عودة إلى بغداد: العراقُ يَتَوازَنُ على حَبلٍ مَشدود
يبدو الوضع في اللعراق صعبًا للغاية. فهو يسعى إلى الاستقرار والانتعاش الاقتصادي، لكنه يواجه ضغوطًا إقليمية ودولية متزايدة. من سوريا التي لا يمكن التنبؤ بها إلى المواجهة الأميركية-الإيرانية المتصاعدة، يجب على العراق أن يتعامل بحذر مع تحالفاته لتجنُّب الانجرار إلى دوامة أخرى من الصراع.

بول سالم*
لم أزُر بغداد منذ سنوات، لكن المدينة بدت لي هذه المرة مختلفة تمامًا. الجدران الواقية من الانفجارات، وأكياس الرمل، والقوافل العسكرية التي كانت تُمَيِّزُ المدينة سابقًا، أفسحت المجال لصخبِ حياةٍ مدنية أكثر ألفة، وإن كان فوضويًا، ونشاط الأعمال الصغيرة، وضعف القدرات الحكومية – مزيجٌ يُذكّرنا بعواصم عربية أخرى، على الأقل خارج الخليج. الاختناقات المرورية، والأسواق المزدحمة، ومحلّات الساندويتشات المُزدحمة قبل رمضان، رسمت صورةً للصمود، واستئناف الحياة العادية في مدينةٍ عانت عقودًا من الحرب والمصاعب.
كُنتُ في بغداد أواخر شباط (فبراير) لحضور مؤتمرٍ حول الدور الإقليمي للعراق، حيث أُتيحَت لي فرصة لقاء كبار القادة وصانعي السياسات هناك. لقد قطع العراق شوطًا طويلًا منذ سقوط صدام حسين والمعركة ضد تنظيم “داعش”. أعادت الدولة تأكيد وجودها، وأثبتَ نظامُ تقاسُمِ السلطة السياسية ديمومته، والاقتصاد يتقدّمُ ببطء. لكن التحدّيات العميقة لا تزال قائمة ــ فالانقسامات الطائفية لا تزال راسخة، والفسادُ مُستشرٍ، وقوات “الحشد الشعبي”، وهي مظلة من الميليشيات المدعومة من إيران إلى حد كبير والتي تشكّلت لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، تُشكّلُ الآن معضلةً للسيادة الوطنية العراقية.
الطموحاتُ الاقتصادية في مواجهةِ الواقعِ المرير
تُرَوِّجُ الحكومة العراقية لمشاريع اقتصادية طموحة، بما في ذلك طريق التنمية، وهو ممرٌّ تجاري برّي ضخم يربطُ الخليج بتركيا وأوروبا وما ورائها. وبالتعاون مع الإمارات العربية المتحدة وقطر وتركيا، يأمل العراق في ترسيخِ مكانته كمركزٍ حيويٍّ للتجارة الدولية. لكنَّ المشروعَ لا يزالُ في مراحل التخطيط، وسيستغرق بناؤه سنوات عديدة. في غضونِ ذلك، يُلقي كلٌّ من الاعتمادُ المُفرط على عائدات النفط، والنقص الحاد في الكهرباء، وارتفاع معدّلات البطالة، والتدهور البيئي، بظلاله الثقيلة على التقدّم. لقد قطع رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني شوطًا كبيرًا، لكنَّ النظامَ السياسي العراقي -المُثقَل بالمصالح المُتضارِبة- يُبطئ الإصلاحَ الهادف. ومن المرجّح أن تُعيدَ انتخابات تشرين الأول (أكتوبر) المُقبل تشكيلَ المشهد السياسي مرّةً أخرى.
العراق: وسيطٌ إقليمي أم ساحةُ معركة؟
دافع رئيس الوزراء عن العراق كجسرٍ ديبلوماسي في منطقةٍ مُضطَرِبة. وقد استضافت بغداد جولاتٍ مُتعدِّدة من المحادثات السعودية-الإيرانية، وعرضت مرارًا التوسُّط بين الولايات المتحدة وإيران. وفي أيار (مايو)، ستستضيف بغداد قمة جامعة الدول العربية، مما يُعزّزُ دورها كجهةٍ إقليمية حاضنة للمحادثات. حتى الآن، نجح العراق في بناءِ علاقاتٍ فعّالة مع تركيا وإيران وجيرانه العرب، مع الحرص على الموازنة بين المصالح الأميركية والإيرانية. لكنَّ التوتّرات تتصاعَد.
على وجه الخصوص، يُحدِثُ التحوُّلُ الأخير في موازين القوى في سوريا، عقب انهيارِ نظام بشار الأسد في كانون الأول (ديسمبر)، تداعياتٍ واسعة النطاق في البلاد. ورُغمَ أنَّ مشاعرَ الودِّ في العراق تجاه نظام الأسد كانت قليلة، فإنها على الأقل كانت مُتوَقَّعة لأنه كان متحالفًا مع إيران. تُثير القيادة السورية الجديدة بقيادة الرئيس المؤقت أحمد الشرع -الذي قاتل سابقًا إلى جانب تنظيم “القاعدة” في العراق- قلقَ بغداد. كما يخشى العراق من أن يُتيحَ عدم الاستقرار في سوريا المجاورة ل”داعش” فرصةً للظهور مجدَّدًا وفرض نفوذه على العراق. وتتواصل بغداد بحذر مع دمشق، حيث أرسلت مسؤولين استخباراتيين إلى العاصمة السورية، ودعت وزير خارجيتها إلى بغداد. لكن ما زال من غير المؤكّد ما إذا كان الرئيس السوري الجديد سيحضر قمة جامعة الدول العربية في أيار (مايو) المقبل.
في أربيل، عاصمة حكومة إقليم كردستان، كانَ القلقُ مرتفعًا بشكلٍ خاص بشأن مصير أكراد سوريا – بين القوة الصاعدة لتركيا بعد أن استولى حلفاؤها في “هيئة تحرير الشام” على دمشق وإعادة انتخاب دونالد ترامب، الذي يتفاخر بعلاقاته الجيدة مع الرئيس التركي والذي من المرجح أن يسعى إلى سحب القوات الأميركية من شمال شرق سوريا. وقد التقى الرئيس السابق لحكومة إقليم كردستان، مسعود بارزاني، بزعيم قوات سوريا الديموقراطية التي يقودها الأكراد، مظلوم عبدي، في أربيل في كانون الثاني (يناير) للمساعدة على إيجادِ هبوطٍ ناعمٍ للقوات الكردية السورية المُحاصَرة. ويضع الاتفاق الإطاري بين قوات سوريا الديموقراطية والسلطات الجديدة في دمشق، الذي أُعلِنَ عنه قبل بضعة أيام، مسارًا واعدًا لدمج الأكراد السوريين وقوات سوريا الديموقراطية في مؤسّسات الدولة الناشئة في سوريا، وهو خبرٌ سارٌ في أربيل.
من جانبه، يتعيّن على العراق إدارة مخاطر المرحلة الانتقالية الطويلة وغير المُتوَقَّعة في سوريا، ليس فقط من خلال الانخراط السياسي والديبلوماسي، ولكن أيضًا من خلال تعزيز مراقبته وضوابطه على طول الحدود المشتركة بين البلدين، والتي يبلغ طولها 600 كيلومتر.
إدارة العلاقة مع الولايات المتحدة
يُمثل استئنافُ حملة “الضغط الأقصى” الأميركية ضد إيران مصدرَ قلقٍ آخر لبغداد. تتخذ إدارة ترامب موقفًا حازمًا، حيث قررت عدم تجديد إعفاء العراق من استيراد الكهرباء الإيرانية. وبينما لا تُغطي الطاقة الإيرانية سوى 4% من استهلاك العراق، فإنَّ أيَّ انخفاضٍ في الإمدادات خلال أشهر الصيف الحارة قد يؤدي إلى انقطاعاتٍ واسعة النطاق للكهرباء وإشعال اضطرابات عامة. والأمر الأكثر إثارةً للقلق هو اعتماد العراق على الغاز الطبيعي الإيراني، الذي يُغذّي ما يقرب من ثلث محطات توليد الطاقة لديه. وبينما تُكثّفُ بغداد إنتاجها المحلي وتبحث عن بدائل، فإنَّ الحلولَ لا تزال على بُعدِ سنوات، مما يجعل البلاد عُرضةً للخطر مع اقتراب فصل الصيف الحار والانتخابات المقرَّرة في تشرين الأول (أكتوبر).
على صعيدٍ آخر، تُعيدُ بغداد النظر في مساعيها لسحب القوات الأميركية من البلاد بحلول خريف هذا العام. إنَّ خطرَ عدم الاستقرار وعودة تنظيم “الدولة الإسلامية” الناجم عن سوريا الجديدة يدفعُ حتى الفصائل ذات الميول الإيرانية إلى إعادة النظر في الموعد النهائي في أيلول (سبتمبر) 2025، والذي تمَّ تحديده كجُزءٍ من اتفاقٍ تمَّ التوصُّلُ إليه العام الماضي بين بغداد وواشنطن.
تضغطُ الولايات المتحدة أيضًا على العراق لكبح جماح قوات الحشد الشعبي الموالية لإيران، والتي يتجاوز نفوذها بكثير المسائل الأمنية. يؤيد بعض السياسيين العراقيين إخضاعها لسيطرة الدولة بشكلٍ أكثر صرامة، خوفًا من سيناريو شبيه بما حلَّ ب”حزب الله”، حيث يتورّط العراق في صراعاتٍ إسرائيلية-إيرانية؛ لكن لقوات “الحشد الشعبي” العديد من الحلفاء السياسيين في الحكومة والبرلمان أيضًا. في كانون الثاني (يناير)، زار السوداني طهران لمناقشة التطورات في سوريا وقياس موقف إيران من كلٍّ من قوات “الحشد الشعبي” والوجود العسكري الأميركي. وبينما بدا الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان متقبّلًا ومُتَفَهّمًا، اتخذ المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي موقفًا متشدّدًا، مُعلنًا أنَّ وجود القوات الأميركية “غير قانوني ويتعارضُ مع مصالح الشعب والحكومة، وأنَّ قوات “الحشد الشعبي” تُمثِّل “عنصرًا أساسيًا من عناصر السلطة في العراق، ويجب بذل المزيد من الجهود للحفاظ عليها وتعزيزها”.
عمليةُ التوازُن الهشّة في العراق
خلال زيارتي القصيرة للعاصمة العراقية، كان من المُشجّع رؤية العراقيين من جميع الأطياف ينعمون بعودة الحياة الطبيعية إلى مدينتهم العريقة. لكن كان من الواضح أيضًا أنَّ العراق في وَضعٍ صعبٍ للغاية. فهو يسعى إلى الاستقرار والانتعاش الاقتصادي، لكنه يواجه ضغوطًا إقليمية ودولية متزايدة. من سوريا التي لا يمكن التنبؤ بها إلى المواجهة الأميركية-الإيرانية المتصاعدة، يجب على العراق أن يتعامل بحذر مع تحالفاته لتجنُّب الانجرار إلى دوامة أخرى من الصراع. ومع أزمة الطاقة التي تلوح في الأفق هذا الصيف والانتخابات المُرتَقبة في الخريف، ستكون الأشهر المقبلة صعبة. للولايات المتحدة مصلحة في البقاء على اتصالٍ وثيق مع القادة في كلٍّ من بغداد وأربيل للمساعدة على دعم الاستقرار والتقدّم المبدئي الذي يتم إحرازه في البلاد، مع إدارة المخاطر التي يتعرض لها العراق من بيئة إقليمية متقلّبة ومواجهة أميركية-إيرانية متصاعدة.
- بول سالم هو مُحلّل سياسي ونائب رئيس معهد الشرق الأوسط للمشاركة الدولية.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية على موقع معهد الشرق الأوسط في واشنطن.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.