بين ضَغطِ الشارع وضروراتِ الطاقة: الأردن في مُعادَلَةٍ مُعَقّدة بين إسرائيل والصين

تواجه الأردن اليوم معضلة طاقة تتجاوز حدود الاقتصاد إلى عمق السياسة، إذ يجد نفسه بين ضغط الشارع الغاضب من إسرائيل، وحاجته المُلِحّة إلى تأمين مصادر مستقرة للطاقة. وفي خضم هذه المعادلة المعقّدة، تبرز الصين شريكًا محتملًا يعيد رسم ملامح المشهد الطاقوي في المملكة.

تجمّع مئات المتظاهرين في العاصمة الأردنية عمّان، وذلك في السادس والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2021، احتجاجًا على اتفاقية “الطاقة الشمسية مقابل المياه” التي وُقّعت بين الأردن وإسرائيل خلال معرض “إكسبو 2020″ في دبي، ورفع المحتجّون لافتة كُتب عليها بالعربية: ” تسقط اتفاقية الغاز مع العدو”.

جيسي ماركس*

تفرضُ الحربُ الإسرائيلية على غزّة مُعضلةً مُلحّة على الأردن، مُعضِلة تتجاوز حدود الجغرافيا لتُلامس جوهر السياسات الداخلية والخارجية للبلاد. فالمملكة الهاشمية، التي تُعاني منذ نشأتها من شحّ الموارد وغياب النفط والغاز، تجدُ نفسها اليوم محاصرةً بين واقعٍ اقتصاديٍ لا يرحم، وضغطٍ شعبيٍ متزايد يغلي على وقع صور الدمار في القطاع.

منذ عقود، اعتمدت عمّان على واردات الطاقة لتأمين احتياجاتها المتزايدة، فكانت دول الخليج مصدرًا رئيسًا للدعم، ثم أضيفت إسرائيل إلى القائمة بعد توقيع اتفاقيات الغاز بين البلدين. لكن هذا الاعتماد الاقتصادي على “الجارة المُثيرة للجدل” أصبح عبئًا سياسيًا ثقيلًا. فمع تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزّة، ارتفع منسوب الغضب الشعبي، خصوصًا بين الأردنيين من أصول فلسطينية الذين يرون في التعاون الاقتصادي مع إسرائيل تجاوزًا لخطوطهم الحمراء الوطنية والأخلاقية.

ومع تزايد الحديث في إسرائيل عن احتمال ضمّ الضفة الغربية —المنطقة التي تلاصق الحدود الأردنية مباشرة— يشتدّ الضغط الداخلي على عمّان للمطالبة بوقف صفقة الغاز المُبرَمة مع إسرائيل، والتي تبلغ قيمتها نحو عشرة مليارات دولار وتمتدّ لسنوات طويلة. وهكذا، يجد الأردن نفسه أمام معادلة معقّدة: كيف يحافظ على استقراره الطاقوي بدون أن يُغضِبَ الشارع أو يُزعزِعَ توازنه السياسي؟

في هذا السياق، تتجه الأنظار نحو الهيدروجين الأخضر باعتباره أفقًا جديدًا للطاقة النظيفة والمستدامة، وأحد مفاتيح استقلال المملكة عن الوقود الأحفوري والاعتماد الإقليمي.

الصين تدخل المشهد من جديد

في خضمِّ هذه التحوُّلات، تعودُ الصين لتظهر مجدّدًا على الساحة الأردنية. ففي الشهر الماضي، وقّع مسؤولون أردنيون اتفاقًا أوليًا مع شركة “UEG Green Hydrogen Development Holding Limited” الصينية لإعداد دراسة جدوى لمشروعٍ لإنتاج الهيدروجين الأخضر بقيمة 1.15  مليار دولار، في إطار الاستراتيجية الوطنية الأردنية للهيدروجين الأخضر.

هذا الاتفاق ليس تفصيلًا تقنيًا فحسب، بل يحملُ أبعادًا سياسية عميقة. فهو يأتي بعد عامٍ واحد فقط من خسارة الأردن قضية تحكيم ضد مشروعٍ صيني ضخم لاستخراج الصخر الزيتي بسبب ارتفاع الرسوم، في إشارةٍ إلى استعداد عمّان لإعادة الانخراط مع بكين في قطاع الطاقة، واستعداد بكين بدورها للعودة إلى الساحة الأردنية رُغم الجدل السابق.

بالنسبة إلى الصين، يُمثّل الأردن نقطةَ ارتكاز جغرافية مهمة بين الخليج والمشرق العربي، وممرًا محتملًا لمشروعات مبادرة “الحزام والطريق” في شرق المتوسط. أما بالنسبة إلى الأردن، فبكين تمثّل شريكًا قادرًا على تمويل مشاريع طاقة ضخمة بدون الاشتراطات السياسية التي غالبًا ما ترافق التمويل الغربي. وهكذا، تتقاطع المصالح من جديد، وإن كان كلُّ طرف يحمل حساباته الدقيقة.

مأزق الطاقة الأردني: بين السياسة والاقتصاد

الحساسية الأردنية تجاه استيراد الطاقة من إسرائيل ليست وليدة اللحظة. فمنذ توقيع اتفاق الغاز في العام 2014، الذي يمتدّ لخمس عشرة سنة، واجهت الحكومة موجة من الغضب الشعبي العارم. ففي العامين 2016 و2020، شهدت شوارع عمّان مظاهرات حاشدة رافضة للاتفاق، الذي اعتبره المحتجون “خيانة اقتصادية” تهدّد سيادة البلاد وتربط أمنها الطاقوي بإسرائيل.

هذا الرفض الشعبي العميق جعل من قضية الاستقلال الطاقوي مسألة سيادية بامتياز، لا مجرّد خيار اقتصادي. وأصبحت الطاقة المتجددة والطموح نحو الاكتفاء الذاتي بندًا دائمًا في الخطاب الرسمي الأردني، الذي يسعى إلى تقليص الاعتماد على الخارج وتجنّب التقلّبات الإقليمية.

تلك التقلّبات ليست نظرية على الإطلاق. ففي آب (أغسطس) الفائت، وقّعت مصر صفقة بقيمة 35  مليار دولار مع إسرائيل لتزويدها بالغاز الطبيعي، قبل أن يُهدّدَ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإلغائها بعد شهر فقط، على خلفيةِ خلافاتٍ أمنية حول سيناء. مثل هذه الأمثلة تؤكد هشاشة الاعتماد على الطاقة العابرة للحدود في منطقةٍ تتغيّرُ فيها التحالفات بسرعة.

التحوّل نحو مصادر بديلة

في ظلّ هذه التحديات، بدأ الأردن بناءَ منظومة طاقة محلية أكثر تماسكًا. فبحلول العام 2024، تمكّن من خفض نسبة الغاز الطبيعي في توليد الكهرباء إلى 58%  فقط، مع توسّع كبير في استغلال الطاقة الشمسية والرياح. وتُشيرُ الأرقام إلى أنَّ نحو 30%  من كهرباء المملكة اليوم تأتي من مصادر متجدّدة، فيما تسعى الحكومة إلى رفع النسبة إلى 50%  خلال السنوات المقبلة.

أما الصخر الزيتي، الذي كان يُعتبَرُ في الماضي موردًا ملوّثًا ومُكلفًا، فقد تحوّل إلى ركيزةٍ حقيقية في مزيج الطاقة الأردني. إذ ارتفعت مساهمته في توليد الكهرباء إلى 15%، متجاوزةً الهدف المُقرَّر لعام 2025. هذه الأرقام تعكسُ مسارًا واضحًا نحو الاستقلال النسبي في الطاقة، رُغم التحديات الاقتصادية والبيئية.

لكن هذا التقدّم لم يخلُ من عقبات. فمحطة العطارات لتوليد الكهرباء من الصخر الزيتي، التي تموّلها الصين بقرض يبلغ 2.1  ملياري دولار، شكّلت علامة فارقة في التعاون بين البلدين، ولكنها أيضًا فجّرت جدلًا واسعًا.

فعلى الرُغم من أنها ساعدت على تعزيز الإنتاج المحلي للكهرباء، إلّا أنَّ الاتفاق المالي كان مُرهِقًا للأردن. فتعرفة الكهرباء المُتَّفَق عليها بلغت 0.17  دولارًا لكل كيلوواط/ساعة — من بين الأعلى في المنطقة— ما رفع كلفة الطاقة على المستهلكين بنسبة 17%، وأرهق الخزينة العامة بما يقارب 210  ملايين دولار سنويًا. وحين لجأت عمّان إلى التحكيم الدولي بدعوى أنَّ العقدَ غير مُستدام، خسرت القضية في العام 2024، لتُضيف 13  مليون دولار أخرى كرسومٍ قانونية.

ومع ذلك، لا تزال المحطة تعمل، وتشكّلُ جُزءًا من شبكة الكهرباء الوطنية. ورُغمَ الانتقادات، فإنَّ المشروعَ ساهم في الحدّ من مخاطر نقص الإمدادات خلال فترات التوتر الإقليمي، وأثبت أنَّ الصين قادرة على تنفيذ مشاريع بنية تحتية معقّدة في بيئةٍ صعبة. لكنّه أيضًا كشف الحاجة الماسة إلى شفافية أكبر وتوزيع عادل للمخاطر في العقود المستقبلية.

مشروع الهيدروجين الأخضر: رهان المستقبل

يبدو أن عمّان استوعبت دروس العطارات جيدًا، إذ تتعامل اليوم مع مشروع الهيدروجين الأخضر بحذرٍ مدروس. فالاتفاقُ الجديد مع الصين يهدفُ إلى إنتاج 200  ألف طن من الأمونيا الخضراء سنويًا، باستخدام الطاقة المتجددة ومياه البحر المُحلّاة، وهو ما يمهّد لتحوّلٍ صناعي كبير في البلاد. فالأمونيا، بصفتها الشكل السائل للهيدروجين، أسهل في النقل والتخزين، ويمكن أن تحلَّ محلّ الوقود الأحفوري في الصناعات الثقيلة، مع إمكانية تصديرها إلى أوروبا وآسيا.

لكن نجاح هذا المشروع الضخم لن يتحقّقَ إلّا بتكاملٍ بين البنية التحتية للمياه والطاقة. فإنتاج الهيدروجين يحتاج إلى كميات هائلة من المياه المُحلّاة، وهو تحدٍّ كبير في بلد يُعَدُّ من أكثر الدول جفافًا في العالم. لذلك، يُنظَرُ إلى مشروع تحلية ونقل المياه من العقبة إلى عمّان باعتباره محورًا رئيسًا في إنجاح هذا التحوُّل الطاقوي.

تسعى عمّان إلى أن تكون تجربتها الجديدة مع بكين مختلفة جذريًا عن السابقة. فهي تُدركُ أنَّ غيابَ الشفافية وسوء إدارة العقود قد يكلّفها سياسيًا واقتصاديًا. ولذلك، تضع الحكومة الأردنية نصب أعينها هذه المرة ضرورة اعتماد آليات واضحة لتوزيع المخاطر، والتفاوض بشفافية، وربما اللجوء إلى مؤسّسات تحكيمٍ ووساطة أكثر توازنًا مثل المنظمة الدولية للوساطة في هونغ كونغ.

بهذا النهج، تأمل عمّان في تجنّب “فخّ الديون” الذي روّجَ له بعض القوى الغربية عند الحديث عن المشاريع الصينية. ومن جهة أخرى، تسعى الصين إلى إثباتِ أنَّ شراكاتها في المنطقة ليست مجرد صفقات تجارية، بل علاقات تنموية طويلة الأمد.

إعادة التموضع بين الشرق والغرب

من خلال إعادة انخراطها مع الصين، تبعث عمّان برسالة مزدوجة: فهي لا تُديرُ ظهرها لحلفائها الغربيين، لكنها أيضًا لا ترغب في البقاء رهينة للمعادلات الإسرائيلية أو للضغوط الغربية. فالمملكة تُدركُ أنَّ تنويعَ الشركاء الاقتصاديين بات ضرورة لا ترفًا، وأنَّ التوازن بين الشرق والغرب هو صمام الأمان لاستقرارها الداخلي.

ومع ذلك، يدرك صانع القرار الأردني أنَّ التعاون مع الصين لا يخلو من الحساسيات. فالمملكة تتعامل مع بيئةٍ سياسية داخلية مشحونة، وأي خطوة نحو بكين تُراقَب بدقة في واشنطن. ومن هنا تأتي أهمية إشراك أطراف عربية، خصوصًا من دول مجلس التعاون الخليجي، في مشاريع الطاقة المستقبلية، لتخفيف المخاوف المتبادلة وبناء مظلة استثمارية أكثر توازنًا.

في النهاية، يواصل الأردن السير على حبلٍ مشدود، يحاول من خلاله الموازنة بين حاجته إلى الطاقة واستقلاله السياسي. الحربُ في غزّة، وما تبعها من ضغوط داخلية، أعادت تذكير عمّان بأنَّ أمنها الطاقوي ليس مسألة اقتصادية فحسب، بل قضية سيادة واستقرار.

وإذا نجحت المملكة في إدارة شراكتها الجديدة مع الصين بشفافية وحنكة، فقد يتحوّل مشروع الهيدروجين الأخضر إلى نقطةِ انعطافٍ تاريخية، تَنقلُ الأردن من خانة المستورد الدائم إلى فاعلٍ في سوق الطاقة النظيفة الإقليمية. أما إن أخفقت، فقد تجد نفسها عالقة مجددًا بين الديون والاعتماد، في منطقة لا ترحم المُتردّدين.

بهذا المعنى، لا يمثّل مشروع الهيدروجين مجرّد استثمار في الطاقة، بل رهانًا على المستقبل —  مستقبل يحاول فيه الأردن أن يكتب قصته الخاصة وسط صراع الكبار، مستندًا إلى رياح الصحراء وشمسها، ليصوغ معادلة جديدة بين الاستقلال والاستدامة.

  • جيسي ماركس هو الرئيس التنفيذي والمدير الإداري لشركة “رحلة للبحوث والاستشارات” ذ.م.م، ومقرّها في واشنطن تركّز على العلاقة المتشابكة بين الشرق الأوسط والصين. بين العامين 2020 و2022، شغل منصب مستشار سياسات الشرق الأوسط في وزارة الدفاع الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى