إشكالِيَّةُ السلمِ والحربِ بين إيران والغرب

يُشكّلُ تاريخ العلاقات الأميركية–الإيرانية أحد أكثر الملفات تعقيدًا وتشابُكًا في السياسة الدولية الحديثة. فمنذ بداياتها في القرن التاسع عشر، مرورًا بحقبة النفوذ الأميركي المطلق في عهد الشاه، وصولًا إلى القطيعة الحادة بعد الثورة الإسلامية عام 1979 وما تلاها من صراعات، ظلّت هذه العلاقة تتأرجح بين الوعود والأوهام، وبين السلم المعلَّق والحرب المحتملة.
المُسلسل الذي بين أيدينا يسعى إلى تتبّعِ مسار هذه العلاقة، من جذورها الثقافية والدينية والتاريخية. وتتناول الحلقة الثانية التناقض العميق في علاقة الإمام الخميني بالولايات المتحدة، بين وصفه لها بـ”الشيطان الأكبر” ومراسلاته السرّية مع رؤسائها. وتكشفُ كيف تداخلت الأبعاد الدينية والسياسية مع الحسابات الاستراتيجية في لحظةٍ مفصلية من تاريخ إيران الحديث
.

الرئيس جون كِنيدي: تلقى رسالة من الخميني قبل اغتياله بأسبوعين.

(2)

آيةُ الله والشَيطان

 

سليمان الفرزلي*

لم يُوَفَّق أحدٌ من القادة السياسيين حول العالم في توصيف الولايات المتحدة بكلمتَين، كما وُفِّقَ آية الله روح الله الخميني، قائد الثورة الإسلامية في إيران، ومؤسّس النظام الجمهوري في تلك البلاد التي لم تعرف سوى حُكمِ الطغاة، والملوك، والإقطاع، لقرونٍ عديدة. فقد وصفها الخميني بأنها “الشيطان الأكبر”، وأهمّية هذا الوصف أنه يحمل معاني دينية، باعتبار أنَّ الشيطان، كبيرًا كانَ أم صغيرًا، ما هو إلّاَ العدو الأول لله والبشر. تركَ الخميني لقب “الشيطان الأصغر” لإسرائيل باعتبارها، في نظره، محميَّة أميركية. لكن الباحث الإيراني عباس أمانات يقول في كتابه الصادر في لندن (توريس) في العام 2009، إنَّ عبارة “الشيطان الأكبر”، المُسَجَّلة حصرًا باسم الإمام الخميني، استعارها الإمام من أدبيات الدعاية التي نادى بها الشيوعيون في مطلع خمسينيات القرن الماضي!

قبل الخميني أطلقَ زُعماءٌ في العالم توصيفات لأميركا، لها صفة كاريكاتورية، أبرزها وأبقاها وصف الزعيم الصيني ماو تسي تونغ للولايات المتحدة بأنها “نمرٌ من ورق”. طبعاً، ماو تسي تونغ استحضر صورة “النمر”، كحيوانٍ مُفترس، ليُعطي انطباعًا بأنَّ البشرية في ظلِّ الهيمنة الأميركية تَعيشُ في غابة، وقوانين الغابة ليست بحاجة الى برهان، أبسطها أنَّ القوي يأكل الضعيف، أو “المُستضعف”، بلغة الإمام الخميني. لم يخطر للزعيم الصيني أي توصيف ديني، لأنه كان من كبار القادة الشيوعيين الثوريين في العالم، الذين يعتقدون بأنَّ “الدين هو أفيون الشعوب”، وبالتالي فهو سلاحٌ في أيدي المُستكبرين!

لكنَّ وَصفَ الخميني للولايات المتحدة بأنها “الشيطان الأكبر” هو أيضًا وصفٌ حمَّالُ أوجهٍ، منها وجهٌ يُشبه الدعابة طلبًا للود، كما يصفُ الأهلُ أولادهم، تحبُّبًا، بأنهم “شياطين”. ويبدو، من الوثائق الأميركية السرية، التي نُشِرَت جُزئيًا في العام 2008، ومعظمها ما زالَ تحتَ غطاء السرية إلى اليوم، أنَّ الإمام كان أكثر تودُّدًا إلى الشيطان الأكبر مما هو ظاهرٌ للعيان، وأنَّ اتصالاته مع واشنطن قديمة العهد تعود الى ستينيات القرن الماضي.

*****

قبل أسبوعين من اغتيال الرئيس الأميركي جون كنيدي في دالاس بولاية تكساس، يوم 22 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1963، بعثَ الإمام الخميني برسالةٍ ودّية الى كنيدي، في وقتٍ كان فيه الإمام مُعتَقَلًا بالإقامة الجبرية في إيران، بسببِ تصريحاتٍ عنيفة له ناقدة للشاه. في تلك الأيام كان الشاه محمد رضا بهلوي يتبرَّمُ من ضغوط إدارة كنيدي عليه للقيام بإصلاحاتٍ جذرية، فقد كان الرئيس الأميركي المغدور يعتقدُ بأنها تُسعِفُ في تثبيت استقرار الأوضاع الداخلية في إيران والشرق الأوسط. وقد قام الشاه بالفعل بإطلاق ما سُمِّيَ في حينه “الثورة البيضاء”، من أبرز ملامحها الإصلاح الزراعي، الذي نادى بتوزيع أراضي كبار المالكين على صغار الفلاحين. على أنَّ تلك الخطوة لم تكن، في غالب الظن، جديَّة أو جذرية، بقدر ما كانت محاولة تجميلية. لكنَّ الشيءَ الذي تركَ بصمة فعلية في سجلِّ تلك الإصلاحات، منح المرأة الإيرانية حق الانتخاب والمشاركة في الحياة السياسية. تلك المرحلة شهدت بداية ظهور الخميني على المسرح السياسي الإيراني كمعارضٍ عنيد للشاه، مما أدّى الى فرض الإقامة الجبرية عليه لأوّلِ مرة.

أطلقَ الشاه ثورته البيضاء المزعومة، وسط اضطراباتٍ عمالية وشعبية، قمعها الجيش في أيامٍ قليلة فكانت تلك فرصة الإمام الخميني لإطلاق عنان لسانه الحاد ضد “ملك الملوك”.  في ذلك الوقت بعثَ الخميني برسالته الوديَّة السريَّة الى الرئيس جون كنيدي، قبل أسبوعين من اغتياله في مدينة دالاس بولاية تكساس. وليس معلومًا إلى اليوم ما إذا كان كنيدي قد أتيح له أن يقرأ رسالة الخميني قبل اغتياله بأيام، لكن وكالة الاستخبارات المركزية نشرت مؤخرًا مقاطع منها وأبقت النص الكامل تحت غطاء السرية.

*****

إنَّ الجُزءَ الذي أفرجت عنه وكالة الاستخبارات المركزية من رسالة الخميني إلى الرئيس كنيدي، يُنبىءُ بحالةٍ من التضعضع في طهران وفي واشنطن، بسببِ اضطراب الأوضاع الأمنية في داخل إيران، والشدة المفرطة والإعدامات الفورية التي قامت بها الأجهزة الأمنية، اختلطت بتوجُّه الشاه الى مغازلة الاتحاد السوفياتي، بدعوته الرئيس السوفياتي ليونيد بريجنيف وزوجته لزيارة إيران حيث لقي ترحيبًا استثنائيًا. ومما أعطى زيارة بريجنيف تلك مزيدًا من الوزن، أنها استمرت لمدة أسبوع كامل سمحت له بأن يزور مناطق عديدة في إيران.

إنَّ مجرّدَ نظرة كرونولوجية إلى تلك المرحلة تُلقي ضوءًا كاشفًا على كثافة واختلاط الأمور في إيران والعالم خلال أيامٍ معدودة فقط، يمكن تبسيطها على النحو التالي:

أطلقَ الشاه ثورته البيضاء في أواخر العام 1963، وخلال أيام فقط اندلعت الاضطراباتُ الشعبية التي واجهتها السلطة بقمعٍ شديد للغاية. كان الإمام الخميني وقتئذٍ مُبتدئًا في العمل السياسي، فأطلقَ خطاباتٍ شديدة اللهجة ضد الشاه مما جعل السلطة تعتقله بالإقامة الجبرية ومنعه من الكلام. فور حجزه في الإقامة الجبرية بعث الخميني برسالته السريَّة الى الرئيس كنيدي، على الأرجح في 8 أو 9 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1963، قبل أسبوعين من اغتيال الرئيس الأميركي. ثم جاء الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف في زيارته، المعلن مسبقًا أنها بغاية توقيع “اتفاقية حسن جوار” مع إيران. استمرت زيارة بريجنيف من 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963 إلى 23 منه، أي أنَّ اغتيال كنيدي في دالاس جرى أثناء وجود بريجنيف في إيران، قبل يوم واحد فقط من انتهاء زيارته.

يُفهَمُ من مقطع الرسالة الذي أفرجت عنه وكالة الاستخبارات المركزية، أنَّ “الطحشة” السوفياتية على إيران أثارت حفيظة الخميني، بقدر ما أثارت قلق الأميركيين. فقد أفادت تلك المقاطع المُفرَج عنها، أنَّ الإمام الخميني أبلغ الرئيس كنيدي أنه “ليست له خصومة مع الولايات المتحدة”، وأنه لا يعارض المصالح الأميركية في إيران، (حسب تحليل لوكالة الاستخبارات المركزية بعنوان “الإسلام في إيران” نُشر في العام 2008). وبيت القصيد في المقاطع المُفرَج عنها تلك، تأكيد الخميني في رسالته أنه، على عكس ما يُشاع، يعتبر الوجود الأميركي في إيران “ضروريًا لمواجهة النفوذ السوفياتي والنفوذ البريطاني”.

إنَّ إقران الخميني النفوذ السوفياتي مع النفوذ البريطاني لافتٌ للنظر، وكأنه اعتبرهما طرفًا واحدًا. لكن ذلك لا يستدعي التفسير المُعقّد، بقدر ما فيه استحضارٌ لمرحلة تاريخية سابقة، كان فيه النفوذان السوفياتي والبريطاني ثقيلين على صدور الإيرانيين. ففي العهد القيصري في روسيا، خلال الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، قامت جيوش روسية وبريطانية مشتركة باحتلال إيران، وكانت القوات الروسية بقيادة الجنرال نيكولاي باراتوف، والقوات البريطانية بقيادة البريغادير بيرسي سايكس، حيث تواعد القائدان الروسي والبريطاني على التلاقي في مدينة إصفهان. الجنرال الروسي انطلق من الحدود العثمانية الجبلية، حيث دحر الجيش الثالث العثماني بقيادة أنور باشا، وأنزل به هزيمة ساحقة. أما البريغادير البريطاني فقد زحف من جنوب العراق بجيشٍ ضمَّ جنودًا من مختلف أنحاء الإمبراطورية البريطانية.

كذلك في الحرب العالمية الثانية، احتلت الجيوش السوفياتية مناطق واسعة من شمال إيران، وفي ظلِّ الوجود السوفياتي هناك، احتلّت القوات السوفياتية منطقة أذربيجان كلها، وأقامت أول دولة كردية، أطلق عليها اسم “جمهورية مهاباد”، لم تدم طويلًا، وكان رئيسها الزعيم الكردي العراقي الملا مصطفى البارزاني لأقل من سنة، فسقطت بمجرد انسحاب القوات السوفياتية، وغادر البارزاني جمهوريته منسحبًا مع تلك القوات الى موسكو، حيث بقي هناك حتى ثورة 14 تموز (يوليو) العراقية التي أطاحت النظام الملكي الهاشمي، وأعلنت العراق جمهورية، في 14 تموز (يوليو) من العام 1958. وبعد عودة البارزاني من موسكو الى بغداد، مُرَحَّبًا به من قبل النظام الجمهوري الجديد، لم يحصل اتفاقٌ بينه وبين الحكومة العراقية، فأعلن التمرّد عليها مُطالبًا بحُكمٍ ذاتي للأكراد في شمال العراق.

أما بالنسبة إلى النفوذ البريطاني الذي أشار إليه الخميني في رسالته الى الرئيس كنيدي، فقد نشأ قبل زمانٍ طويل يعود إلى أيام الوجود البريطاني في الهند، فكان حاضرًا خلال حكم الدولة القجارية، وخليفتها الدولة البهلوية، وصولًا إلى الحرب العالمية الثانية، وما بعدها، وبالشراكة مع الروس أيضًا كما في الحرب الأولى، عندما أقامت الحكومة البريطانية قيادةً عسكرية للعمليات في إيران والعراق، مقرّها بغداد، حدَّدت لها هدفين: أولهما، تأمين سلامة حقول النفط في البلدين برًّا وجوًّا. وثانيهما، تأمين خطوط الإمداد بالمؤن والمعدات للاتحاد السوفياتي من موانئ الخليج عبر العراق وإيران.

*****

إنَّ المسألةَ المُتعلّقة بالواقع الجيوبوليتيكي لإيران، إزاءَ تحالُف وتناقُض القوّتين الدوليتين الأساسيتين القادرتين على التدخّل في الشأن الداخلي لإيران، خلال القرنين الماضيين، وهما: بريطانيا في الجنوب وروسيا في الشمال، شكلت، قبل الهيمنة الأميركية، سياقًا تاريخيًا متكرّرًا، يرتكز الى معادلةٍ واضحة: تخاصم بريطانيا وروسيا يريح إيران، وتتعزز وحدتها، ويرتفع منسوب سيادتها، وإذا اتفقتا فعلى حساب إيران وصولًا الى تقسيمها، واضطراب الأمن فيها، وانتشار المجاعة.

لذلك عادت إيران لتصبح دولة شبه مستقلة بفعل الثورة البلشفية في روسيا، فانشغل الروس بشؤونهم الداخلية، وبالحرب الأهلية التي نشبت في أعقابها، وكذلك انشغلت بريطانيا بأولويات مختلفة بفعل الخطر الشيوعي، مما جعل علاقة إيران ببريطانيا تتقونن في اتفاقية بين البلدين، تم عقدها في العام 1919، ولو انها لم تكن معاهدة متكافئة.

في العام الذي انعقدت فيه الاتفاقية الأنكلو–إيرانية، برزت الولايات المتحدة كقوة قائدة للغرب، بشخص رئيسها وودرو ويلسون الذي فرض النفوذ الأميركي على العالم خلال حضوره مؤتمر الصلح في فيرساي، بالقرب من العاصمة الفرنسية باريس، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وهذا العامل الجديد، كان له شأنٌ في المرحلة التالية، ما بين الحربين العالميتين، بعد خلع الشاه رضا بهلوي، على يد بريطانيا، وتنصيب ابنه الشاب محمد رضا بهلوي الذي محضته الولايات المتحدة ثقتها ودعمها لفترة طويلة (37 عامًا)، إلى ما قبل الثورة الإسلامية بقيادة الخميني بأيامٍ قليلة.

من هنا يُمكِنُ استقراءُ مغزى الاتصال المُبكِر للإمام الخميني بالأميركيين، ليس فقط من خلال رسالته إلى الرئيس جون كنيدي في العام 1963، لكن أيضًا من خلال اتصاله بالرئيس جيمي كارتر نفسه، قبيل انتصار الثورة الإسلامية. فقد بعث الخميني رسالته السرية الى الرئيس كارتر من منفاه في ضاحية “نوفل لو شاتو” (Neauphle-le-Château)، بالقرب من العاصمة الفرنسية، يوم 27 كانون الثاني (يناير) من العام 1979، عارضًا فيها على الرئيس الأميركي “صفقة”، مقابل أن يُقنِعَ كارتر قادة الجيش الإيراني بتمهيد الطريق له لكي يتسلّم السلطة.

قال الخميني لكارتر في تلك الرسالة: “قادةُ الجيش الإيراني يستمعون إليك، لكن الشعب الإيراني يستمع إلى أوامري. فإذا أقنعتهم بأن يمهّدوا الطريق لانتقالٍ سلس للسلطة، فإني أستطيع أن أُعيدَ الهدوء والاستقرار الى الأمة، ونتكفّل بحماية مصالح أميركا وسلامة رعاياها”.

ليسَ من المعروف حتى الآن ما إذا كان كارتر قد ردَّ على رسالة الخميني السرّية، أو ما هو ردُّه إذا كان قد ردَّ عليها. لكنَّ المعروف هو أنَّ كارتر هو الذي أقنع الشاه بأن يُغادِرَ إيران في “إجازة”، تمنى الخميني أن تكونَ إجازةً دائمة. كما أرسل إلى طهران مبعوثًا عسكريًا رفيع المستوى هو الجنرال روبرت هوايزر، من القوات الجوية، في مهمّة سرية إلى طهران، أثارت قلق الخميني في فرنسا، لأنَّ الجنرال هوايزر كان يعقدُ اجتماعاتٍ يومية مع القادة الكبار في القوات المسلحة الإيرانية. ومصدرُ قلق الخميني من تلك الاجتماعات أنه كان على يقينٍ تام بأنَّ القيادات العليا في الجيش الإيراني تقف ضده بلا هوادة، ويخشى أن تقومَ بانقلابٍ عسكري، بدعمٍ أميركي، يسدّ الطريق في وجه الثورة الإسلامية.

عندئذ اتخذ الإمام الخميني قراره بالعودة إلى طهران لحسم الأمور قبل فوات الأوان. وقبل سفره عائدًا إلى بلاده من المنفى لأوّل مرة منذ خمسة عشر عامًا، أصدر نداءً شخصيًا إلى البيت الأبيض يدعو فيه الأميركيين ألّاَ يقلقوا بسبب خسارة الشاه حليفهم لنحو أربعة عقود، لأنه هو أيضًا سيكون صديقهم، قائلًا لهم: “سوف ترون أنني لا أكُنُّ عداوةً للأميركيين على وجه الخصوص”، مؤكّدًا أنَّ الثورة الإسلامية “سوف تكون ثورة إنسانية، تدعم السلم والاستقرار للبشرية جمعاء”.

*****

عندما طالت آزمة الرهائن الأميركيين المحتجزين في إيران، لمدة 444 يومًا (من 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1979 الى 20 كانون الثاني/يناير 1981)، شاع في أوساطٍ إعلامية وسياسية عديدة حول العالم، أنَّ الإمام الخميني لن يُطلقَ الرهائن في عهد كارتر، المشرفة ولايته على نهايتها، بل سيطلقهم كبادرة حسن نيَّة الى الرئيس المقبل رونالد ريغان. وبالفعل تم إطلاق الرهائن في اليوم التالي لتنصيب ريغان في البيت الأبيض يوم 20 كانون الثاني (يناير) 1981.

ربما كانَ الإيرانيون يريدون إعطاء مثل هذا الانطباع، لأنَّ عملية إطلاق الرهائن تمت في مستهل ولاية ريغان، أما ترتيبات الصفقة فتعود إلى المراسلة السرية بين الخميني وكارتر. والدليل الدامغ على ذلك، أنَّ اتفاقية إطلاق الرهائن المحتجزين في إيران، وقَّع عليها كارتر فور خسارته في الانتخابات الرئاسية، قبل شهرين تقريبًا من تنصيب الرئيس الجديد، أي في مطلع شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1980، وهي تضمُّ مقابل ذلك إطلاق أموال إيرانية محتجزة في أميركا من أيام الشاه. فليس مستغربًا أنَّ الإمام الخميني تعمَّد إخراج الموضوع وكأنه أخذَ من رئيسٍ راحل ليعطي رئيسًا مقبلًا. فقد كان مقتدرًا من ناحية توسيع مدى مناوراته التكتيكية بسبب شعبيته الكاسحة في ذلك الوقت. هذه المناورة تشبه إقدامه على مصادرة وإغلاق السفارة الإسرائيلية في طهران، لكنه لم يسلمها إلى الفلسطينيين، كما كانوا يتوقّعون، مع أنَّ ياسر عرفات في ذلك الوقت انحاز إلى الجانب الإيراني في الحرب مع العراق، مُستَعديًا صدام حسين حليفه السابق في حرب الكويت.

في أعقابِ انسحاب القوات الإيرانية من شبه جزيرة الفاو العراقية، في المرحلة الأخيرة من الحرب العراقية–الإيرانية، منتصف شهر نيسان (أبريل) 1988، بعد سنتين من الاحتلال، سُئلَ نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز، ما إذا كان يعتقد أنَّ الخميني سوف يوافق على وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب، فقال: “في النهاية، الخميني رجل سياسة، ورجال السياسة يتعاطون مع الواقع، حتى لو كانت النتيجة غير مؤاتية لهم”.

بعد ثلاثة أشهر فقط من معركة الفاو، قبل الخميني وقف إطلاق النار. وكلمته التي نطق بها في حينه باتت كلمة مأثورة: “لقد تجرَّعتُ كأسَ السمّ”!

(الحلقة المقبلة: مات الشاه… عاشَ الإمام!).

  • سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى