هل تُفَخِّخُ المفاوضاتُ النووية إدارةَ ترامب؟

لا مَوعدَ مُحَدَّدًا بَعد لاستئنافِ المُفاوضات بين إيران والولايات المتحدة، لا استراتيجيةً واضحة، مزيدٌ من العقوبات الأميركية على قطاع النفط الإيراني وكلِّ من يَتعامل معه، احداثٌ غامضة بوتيرةٍ مُرتفعة تهزُّ منشآتٍ إيرانية، وتَخَبُّطٌ في واشنطن، تصعيدٌ حوثي ضد إسرائيل، وتهديدٌ إسرائيلي بقصف إيران… فهل تُفخّخُ المفاوضاتُ النووية إدارةَ ترامب أم أنَّ المفاوضات بشكلها الحالي غير قابلة للاستمرار وبالتالي فالحرب أقرب مما نعتقد؟

عباس عراقجي وستيف ويتكوف: التقدُّم في المفاوضات كلامٌ وليس أفعالًا.

ملاك جعفر عبّاس*

انتهت الجلسة الأخيرة بين إيران والولايات المتحدة من دون الإعلان عن تحديدِ موعدٍ جديد. وفي اليوم نفسه سرى خبرُ إقالة مستشار الأمن القومي مايك والتز كالنار في الهشيم مُثيرًا عاصفةً من التكهنات حول سبب الإقالة، وما إذا كان مُرتبطًا بما عُرفَ بفضيحة “سيغنال”، لتكشف صحيفة واشنطن بوست لاحقًا أنَّ اتصالاتٍ حثيثة بين والتز ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول اليمن وإيران أثارت حفيظة ترامب وكانت وراء الإطاحة به. ومعروفٌ أنَّ والتز كان يتبنّى وجهة النظر الإسرائيلية القائلة بضرورةِ توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية وتفكيك البرنامج بشكلٍ كامل، وتفكيك برنامج الصواريخ الباليستية ومنظومة الأذرع التي تدعمها إيران في الإقليم. والغريب أنَّ وزير الدفاع بيت هيغسيث ووزير الخارجية ماركو روبيو (الذي بات يتولى أيضًا منصب مستشار الأمن القومي) يشاطران والتز وجهة نظره، لكن ترامب لم يُقِلهما رُغمَ أن هيغسيث هو مَن سرّبَ خطة الضربات على اليمن في الاجتماع الافتراضي على منصة “سيغنال”، وتبادل معلومات سرية على “سيغنال” أيضًا مع زوجته، لا بل أنَّ البيت الأبيض استمات في الدفاع عنه. أما في حالة روبيو وبعدما لقبه ترامب ب”ماركو الصغير” أصبح يتربع على رأس الخارجية ومستشارًا للأمن القومي في سابقةٍ لم تحصل إلّا لهنري كيسينجر، عرّاب الهندسات الدولية الأميركية في سبعينيات القرن الماضي، وتعمّقت ثقة ترامب فيه لدرجة انه بات يقول انه عندما يواجه مشكلة يتصل بماركو وهو يحلّها.

وفيما عبّرت الصحافة الإيرانية عن ارتياحها لإقصاءِ والتز من منصبه كمؤشِّرٍ إلى بداية تحييد الصقور (رُغم تعيينه سفيرًا لبلاده في الأمم المتحدة)، إلّا أنَّ تعزيزَ مكانة هيغسيث وروبيو يدحضُ الادّعاءات بأنَّ ترامب بات من الحمائم، فلا ينبغي التقليل من تأثير ونفوذ هذين الرجلين واعتبار أنَّ الكفة قد رجحت لصالح مبعوث الرئيس إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف الذي تبنّى منذ البداية فكرة مبسطة حول إدارة المفاوضات تقتصر على حرمان إيران من امتلاك سلاح نووي.

وفيما يبقى مصير المفاوضات معلَّقًا في الدائرة الرمادية بدأت تتزايد التغطية السلبية في الإعلام الأميركي لدور ويتكوف والتشكيك بكفاءته. فرُغم الثقة الكبيرة التي وضعها ترامب في صديقه تاجر العقارات النيويوركي، فإنَّ سجله السياسي لا يتضمّنُ أيَّ إنجازٍ يُذكَر حتى الآن. فالملفات التي تولّاها ما زالت كلّها عالقة، من الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، إلى التفاوض مع إيران حول برنامجها النووي، وملف صفقة الافراج عن الرهائن ووقف الحرب الإسرائيلية على غزة. وفيما درجت المؤسسة السياسية والأمنية الأميركية على الفصل بين الملفات الكبرى وحشد الخبراء للتعاطي مع كلِّ ملفٍ على حدة يُكدّسُ ويتكوف الملفات بين يديه ويذهب منفردًا بطائرته الخاصة لمقابلة فلاديمير بوتين وحيدًا، حيث يعتمد على مترجمي الكرملين، ويتبنّى وجهة النظر الروسية في المسألة الأوكرانية مُرَدّدًا كالببغاء كلام بوتين في المسألة الأوكرانية. وقد وصفه السفير الأميركي الأسبق في روسيا مايكل مكفاول ب”ساعي بريد عند بوتين، فهو لا يفاوض على أيِّ شيء” نتيجة جهله التام بالعمل الديبلوماسي وبطبيعية الملفات التي يتولّاها وطبيعة الأنظمة التي يتعامل معها. هنا تصبح حظوظ هيغسيث وروبيو وويتكوف متساوية في البقاء أو الإقالة ومعها الحظوظ متساوية في الذهاب الى ضربةٍ فاتفاق أو اتفاق بلا ضربة.

وليس جديدًا على ترامب أن يطردَ كبار المسؤولين في إدارته، ففي ولايته الأولى أقال (أو دفع للاستقالة) ثلاثة مستشارين للأمن القومي هم مايكل فلين (بعد فضيحة اتصالاته السرية مع السفير الروسي سيرغي كيسلياك وكذبه على هيئة التحقيق الفيدرالي في مسألة التدخل الروسي بانتخابات 2016) وإتش آر ماكماستر وجون بولتون، ووزير الدفاع جايمس ماتيس ووزير الخارجية ريكس تيلرسون، فضلًا عن عددٍ كبير من كبار الموظفين في الإدارة. فالرجل يعمل بقاعدةِ أنَّ لا أحدَ لا يُمكن الاستغناء عنه وأنَّ ما يصحُّ اليوم لا يَصحُّ بالضرورة غدًا، فلا إيديولوجية تحكم تفكيره وسياسته غير تلك التي تخدم “عظمته” واحتمالات إعادة انتخابه. كما إنَّ ترامب يُبدّلُ أفكاره بالخفة نفسها التي يُبدّلُ فيها مساعديه. وقد تراجع عن كثير من المواقف التي أطلقها في ولايته الأولى. وفي الولاية الحالية يستفيقُ الكوكب كلَّ يومٍ مُنتظرًا مزاج سيّد البيت الأبيض من فرض الرسوم الجمركية والتراجع عنها تدريجًا، إلى التخطيط لتحويل غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، إلى الحديث عن ضم كندا وغرينلاند وقناة بنما، ولائحة مزاجيته وغرابة سياساته تطول. ويتعمّد ترامب الذهاب بعيدًا في ترسيخ صورته كرجل لا يُمكِنُ التنبؤ بأفعاله عملًا بنظرية “الرجل المجنون” التي اعتمدها نيكسون في التفاوض مع الفيتناميين الشماليين لإقناعهم بتقديم تنازلات وإلّا سيكون مضطرًّا لاستخدام القنبلة النووية. ترامب هو التجسيد الحقيقي لهذه النظرية والتي قد تكون فعّالة في كثير من الأحيان إن كان المفاوض يعرفُ بالضبط الشكل النهائي للاتفاق الذي يود التوصُّل إليه، وهذا ما يفتقده ترامب حتى الآن.

فتخبُّط الإدارة الأميركية في الملف الإيراني ليس ناجمًا فقط من اختلاف الآراء داخل البيت الأبيض، بل من عدم وجود استراتيجية واضحة للتعاطي مع وظيفة إيران في الإقليم والعالم تُراعي مصالح الولايات المتحدة وحلفائها. وهذا الأمر لا ينطبق فقط على إدارة ترامب بل أيضًا على كل الإدارات السابقة منذ وصول الثورة الإسلامية الى الحكم في العام 1979. فقد فشلت إدارة جيمي كارتر في إطلاق سراح الرهائن من موظفي السفارة الأميركية في طهران ل444 يومًا، ورُغمَ نجاح إدارة رونالد ريغان في إطلاقهم وتورّطها في فضيحة “إيران كونترا” (أو “كونترا غايت)، فقد فشلت في التعامل مع نفوذ الأذرع في لبنان، فانسحبت إثر تفجير السفارة الأميركية في 1983 وتفجير مقر المارينز قرب مطار بيروت في 1984. وإثر هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 فشلت إدارة جورج بوش (الإبن) في احتساب المكاسب التي ستحققها إيران من إسقاط جماعة طالبان في أفغانستان، كما فشلت في رؤية الفرصة التاريخية التي أتاحها إسقاط نظام صدام حسين لتمدُّد النفوذ الإيراني في العراق والإقليم. وفشلت إدارة باراك أوباما في كبح جماح إيران في الحرب السورية ومعالجة ملف الأذرع والصواريخ الباليستية خلال مفاوضات 2015. وصحيحٌ أنَّ ترامب انتهجَ سياسة الضغط الأقصى على إيران منذ 2018 بتكبيل الاقتصاد الإيراني بالعقوبات وحشد القطع العسكرية في مياه المحيط الهندي والبحر الأحمر، إلّا أنه حتى اليوم لا يبدو قادرًا على صياغة سطرين واضحين يُحدّد فيهما خطًا أحمر غير ذلك الخط الوهمي الذي وضعته إيران لنفسها أصلًا بعدم امتلاك سلاح نووي. ويتّضح من تعيين “إيلبريدج كولبي” (Elbridge Colby)، الرجل الثالث في وزارة الدفاع، مسؤولًا عن صياغة استراتيجية الامن القومي الأميركي المقبلة، أنَّ الموارد العسكرية والمالية والسياسية الأميركية ستتجه في الفترة المقبلة الى مواجهة الصين ومنعها بأيِّ ثمن من السيطرة على تايوان وإن اقتضى الأمر القبول بإيران نووية. كما إنَّ كولبي يتبنّى تمامًا فكرة ترامب بالانسحاب من الشرق الأوسط، والتوقُّف عن دعم الحلفاء في المنطقة، ما يفتح المجال لكل دولة من دولها بانتهاج السياسة التي تتسق مع مصالحها، الأمر الذي قد يؤدّي إلى اشتعال حروب لا تنتهي.

ومع اقترابِ مهلة الشهرين التي وضعها ترامب للإيرانيين للتوصُّل الى اتفاق، يبدو سيناريو التصعيد أقرب من أيِّ وقتٍ مضى. فروبيو سارع في يوم تعيينه مستشارًا للأمن القومي بالوكالة إلى إعادة تصويب البوصلة في مقابلة مع “فوكس نيوز” واضعًا اللاءات الثلاث على الطاولة مجددًا: لا برنامج نووي متكامل (لا تخصيب ولا أجهزة طرد ولا دورة وقود نووي كاملة)، لا صواريخ باليستية ولا دعمَ للأذرع. وإن نجح روبيو في تثبيت وجهة نظره سياسةً للإدارة سيجد ترامب نفسه أقرب إلى نتنياهو أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، فيما يقوِّض الأخير أي حظوظ لعودة التفاوض شيئًا فشيئًا. فالحوادث الغامضة التي باتت تضرب إيران بوتيرة شبه يومية منذ تفجير مرفَإِ رجائي تحمل بصمات إسرائيلية عليها، وإن أنكرَ الإيرانيون ذلك، طامعين بإبقاء ترامب جالسًا إلى الطاولة بدل مواجهة نتنياهو في الميدان. وإن لم يحدث اختراقٌ فوق العادة خلال زيارة ترامب إلى المملكة العربية السعودية منتصف الشهر الجاري من مستوى قمة ثلاثية أميركية-سعودية-إيرانية تُعيدُ تبريدَ الملف، فإنَّ صيف الشرق الأوسط 2025 سيكون أكثر سخونة من الذي سبقه.

  • ملاك جعفر عبّاس هي كاتبة صحافية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وهي متخصّصة من جامعة كينغز كولدج لندن في مكافحة الإرهاب ودراسة الجماعات المسلحة. يمكن التواصل معها عبر منصة “Linkedin” على: linkedin.com/in/malakjaafar

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى