية، تسعى الحكومة إلى موازنة علاقتها مع موسكو من جهة، والاستفادة من الدعم التركي الهادئ من جهة أخرى، لتجنُّب أيّ اضطرابات داخلية. أمّا في السويداء، فتُركّزُ الاستراتيجية على التواصُلِ السياسي والاجتماعي بدل المواجهة الأمنية، في محاولةٍ لاحتواء الزعيم الروحي الدرزي حكمت الهجري والحد من التأثيرات الإسرائيلية على المحافظة. وتهدفُ هذه المقاربة إلى تثبيت سيطرة دمشق تدريجًا، أو على الأقل منع تشكّل بؤر تمرّد جديدة. ولتحقيق ذلك، عززت الحكومة طريق” M5″ السريع الرابط بين دمشق والحدود الأردنية، في خطوةٍ ساهمت بعزل السويداء عن المناطق القريبة من النفوذ الإسرائيلي، بدعمٍ تركي–سعودي مشترك.

ورُغمَ هذه الجهود، يبقى الملف الإسرائيلي الأكثر حساسية وخطورة في معادلة دمشق الجديدة. فالنظام السوري وحلفاؤه يدركون أنَّ المواجهة العسكرية المباشرة ليست خيارًا واقعيًا، ويُعَوِّلون بدلًا من ذلك على مسارٍ تفاوضي طويل الأمد قد يفضي إلى تثبيت شرعية النظام الجديد وتعزيز تعافي البلاد. أما إذا تعثّرت المحادثات، فمن المرجّح أن تلجأ دمشق إلى الصبر الاستراتيجي، مُحافِظةً على قنوات التواصل المفتوحة مع الأطراف كافة، لتعظيم مكاسبها الديبلوماسية والاقتصادية، وترسيخ موقعها تدريجًا كفاعلٍ إقليمي مُتوازِن يسعى إلى تثبيت السلام من موقع قوّة محسوبة.

تنعكسُ الأجندات الإقليمية المتنافسة في سوريا على مستوى أعمق يتجاوز السياسة المباشرة، لتؤثّر في ملامح البنية الجغرافية والاقتصادية للمنطقة. ففي قلب هذه التحوُّلات، برزت فكرة ربط المناطق ذات الغالبية السنّية في تركيا وسوريا والأردن ببقية العالم العربي من خلال ممرّات برية رئيسة، أبرزها الطريق الدولي “M5”. تُراهنُ أنقرة والرياض على إنشاءِ محورٍ سياسي–اقتصادي–لوجستي واحد يمتدُّ من شمال سوريا إلى الخليج، بما يعيد وصل المشرق العربي بشرايين تجارة واستثمار حديثة. وأعلن وزير التجارة التركي أخيرًا أنَّ الممر البري التركي–السوري سيُفتتح العام المقبل، في خطوةٍ تتطلّبُ تنسيقًا مُعقَّدًا يشمل توحيد الإجراءات الجمركية على الحدود، وتحديث البنية التحتية، وتأهيل الطرق الرئيسة. هذه الخطوات لا تقتصرُ على تسهيل حركة البضائع، بل تُمثّلُ أيضًا مشروعًا استراتيجيًا لخلق شبكة لوجستية إقليمية متكاملة تُعيدُ صياغة خريطة النفوذ في المشرق العربي.

وفي موازاة الجهود الاقتصادية، تتعزّزُ الشراكات الدفاعية التركية–الخليجية بوتيرةٍ غير مسبوقة. فقد أبرمت أنقرة مع الرياض صفقةً لشراء طائرات “أكينجي” التركية المُسَيَّرة، فيما وقّعت اتفاقيات استراتيجية مع الكويت تشمل قطاعات الطاقة والنقل البحري والاستثمار والدفاع، إلى جانب العلاقات المتينة القائمة مع قطر ومشاريع أخرى مع دول الخليج. ويهدفُ هذا التقارب العسكري والاقتصادي إلى بناءِ محورِ نفوذٍ يمتدُّ من تركيا إلى الخليج عبر الأراضي السورية والأردنية، في مواجهةِ أيِّ مساعٍ إسرائيلية لإنشاءِ ممرِّ نفوذٍ مُضاد يمتدُّ من الجنوب السوري إلى التنف ودير الزور فالمناطق الكردية شمال شرق البلاد وصولًا إلى كردستان العراق.

غيرَ أنَّ الصراعَ على مستقبل سوريا لم يُحسَم بعد، ولن يُحسَمَ قريبًا. فبينما تظهر مؤشّراتٌ مُتزايدة إلى ترسيخ النظام الجديد بقيادة أحمد الشرع، يبقى الموقف الأميركي العامل الحاسم في مسارِ الأحداث المقبلة. فإذا قرّرت واشنطن كبحَ طموحات كلٍّ من إسرائيل وقوات سوريا الديموقراطية ودفعهما نحو تسويةٍ دائمة مع دمشق، فقد تفتحُ الباب أمام استقرارٍ تدريجي طويل الأمد. أما إذا استمرّت حالةُ التردّد أو التصعيد المتبادل، فقد تدخلُ البلاد مُجدَّدًا في دواماتٍ جديدة من الاضطراب. ومع ذلك، يبقى الداخل السوري هو المُحَدِّد النهائي للمسار: فنجاحُ القيادة في تعزيزِ التماسُك الاجتماعي وإحياءِ الشعورِ الوطني المُشترك سيكونُ مفتاحَ ترسيخِ الدولة الجديدة، بينما أيُّ فشلٍ في إدارة الانقسامات القديمة قد يُعيدُ إشعالَ الصراعِ ويُقوّضُ ما تحقّقَ من استقرارٍ هشّ.

  • محمد فوّاز هو كاتب وصحافي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى