عامٌ من العيشِ في خطرٍ في إيران: كيفَ يُؤدّي فشلُ استراتيجيةِ طهران إلى زيادةِ شَهِيَّتِها للمُخاطَرة

من غير المرجح أن يؤدّي تغييرُ العقيدة النووية إلى حلِّ المعضلات الاستراتيجية للجمهورية الإسلامية. من المرجح أن يؤدي التحرّك نحو السلاح النووي إلى نشوب صراعٍ في الأمد القريب.

ويليام بيرنز: الوقتَ اللازم لإيران لكي تصنع قنبلة نووية لا يتجاوز “أسبوعًا أو أكثر قليلًا”.

علي فايز*

على مدى أربعةِ عقود، وفي محاولةٍ للحفاظِ على نفسها، وفَرض نفوذها إقليميًّا، ورَدعِ الخصوم، استثمرت الجمهورية الإسلامية الإيرانية في ثلاثة مشاريع: تمويل وتسليح شبكة من الحلفاء غير الحكوميين؛ تطوير صواريخ باليستية يمكنها الوصول إلى منافسيها؛ وإطلاق برنامج نووي يمكن تقليصه لتحقيق فوائد اقتصادية أو تكثيفه لإطلاق سلاح نووي. وقد أدت النكسات التي لحقت بالمشروع الأول، والنتائج المختلطة للمشروع الثاني، وعدم اليقين بشأن المشروع الثالث إلى إثارة الشكوك بشكلٍ مُتزايدٍ حولَ هذه الاستراتيجية.

بعد هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 على إسرائيل، حشدت جماعات “محور المقاومة” المدعوم من إيران قواتها بسرعة على جبهاتٍ متعددة. في اليمن، هدّدت صواريخ وطائرات الحوثيين المُسَيَّرة حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر. وفي العراق وسوريا، أطلقت الميليشيات طائراتٍ مُسَيَّرة وصواريخ على القوات الأميركية. وفي لبنان، كثّفَ “حزب الله” إطلاق النار والصواريخ عبر الحدود على إسرائيل. وبينما شنّ الجيش الإسرائيلي حملته العسكرية على غزة، فقد سعى أيضًا إلى إخماد حلقة النار الإيرانية، بما في ذلك استهداف أفراد الحرس الثوري الإسلامي. في نيسان (أبريل)، أسفرت غارةٌ إسرائيلية على منشأة قنصلية إيرانية في دمشق ــوالتي اعتبرتها القيادة في طهران ضربةً مباشرة على أراضٍ ذات سيادة ــ عن مقتل العديد من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني. وردًّا على الخسائر المتزايدة لضباط هذا الحرس في لبنان وسوريا، شنّت طهران، لأول مرة، هجومًا عسكريًا مباشرًا ضد إسرائيل. أرسلت إيران بشكلٍ غير مباشر موعد ضربتها مُسبقًا إلى الولايات المتحدة، ما جعل وابل الطائرات المسيّرة والصواريخ غير فعّال إلى حدٍّ كبير. لكن قادةَ إيران أعلنوا رُغم ذلك أنَّ هجومهم كان ناجحًا.

ربما كانت الضربة التي شُنَّت في نيسان (إبريل)، والتي أُطلِقَ عليها اسم عملية “الوعد الحقيقي”، قد شكّلت سابقة في التنافس الطويل الأمد بين إسرائيل وإيران، لكنها لم تفعل الكثير لتعزيز الردع بالنسبة إلى طهران. فقد ردت إسرائيل بسرعة بضربةٍ جراحية ضد منشأةٍ للدفاع الجوي بالقرب من أصفهان، الأمر الذي كشفَ عن نقاطِ ضعف الحرس الثوري الإيراني على مقربةٍ من منشآت نووية متعددة ورَدَعَ طهران، مؤقتًا على الأقل، عن توجيهِ ضربةٍ مباشرة أخرى إلى إسرائيل. وقد قللت الحكومة الإيرانية من أهمّية الحادث. لكن في أواخر تموز (يوليو)، انكشفت نقاط ضعف إيران بشكلٍ أكبر من خلال عمليةٍ إسرائيلية لم يكن من السهل عليها تجاهلها: مقتل زعيم “حماس” إسماعيل هنية أثناء وجوده في طهران لحضورِ حفل تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان.

لكن هذه المرة، وعلى الرُغم من الخطاب العنيف، امتنعَ النظامُ عن الرد. كان الضغطُ الذي قادته الولايات المتحدة لتثبيت وقف إطلاق النار في غزة سببًا واضحًا في هذا السياق، كما كانت التحذيرات المُوَجَّهة إلى الحكومة الإيرانية الجديدة من أنَّ جهودها الرامية إلى تحسين العلاقات مع الغرب سوف تتضرّرُ قبل أن يتسنّى اختبارها. من المرجح أيضًا أن يكونَ إرسال حاملات الطائرات والسفن الحربية والطائرات المقاتلة الأميركية إلى المنطقة، والمخاوف من أن تردَّ إسرائيل بقوة ساحقة على أيِّ ردٍّ إيراني، سببًا في ترجيح كفة طهران ضد أيّ تحرُّكٍ آخر.

لكن هذا الأمرُ كان بمثابةِ هدنةٍ مؤقتة. لم تُحرِز مفاوضات غزة أيَّ تقدُّمٍ واضحٍ نحو وقف إطلاق النار، في حين بدأت إسرائيل تكثيفَ العمليات على جبهتها الشمالية ضد “حزب الله” ــ “درّة التاج” لأذرع إيران في المنطقة والحزب الذي بذلت طهران قصارى جهدها لتعزيز قدراته العسكرية كجُزءٍ من بوليصة تأمين ضد أي هجوم على أراضيها. كانت عملية السابع عشر من أيلول (سبتمبر) التي أدّت إلى انفجار آلاف أجهزة النداء والاتصال التي تستخدمها كوادر “حزب الله” بمثابة بدايةٍ لهجوم خاطف أسفر في أقل من أسبوعين عن مقتل نحو ستة عشر من كبار قادة “حزب الله”، فضلًا عن زعيمه السيد حسن نصر الله. كانت الضربات الإسرائيلية على “حزب الله” ملحوظة بسبب قدراتها الاستخباراتية والقدرات العسكرية التي كشفت عنها، بما في ذلك القدرة على اختراق الاتصالات الداخلية وتتبُّع عملاء المجموعة. وربما لم تَعُد طهران، التي تعرّضت أصلًا لأكثر من بضع عملياتٍ سرّية إسرائيلية في الماضي، بما في ذلك ضد مواقع نووية وأفراد، تعتقد أنها مُحصَّنة ضد مثل هذه العمليات الإسرائيلية.

من المرجح أنَّ قادةَ إيران رَؤوا أنفسهم أمامَ خياراتٍ سيّئة: فإما أن يقفوا مكتوفي الأيدي ويخسروا ما تبقّى من قوّتهم الرادعة المُتضائلة كعدوٍّ ومصداقيتهم كحليف، أو يدخلوا المعركة مرة أخرى على الرُغم من خطر تعرُّضهم لضربةٍ مُضادة أعظم من إسرائيل. وبدون سابق إنذار، شنّت إيران هجومها المباشر الثاني على إسرائيل في الأول من تشرين الأول (أكتوبر)، والذي قدرت وزارة الدفاع الأميركية أنه ضعف حجم هجوم نيسان (أبريل). (تسببت الصواريخ الباليستية المئة والثمانون في بعض الأضرار في قاعدتين جويتين عسكريتين إسرائيليتين، وهو ما قد يثير المخاوف بشأن احتمال وقوع هجمات إيرانية في المستقبل، على الرغم من أن الجيش الإسرائيلي وكبار المسؤولين الأميركيين اعتبروا أن تأثيرها “غير فعال” من الناحية العملياتية).

كان هذا الهجوم، الذي أطلقت عليه طهران اسم عملية “الوعد الحقيقي 2″، مقامرةً أكبر بكثير من الهجوم الذي شنّته في نيسان (أبريل)، حيث كان من شأنه أن يدعو إلى ردِّ فعلٍ في وقتٍ حيث يشعر الإسرائيليون (وبعض كبار المسؤولين في واشنطن) بالتفاؤل بشأن السرعة والإبداع اللذين نجحت بهما إسرائيل في تدهور وتقويض قيادة “حزب الله” وقدراته العسكرية. لقد نصح الرئيس الأميركي جو بايدن إسرائيل علنًا بعدم مهاجمة المنشآت النووية والنفطية الإيرانية، في حين أنَّ الحملات العسكرية الجارية في كلٍّ من غزة ولبنان قد تخفّفُ قليلًا من ردّ إسرائيل الذي وصفه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بأنه سيكون “قاتلًا ودقيقًا ومفاجئًا بشكلٍ خاص”. مع ذلك، حتى لو كان من الممكن احتواء هذه الجولة من التبادلات، فقد تثبت مرة أخرى أنها فترة راحة قصيرة.

مع إضعافِ وكلائها، وفشل وابل الصواريخ الثاني لإيران في إحداثِ أضرارٍ جسيمة، والقدرات العسكرية والاستخباراتية المتفوِّقة لخصومها، فقد ضعفت يد الجمهورية الإسلامية بلا شك. ومن غير المُستَغرَب أنَّ شريحةً مُتنامية داخل الطبقة السياسية وشبكات الدعاية للنظام تُنادي بصوتٍ أعلى بدعواتٍ كانت في السابق همسًا: التخلُّص من التظاهر السلمي للبرنامج النووي والتحرُّك نحو التسلح النووي باعتباره الرادع النهائي.

قدّرَ مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ويليام بيرنز أخيرًا أنَّ الوقتَ اللازم لإيران لكي تتخلّص من المواد الانشطارية الكافية لصنع قنبلةٍ واحدة حتى تصبح صالحة للاستخدام في صنع الأسلحة النووية لا يتجاوز “أسبوعًا أو أكثر قليلًا”. ومن ثم فإنَّ الأمرَ لن يستغرقَ سوى بضعة أشهر أخرى لتحويلها إلى سلاحٍ قابلٍ للاستخدام. ونظرًا للطبيعة المتقدّمة للأنشطة النووية الإيرانية، فضلًا عن النكسات التي تعرّضت لها الأرجل الأخرى من الثالوث الاستراتيجي، فإنَّ النظامَ لديه الدافع والفرصة لاتّخاذ قرارٍ كان أرجأ اتخاذه لفترة طويلة. لكن لثلاثة أسباب، فإنَّ هذه الخطوة قد تؤدّي إلى تفاقُم مشاكله بدلًا من حلّها.

الأوّل هو أنه حتى لو تمَّ تجنيبُ المنشآت النووية الإيرانية أي ردٍّ إسرائيلي أولي، فإنَّ الاندفاعَ نحو التسلح النووي، والذي قدر بيرنز أنه سيتم اكتشافه “في وقتٍ مُبكرٍ نسبيًا”، قد يتمُّ التعامل معه من قِبَل إسرائيل والولايات المتحدة باعتباره سببًا للحرب، ما يضع المواقع النووية الإيرانية الرئيسة في مرمى نيران إسرائيل والولايات المتحدة. ورُغمَ أنَّ إسرائيل قادرةٌ على إلحاق الضرر بالمنشآت النووية الإيرانية المُحصَّنة للغاية والمنتشرة على نطاقٍ واسع، فإنَّ الولايات المتحدة وحدها هي القادرة على إرجاع البرنامج النووي الإيراني إلى الوراء بشكلٍ كبير.

إنَّ المشكلة الثانية هي تلك التي أبرزتها بشكلٍ مُثيرٍ للسخرية تصرّفات الحكومة الإيرانية ذاتها. فقد تقوّضت الحجة لصالح السعي إلى امتلاك سلاح نووي باعتباره رادعًا نهائيًا بسبب استعداد طهران لشنِّ هجمات تقليدية ضد ليس دولة واحدة بل دولتين مسلحتين نوويًا هذا العام: إسرائيل وباكستان. بعبارةٍ أخرى، إذا كان هدفُ إيران لا يقتصر على ضمان بقاء النظام فحسب، بل وأيضًا ردع الخصوم عن شنِّ ضرباتٍ مضادة، فمن الغريب أن نتوقعَ تحسّنًا في الردع بوسائل فشلت في رَدعِ طهران نفسها.

إنَّ التحدّي الثالث الذي قد ينشأ عن التحرُّك نحو بناءِ ترسانةٍ نووية هو الانهيار المُحتَمل، على الأقل في الأمد القريب إلى المتوسط، لأيِّ احتمالٍ لاستخدام البرنامج النووي كنقطةِ ضغطٍ لتخفيف العقوبات الدولية. حتى أواخر أيلول (سبتمبر)، كانت حكومة بزشكيان تختبرُ المياه مع القوى الغربية بشأن المعايير المُحتملة للمشاركة المتجددة. وإذا طوّرت طهران أسلحة نووية، فمن المؤكد أنَّ المشاركين الأوروبيين في الاتفاق النووي لعام 2015 (فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة) سيعيدون النظر في تلك الاتصالات التجريبية. بدلًا من ذلك، سيأخذون زمام المبادرة في استعادة العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة بموجب تلك الصفقة وإعادة تصنيف الجمهورية الإسلامية باعتبارها تهديدًا للأمن الدولي بموجب ميثاق الأمم المتحدة.

بالنسبة إلى قادة إيران، قد يؤدي الكشف المفاجئ عن نقاطِ ضعفها إلى تغذيةِ شهيةٍ مُتزايدة للمخاطرة – وهي المخاطر التي قد يأملون في تعويضها عن الإخفاقات المتزايدة ومنع حدوث إخفاقات مستقبلية. مع ذلك، من غير المرجح أن يؤدي تغيير العقيدة النووية إلى حلِّ المعضلات الاستراتيجية للجمهورية الإسلامية. من المرجح أن يؤدي التحرّك نحو السلاح النووي إلى نشوب صراعٍ في الأمد القريب. وفي المدى الأبعد، لن يضمنَ بالضرورة حتى الحصول على الردع النهائي حماية النظام من الأعداء في الداخل والخارج، الذين سيواصلون استغلال استخباراته المتدنّية، وضعفه في الأسلحة التقليدية، واقتصاده الفاشل، وشرعيته المتآكلة.

  • علي فايز هو مدير مشروع إيران في مجموعة الأزمات الدولية. يمكن التواصل معه عبر منصة (X) على: @AliVaez

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى