رودان: العبقري الغرائبي (2 من 2)

الربيع الأَبدي

هنري زغيب*

عبقريٌّ؟ صحيح. لكنه غرائبيٌّ سلوكًا وأَعمالًا: في سلوكه أَنه متعدد النساء، وبينهنَّ تلميذتُه وعشيقتُه كميليا كلوديل التي عشقَها وعشقَتْه وأَودى بها جنون العشق إِلى مصحّ عقلي توفيَت فيه معزولةً محطَّمة. وفي أَعماله غرابةُ التجديد شكْلًا ومواضيع، ما جعله أَبرز نحَّات في زمانه، فسُمِّيَ “أَبا النحت الحديث” فارضًا حضوره الغرائبي على مساحة الفن التشكيلي في فرنسا وأُوروبا، ناقلًا النحت من النقْل والنسْخ إِلى الخلق الإِبداعي بتقنياته وتشكيلاته العميقة الفكر والمضمون. وهو كان جسرًا متينًا واضحًا بين التقليد الأَكاديمي وحرية التعبير كما شاعت في أَواخر القرن التاسع عشر. وبذلك تحدَّى ما كان سائدًا، وفرض في أَعماله الواقعية والرمزية معًا.

في الجزء الأَول من هذا المقال عرضتُ خمس منحوتات من أَبرز أَعمال هذا الفنان العبقري والغرائبي في آن.

في هذا الجزء أَعرض خمسًا أَخيرة.

  1. الربيع الأَبدي

في هذا التمثال حاول رودان أَن يلتقط هنيهةً عاصفة من الحب والشغف والحنان. فالمرأَة ارتخَت إِلى الخلْف تاركة لحبيبها إِهداءَها قبلةً عاشقة حميمة. ورودان، في صياغة هذا التمثال، استوحى من الميثولوجيا قصة “كيوبيد وبسايكِه” (من القرن الثاني للميلاد)، وأَعاد صياغتها بأُسلوبه الخاص لتكون بين أَعماله قصة خالدة في منحوتة. لذا تأَنَّى في إِبراز مشاعر القُبلة على الوجهَين، وبعبقريته النادرة أَظهر تلك الملامح العاطفية الشهوانية، ما جعلَها فعلًا منحوتةً خالدة في تجسيد الحب.

الرجل السائر
  1. الرجُل السائر

في هذا التمثال تتجلَّى براعة رودان في الإِيحاء بالحركة عبر الشكل. وهو باستخدامه أَجزاء من منحوتاته السابقة، وبينها “يوحنا المعمدان”، نفَّذ هذا التمثال نحو 1899 متعمِّدًا أَن يُبقيه من دون رأْس ومن دون ذراعَين. وهو بذلك أَراد أَن يكون التركيز على ملامح دينامية الجسد بتفاصيل الساقَين والصدر وفتحة القدمين. وعند عرضه للمرة الأُولى لاقى ردودًا ملتبسة بين مؤَيِّد ومستغرِب منتقِدٍ ما في الشكل والتعبير من خطوط بارزة تعوِّض عن النظرة في الوجه أَو الحركة في الذراعَين. من هنا يُعتبر هذا التمثال نموذجًا رئيسًا للنحت الحديث.

المسيح والمجدلية
  1. المسيح والمجدلية

هذا التمثال من تماثيل قليلة نفَّذَها رودان بإِيحاء ديني. وهو أَبدع فيه بإِبراز حزن المجدلية وهي تحتضن جسد المسيح واهنًا ورأْسه المائل جانبًا منهارٌ إِلى الوراء في ملامح عذاب شديد. وأَساسًا كان تمثال المجدلية جزءًا من المنحوتة الضخمة “أَبواب الجحيم”، لكن رودان عاد ففَصَله تمثالًا مستقلًّا. والنسخة الرُخامية من التمثال نفَّذها رودان سنة 1905 للبارون تايسن مركِّزًا على الفارق البيِّن بين التمثال وخلفيَّته.

وفي كلمة عن التمثال لراينر ماريا ريلكِه لفَتَ إِلى الفارق بين الشخصَيْن ورأْسيهما المائل أَحدهما عكس الآخر، الأَول ممدود الذراع والآخر مطويّ الذراع، ما يوحي بالحُزن العميق الذي برع رودان في إِبراز تعابيره واضحةً كما لم يستطع سواه بإِبراز هذه الملامح.

التأَمُّل
  1. التأَمُّل

في وقت لاحق سُمِّيَ هذا التمثال “الصوت الداخلي” تعبيرًا عما نجح رودان في التعبير عن الصمت الناطق في معظم تماثيله، عبر الشكل والانفعال. وعاد رودان فنفَّذ التعبير في تمثاله عن فيكتور هوغو، وكان أَحد ملهمي رودان بعظمته وهَيْبته. لكن رودان هنا حذف الذراعَين وجزءًا من الساق، ما وضع الجمهور في حيرة من موقفه حيال التمثال. لكن راينر ماريا ريلكِه أَكَّد أَنه تمثال كامل غير ناقص ولا فقدان فيه لأَيِّ جزء. ولاحقًا أَصبح هذا التمثال نموذجًا للنحت بالأُسلوب التجريدي في بساطة الشكل وقوة التعبير.

أَبواب الجحيم
  1. “أَبواب الجحيم”

هي منحوتة رودان الخالدة. أَرادها قمة أَعماله فكانت كذلك في عصره ولكل عصر. وهي تحوي نحو 200 وجه وشخص برع في إِبرازهم جميعًا في تفاصيل ملْمَحية عجيبة. وكان طُلِبَ منه تنفيذها سنة 1880 لتكون في واجهة متحف للفنون كان منويًّا إِنشاؤُه ثم لم يتم ذلك فبقيت المنحوتة خالدة على الزمان.

وكان من المتفق أَن يعرضها رودان سنة 1889في المعرض الدولي، وأَبقاها غير مكتملة، وعرض أَجزاء منفصلة منها سنة 1900 في معرض فردي له في باريس. ومع الزمن، باتت هذه المنحوتة مجموعة أَفكار في منحوتة واحدة، منها رأْس “المفكِّر” الذي بات لوحده عملًا منفردًا خالدًا في جميع الموسوعات العالمية. وتوفي رودان (1917) قبل أَن يرى النسخة البرونزية النهائية من منحوتته الخالدة. وما زالت نسخة الجفصين الأَصلية موجودة لدى صدارة متحف أُورساي في باريس.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى