أعظَمُ تهديدٍ وجودي تُواجِهُهُ إسرائيل الآن هو … حربٌ داخلية

حتى مع إظهار إسرائيل لهيمنتها العسكرية ضد أعدائها ومنافسيها في جميع أنحاء المنطقة، فإنها تواصلُ تنميةَ تهديدٍ وجودي أعظم في الداخل.

دونالد ترامب: هل يضغط على نتنياهو لوقف الحرب في غزة ولبنان؟

يائير والاش*

على مدارِ العام 2024، وخصوصًا منذ تموز (يوليو)، أظهرت إسرائيل تفوُّقها العسكري الواضح على منافسيها الإقليميين. فقد أدّت الحملة العسكرية المُدَمِّرة التي شنّتها إسرائيل ضد غزة إلى تقليص “حماس” وتحويلها من حركةٍ وميليشيا مُنَظَّمة، كانت عليها في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، إلى قوة حرب عصابات مُفَكّكة وغير فعّالة، في حين قتلت عشرات الآلاف، وشرّدت الملايين، وحوّلت غزة نفسها إلى أنقاض. وفي لبنان، قُتل معظم قادة “حزب الله”، الذين اعتقدوا أنهم أقاموا وَضعًا مُستَقرًّا للردع مع إسرائيل، وتدهورت القدرة العسكرية للمنظّمة الشيعية بشدّة، كما تمَّ تدميرُ مساحاتٍ واسعة من جنوب لبنان وأحياء في بيروت وأماكن أخرى.

لقد أثبتَ رَدُّ إسرائيل الوحشي على هجوم “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) أنه في المستقبل المنظور، لا يُمكِنُ هزيمتها -ناهيك عن تدميرها- بالقوّة العسكرية. لكن إسرائيل لم تربح هذه الحرب.

وكما لم تمنع الميزة العسكرية الإسرائيلية الضربة الهائلة التي تلقّتها الدولة العبرية في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، فإنها أيضًا غير كافية لحسمِ حرب الاستنزاف الدائرة بين إسرائيل و”محور المقاومة” في لبنان واليمن والعراق وإيران. لا يزالُ وابلُ الصواريخ والقذائف اليومية تتسبّب في أضرارٍ جسيمة، وتقتلُ جنودًا ومواطنين إسرائيليين، وتُعطّلُ الاقتصاد الإسرائيلي بشدة. وحتى إذا تمَّ التوصُّلُ إلى وقفٍ لإطلاق النار في غزة وجنوب لبنان قريبًا، فمن غير المرجّح أن يُعيدَ ذلك الاستقرار النسبي الذي تمتّعت به إسرائيل بين العامين 2006 و2023.

منذ العام 2009، وفي ظلِّ حُكم نتنياهو في الغالب، رفضت إسرائيل المفاوضات ذات المغزى نحو إقامةِ دولةٍ فلسطينية، وسَعَت بدلًا من ذلك إلى “إدارة” الصراع في مواجهة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و”حماس” في قطاع غزة. ولفترةٍ طويلة، بدا أنَّ هذا النهجَ يَعمَل بنجاح. لم تؤثّر التصعيداتُ العسكرية التي قتلت الآلاف من الفلسطينيين في العامين 2014 و2021 بشكلٍ كبيرٍ في المواطنين الإسرائيليين. كان اقتصادُ إسرائيل مُزدَهرًا طوال معظم هذه الفترة، والتي أقامت خلالها البلاد علاقاتٍ طبيعية مع دول عربية رئيسة. وبدا أنَّ إسرائيل قادرةٌ على إبقاء الفلسطينيين تحت الاحتلال والحصار إلى أجلٍ غير مُسمّى، بينما يتمتّع المواطنون الإسرائيليون بالأمن والازدهار.

انتهى هذا الوَهمُ في 7 تشرين الأول (أكتوبر). منذُ هجومِ “حماس”، انغمست إسرائيل في حربٍ بلا نهاية واضحة في الأفق، وتواجه عُزلةً دولية مُتزايدة وضغوطًا اقتصادية غير مسبوقة.

مع ذلك، فإنَّ التحدّي الوجودي الحقيقي الذي تواجهه إسرائيل لا يكمُنُ في الخارج بل في الداخل. كانت الشقوقُ العميقة داخل المجتمع الإسرائيلي واضحةً أصلًا قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر). والواقع أنه على مدار السنوات السابقة، اشتعلت التوترات الطويلة الأمد وتحوّلت إلى أزمةٍ حقيقية. في العام 2021، انتشرَ مقطعٌ كوميدي من برنامجٍ ساخر شهير على التلفزيون الإسرائيلي يدعو إلى حربٍ أهلية ل”ترتيب الأمور” أخيرًا، مما يعكسُ الشعورَ المتزايد بأنَّ المواجهة العنيفة داخل المجتمع الإسرائيلي اليهودي لم تَعُد غير واردة. وكما هو الحال في أماكن أخرى من العالم هذه الأيام، تمَّ تحديدُ خطوطِ الصدع هذه حول زعيم شعبوي مُثيرٍ للجدل: رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.

في العام 2022، وبعد الانتخابات الخامسة التي شهدتها البلاد في أقلِّ من أربع سنوات، نجح نتنياهو أخيرًا في تأمين غالبية قوية وشكّل الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل. وسرعان ما أطلَقَ تعديلًا قضائيًا واسع النطاق ــوُصِفُ بأنه “إصلاحٌ” قضائي ــ كان من شأنه أن ينزعَ سلاح القضاء الإسرائيلي فعليًا باعتباره فرعًا مُستقلًّا من السلطة. وقد قوبل هذا “الانقلاب القضائي” بمقاومةٍ غير مسبوقة فاجأت حتى منظّميه. وتدفّقَ مئات الآلاف من المحتجّين إلى الشوارع كل عطلة نهاية أسبوع لشهور متتالية. وهدّد آلاف الضباط في الوحدات العسكرية النخبوية ــبمن فيهم طيّارو القوات الجوية ــ بالانسحاب من الخدمة الاحتياطية العسكرية، التي من المتوقع أن يقوم بها الضباط الإسرائيليون الذين خدموا في الجيش حتى سن 45 عامًا.

وكانت الاحتجاجات بقيادة الطبقة المتوسطة اليهودية الإسرائيلية المتعلّمة والعلمانية إلى حدٍّ كبير، والتي عادةً ما تُحدّدُ هويتها على أنها وسطية سياسية. لقد وقف المتظاهرون ضد الكتل الأساسية في حكومة نتنياهو الائتلافية: الليكود وحلفاؤه من القوميين اليمينيين المتطرّفين، والمستوطنين المُتدَيّنين واليهود الأرثوذكس المتطرفين، المعروفين باسم “الحريديم”، والذين يحملون جميعًا استياءً عميقًا ضد “النخب الليبرالية” في إسرائيل.

لقد خشي المتظاهرون من أنَّ تقود حكومة نتنياهو إسرائيل نحو نموذجٍ استبدادي، مما يؤدي إلى تآكل الحريات الفردية وفرض نسخةٍ أصولية من اليهودية على المجال العام. وفي الوقت نفسه، كان قادة الاحتجاج متردّدين في الانخراط في أيِّ مناقشة حول حقوق الفلسطينيين، حتى أن بعضهم كان مُعاديًا لهذه الفكرة. ونتيجةً لذلك، ابتعدوا عن الدفاع عن المساواة للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل وحاولوا جاهدين تجنُّب الأسئلة المُتعلّقة بالحكم العسكري الإسرائيلي الذي دام 56 عامًا على الأراضي المحتلّة والبناء المستمرّ للمستوطنات في الضفة الغربية. كانت الاحتجاجات تدورُ حول الدفاع عن الديموقراطية الإسرائيلية، في المقام الأول لصالح مواطنيها اليهود.

وعلى الرُغمِ من نجاحِ الاحتجاجات في البداية في عرقلةِ التغييرات الدستورية اللازمة للدفع بإصلاح القضاء، فإنَّ حكومة نتنياهو لم تتخلَّ عن أجندتها. ولم يؤدِّ الفشل العسكري المُدمّر في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) إلى انهيار الحكومة، كما افترَضَ كثيرون. بل على العكس من ذلك، بعد الصدمة الأوّلية، عاد ائتلاف نتنياهو بقوة أكبر في العام 2024. وحافظ على مستوى مفاجئ من التماسُك، حيث اجتمعت عناصره المختلفة –القوميون المتطرفون والمستوطنون المتدينون والحريديم- حول برنامجٍ سياسي قائمٍ على الاستبداد والتفوُّق اليهودي وتوسيع المستوطنات. وقد عزّز وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير –الذي خرج من حركة كاهانا اليهودية المتطرّفة- قبضته على الشرطة وحوّلها إلى أداةٍ سياسيةٍ لقمع المعارضة. وقد أطلقت الحكومة الآن حملةً تشريعية مُعادية للديموقراطية، بقوانين جديدة تُهدّدُ بطرد وحرمان وترحيل “المتعاطفين مع الإرهاب”، وهو المصطلح الذي يستهدفُ في المقام الأول المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، وإن كانَ من المُمكن توسيعه ليشمل اليساريين اليهود الإسرائيليين.

في البداية، حظيت الحرب في غزة بدعمٍ شبه شامل بين الجمهور اليهودي الإسرائيلي. ولم تَكُن هناك أيُّ معارضة تقريبًا ردًّا على الدمار الذي لحق بغزة وسكانها المدنيين. ولكن في الوقت نفسه، ظلّت حكومة نتنياهو غير شعبية على نطاقٍ واسع. فقد أظهرت استطلاعات الرأي باستمرار أن أغلب الإسرائيليين ــ60% على الأقل في الشهر الماضي ــ لا يثقون بنتنياهو، الذي يُحَمِّلونه المسؤولية عن هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وفشله في تأمين إطلاق سراح الرهائن الذين ما زالوا مُحتَجَزين لدى “حماس” في غزة. وإذا ما جرت انتخاباتٍ مبكرة، فإنَّ أحزابَ الائتلاف لن تُحقّق الأغلبية.

مع ذلك، عجزت المعارضة عن ترجمةِ هذا الغضب العام والألم إلى حملةٍ فعّالة من شأنها أن تُجبِرَ الحكومة على الرحيل.

ولكن في إسرائيل، هناكَ إدراكٌ مُتزايدٌ بين بَعضِ الوسطيين بأنه من المستحيل فصل الاستبداد المتزايد للحكومة عن أجندة اليمين المُعادية للفلسطينيين، والتي تشمل عنف المستوطنين وضم الضفة الغربية، وخطط استبدال السكان الفلسطينيين النازحين في غزة بمستوطنات إسرائيلية يهودية.

ولعلَّ أقربَ ما وصلت إليه البلاد من حربٍ أهلية كان في تموز (يوليو) 2024، عندما اقتحمَ حشدٌ مسلح قاعدتين عسكريتين إسرائيليتين في محاولةٍ للإفراجِ عن جنودٍ يُشتبه في اعتدائهم جنسيًا على سجناءٍ فلسطينيين مُحتَجزين هناك. وكانت الشرطة غائبة بشكلٍ ملحوظ في وقت الحادث، مما يؤكد انعدام الثقة العميق بين ال”شين بيت” -جهاز الأمن الداخلي في البلاد الذي لا يزال في أيدي مؤسسة الأمن القومي- والشرطة تحت سيطرة بن غفير.

ولعلَّ القضيةَ الأكثر تفجُّرًا بالنسبة إلى ائتلافِ حكومة نتنياهو هي إعفاء “الحريديم” من التجنيد العسكري. بالنسبة إلى “الحريديم”، فإنَّ الإعفاءَ من التجنيد هو عنصرٌ أساسي في البنية الاجتماعية والسياسية التي توفّرُ لهم جيبًا مُستقلًّا مُموَّلًا من الدولة. ويخشى الإسرائيليون أن يؤدي إنهاء هذه الخدمة العسكرية إلى انهيار هذا النظام البيئي. وكان العدد الكبير من الرجال “الحريديم” المَعفيين من الخدمة العسكرية سببًا في إثارة الاستياء بين مجموعاتٍ أخرى من اليهود الإسرائيليين. لكن بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، تحوّلَ هذا الأمر إلى مصدرِ قلقٍ مُلحٍّ، حيث يكافح الجيش الإسرائيلي من أجل إيجاد الموارد البشرية التي يحتاج إليها الآن للعمليات في غزة والضفة الغربية ولبنان.

وبحسب صحيفة هآرتس، خدَمَ ثلثُ جنود الاحتياط أكثر من 150 يومًا في الخدمة الفعلية منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر). ويَفرُضُ غيابهم لأشهرٍ طويلة ضغوطًا هائلة على أُسَرهم وعلى أعمالهم وأعمال أصحاب العمل. وحتى عندما تنتهي الحرب، ستستمرّ إسرائيل في طلبِ جيشٍ نظامي أكبر بكثير مما كان عليه في السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وفي مثل هذه البيئة، فإنَّ استمرارَ إعفاءِ الحريديم، والإعانات الحكومية التي يتلقّونها، يُثيرُ غضبًا مُتزايدًا ــ حتى بين مؤيدي الحكومة المتشدّدين: القوميون المتدينون الذين يخدمون هم أنفسهم بأعدادٍ كبيرة في الجيش.

لقد أحبطت المحكمة العليا والمدعي العام، فضلًا عن المعارضة الداخلية داخل الائتلاف، محاولات نتنياهو لاسترضاء الحريديم والتوصّل إلى “حلٍّ وسط” يترك الأمور كما هي حتى الآن. وتظل هذه القضية هي القضية الرئيسة التي قد تؤدّي إلى انهيار الحكومة.

ومع ذلك، إذا تساوت كلُّ الأشياء الأخرى، فإنَّ الكتل المختلفة في الائتلاف ليست لديها مصلحة في الانتخابات المبكرة ــ أو في إنهاء الحرب. وبينما يشتعل القتال وتتساقط الصواريخ، وجدت الحكومة أنه من السهل نسبيًا درء الغضب العام. ومن المتوقع على نطاق واسع أن يتغيّرَ هذا الوضع عندما يتمُّ التوصُّلُ إلى وقفٍ لإطلاق النار. ومع ذلك، حتى مع الدمار الذي لحق بغزة وإضعاف “حماس” بشدة، قاوم نتنياهو الضغوط من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لإنهاء الحرب. وقد صرح الرئيس المنتخب دونالد ترامب مرات عدة برغبته في رؤية نهاية للحرب، لكن من غير الواضح ما إذا كان هذا سيُتَرجم إلى ضغوطٍ أكبر على إسرائيل عندما يتولى منصبه في كانون الثاني (يناير) 2025.

لكن حتى لو أُعلِنَ عن انتخاباتٍ جديدة، فمن غير الواضح ما إذا كان انزلاقُ إسرائيل نحو الاستبداد سينعكس قريبًا. يظلُّ اليمين المتطرّف القوة الدافعة الأكثر تنظيمًا واستراتيجية في السياسة الإسرائيلية. ويشعرُ الوسطيون في إسرائيل بقلقٍ متزايد بشأنِ مستقبل البلاد، لكنهم فشلوا في الالتفاف حول أجندةٍ إيجابية، تتجاوز طرد نتنياهو. ونتيجةً لذلك، فحتى مع إظهار إسرائيل لهيمنتها العسكرية ضد أعدائها ومنافسيها في جميع أنحاء المنطقة، فإنها تواصلُ تنميةَ تهديدٍ وجودي أعظم في الداخل.

  • يائير والاش هو باحث (أستاذ مشارك) في الدراسات الإسرائيلية في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية (SOAS) في جامعة لندن. وهو مؤرّخٌ اجتماعي وثقافي لفلسطين/إسرائيل الحديثة. فاز كتابه “مدينةٌ مُجَزَّأة: نصٌّ حضري في القدس الحديثة” (دار نشر جامعة ستانفورد، 2020) بجائزة جوناثان شنيتزر للكتاب للدراسات اليهودية في العام 2022.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى