كيفَ يَمنَعُ الحرس الثوري الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان من رَسمِ مَسارٍ جديد

مع فقدانِ المؤسّسة الدينية في إيران مكانتها، عَوَّضَ الحرس الثوري الإيراني عن هذا النقص، فعملَ بشكلٍ مُتزايدٍ كدولةٍ داخل الدولة.

الرئيس مسعود بزشكيان: أكثر وعوده قد تبقى حبرًا على ورق بسبب هيمنة الحرس الثوري الإسلامي.

جون ألترمان وسنام فاكيل*

رؤساءُ الجمهورية في إيران لا ينعمون بالسعادة الدائمة. فهم يدخلون مناصبهم كأبطال، ويَعِدونَ بتغييراتٍ كبيرة لتحسين حياة مواطنيهم. لكنهم يغادرونها في كلِّ الأحوال تقريبًا كرجالٍ مخذولين ومقهورين.

كثيرًا ما تُثبتُ مشاكلُ إيران على أنها أكثر صعوبةً مما يتوقّعهُ قادتُها الجُدد. لكنَّ العقبةَ الأكبر التي يواجهها الرؤساء الإيرانيون هي أنهم يتحمّلون المسؤولية من دون سلطة. مع وجود قطاعاتٍ كبيرة من الحكومة والاقتصاد تحت سيطرة النُخبة الدينية في إيران وبالتالي هي بعيدة من متناول الساسة، فإنَّ الرؤساءَ قادرون على التأثير في نبرةِ الحياة الإيرانية أكثر من تأثيرهم في جوهرها. الواقع أنَّ النظامَ الإيراني هو عبارةٌ عن نظامٍ هجين، مُقَسَّمٌ بين القادة المُنتَخَبين وغير المُنتَخبين، والغالبية الساحقة من القادة هي من غير المُنتَخَبين.

لكنَّ فوزَ مسعود بزشكيان في الانتخاباتِ الرئاسية المُبكرة في إيران في الخامس من تموز (يوليو) أعادَ الأمل داخل وخارج البلاد في أن تكون الأمور مختلفة هذه المرة. فقد خاض بزشكيان الانتخابات بصفته إصلاحيًا، ووَعدَ بمزيدٍ من الشفافية الحكومية، والنموِّ الاقتصادي، والاستقلالِ الشخصي. وتُشيرُ المؤشّرات الأوَّلية إلى أنه يسعى إلى اتّباعِ مسارٍ عملي، وبناءِ الحماسِ العام لأجندته في حين يُظهِرُ ولاءً خالصًا للمرشد الأعلى علي خامنئي. ويبدو أنَّ رهانَ بزشكيان هو أنه سوف يكونُ قادرًا على انتزاعِ بعض التنازلات من المؤسّسة الدينية التي من شأنها أن تُعزِّزَ الحياةَ اليومية للإيرانيين.

قد يساعدُ بزشكيان الإيرانيين على الفوز بقدرٍ أعظم من الحرية الاجتماعية، وقد يكونُ قادرًا على تخفيفِ بعضِ العقوبات الغربية الساحقة عن البلاد. لكن مثل هذه الإنجازات لن تُبَشِّرَ باتجاهٍ أكثر اعتدالًا لإيران. على نحوٍ مُتزايد، لم تَعُد المؤسّسة الدينية، التي أصبحت قوةً آخذة في التضاؤل، وحدها التي تُحرّكُ الموقفَ العدواني الذي تتبنّاه إيران والذي أدّى إلى عزلتها عن الغرب، بل هناك أيضًا المؤسّسة الأمنية، وخصوصًا الحرس الثوري الإسلامي، الذي اكتسب نفوذًا هائلًا على حكومة البلاد واقتصادها. وهذا من شأنهِ أن يُقلِقَ أولئك الذين يأملون في نهجٍ أكثر تصالُحية من جانب طهران: ذلك أنَّ إيران التي يمارس فيها الحرس الثوري الإسلامي قدرًا أعظم من السلطة سوف تُصبحُ أكثر عُزلةً ــ وإيران الأكثر عُزلةً سوف تصبح أكثر خطورة.

إنَّ الحرسَ الثوري الإيراني يستفيدُ من العُزلةِ أكثر من أيِّ فصيلٍ آخر في إيران. فالاقتصادُ الإيراني الخاضِعُ لعقوباتٍ شديدةٍ يدرُّ مليارات الدولارات من عائدات التهريب التي تُهَيمِنُ عليها المنظّمة. وهذه الأموال، بدورها، تدعَمُ شبكات المحسوبية المحافظة وتُمَوِّلُ وكلاء إيران في جميع أنحاء الشرق الأوسط الذين يُشكّلون ما يُسمّى “محور المقاومة”. وفي الواقع، يدير الحرس الثوري الإيراني مُخَطَّط “بونزي” (شكلٌ من أشكالِ الاحتيال) مُعَقَّدًا يعملُ على إدامةِ سلطةِ ونفوذِ قِلّةٍ مُختارة على حساب الإيرانيين العاديين. وهذه الحقيقة، أكثر من أيِّ مقاومة أبدتها النخبة الدينية ضد بزشكيان، ستُشَكّل العقبة الأكثر أهمية أمامَ أيِّ جُهدٍ يبذله نحو الإصلاح والاعتدال.

وُلِدَ من الثورة

بعد الثورة الإيرانية في العام 1979، أنشأ الإمام روح الله الخميني، أول مُرشِدٍ أعلى للبلاد، الحرس الثوري الإيراني لحماية الجمهورية الإسلامية الفَتِيّة. كانت الفكرة في حينه تقوم على إنشاءِ كيانٍ مُخلِصٍ للغاية ومُنفَصِلٍ عن القوات المسلحة التقليدية لسببَين على الأقل. كان الهدف الأول هو العمل كقوّةٍ موازِنة لأيِّ جيشٍ قد يكون رجعيًا أو لديه طموحاته الخاصة في السلطة. وكانَ الهدفُ الثاني هو حماية النظام الجديد من التهديدات الأمنية الداخلية والخارجية على نطاقٍ أوسع. وقد ساعد الارتباطُ الإيديولوجي للحرس الثوري الإيراني وولاؤه للجمهورية الإسلامية على نموِّهِ ومَنَحهُ نفوذًا ومكانةً مميزة داخل الدولة. أثناء الحرب الإيرانية-العراقية، التي امتدّت من العام 1980 إلى العام 1988، لعب الحرس الثوري الإيراني دورًا فعّالًا في التعبئة السريعة للدفاع ضد غزو صدام حسين. شارك أعضاؤه في القتال على الخطوط الأمامية وحرب العصابات. وفي الوقت نفسه، تمَّ استخدامُ ميليشيا الباسيج، وهي قوة تطوُّعية إلى حدٍّ كبير تم دمجها في الحرس الثوري الإيراني في ما بعد، لقمع المعارضة والحفاظ على النظام العام.

بعد انتهاءِ الحرب، لعبَ الحرسُ الثوري الإيراني دورًا رئيسًا في إعادةِ بناءِ البُنية التحتية لإيران، مُتجاوِزًا إعادة البناء العسكري ليشمل مشاريع اقتصادية كبيرة. في العام 1989، أنشأت المنظمة المقر العام ل”خاتم الأنبياء للإعمار”، المؤسسة التي أصبحت أحد أكبر المقاولين في إيران. وقد تولّت هذه المؤسسة بناء السدود وترميم وبناء الطرق وتطوير قطاع الطاقة، مما زادَ بشكلٍ كبير من البصمة الاقتصادية للحرس الثوري الإيراني. في السنوات التي تلت ذلك، توسع الحرس في مجال الاتصالات والخدمات المصرفية. وقد وَفّرَ هذا التنوُّع الاقتصادي للحرس الثوري الإيراني موارد مالية كبيرة غير خاضعة للضريبة، مستقلّة عن سيطرة الدولة. بعد توقيعِ خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) في العام 2015، تدخّلَ الحرس الثوري الإيراني، خوفًا من فقدان حصة السوق، لإبطاء الصفقات مع الشركات الدولية. ونتيجةً لذلك، توسّعَ دورُ الحرس الثوري الإيراني إلى ما هو أبعد من تفويضه الأوّلي، وزاد عدده بشكل كبير، من نحو 10,000 عضو في أواخر العام 1979 إلى ما بين 150,000 و190,000 اليوم.

أصبحت العقوبات والعُزلة الاقتصادية، المُصَمَّمة لتقييد السلوك الإيراني إن لم يكن تغييره، بمثابةِ الأدواتِ الفعلية للسياسة الأميركية تجاه إيران. لكن بدلًا من استفزازِ تغيير سلوك طهران، أنتجت العقوبات تأثيرًا مُعاكِسًا. فقد أصبح الحرس الثوري الإسلامي، وهو أصلًا جهة فاعلة مُهَيمنة، أكثر حضورًا في الاقتصاد للحفاظ على النظام طافيًا، على حساب الناس العاديين والقطاع الخاص. وقد استولى وسيطر على التجارة المشروعة وغير المشروعة، وغرس الفساد والجريمة على غرار المافيا من خلال شبكةٍ من الشركات الوهمية المُستخدَمة للالتفاف على العقوبات. وفي غياب الاستثمار الدولي والقيود المفروضة على مبيعات النفط، لجأ الحرس إلى ضخِّ أمواله من خلال صادرات النفط، وإن كان بأسعارٍ مُخفَّضة، حيث يعتمد على شبكته المالية في العراق ولبنان وسوريا للوصول إلى هذه الأسواق، ومعها السيولة.

منذ العام 1979، سعى النظامُ الإيراني إلى إبرازِ مصداقيته الإسلامية والثورية. وفي مشاهد بدت في كثير من الأحيان وكأنها مصنوعةٌ للتلفزيون، يحثُّ رجالُ الدين بانتظامِ حشودًا ضخمة على معارضة الولايات المتحدة والنظام العالمي الذي تقوده وتمثله، و”الكيان الصهيوني” الذي تدعمه. وفي الوقت نفسه، تشارك إيران وحلفاؤها ووكلاؤها ــنظام الأسد في سوريا، و”حزب الله” في لبنان، و”حماس” في الأراضي الفلسطينية، والمتمردين الحوثيين في اليمن، والميليشيات الشيعية المختلفة في العراق ــ في أعمالٍ مُزعزعةٍ للاستقرار من خلال سياسة حافة الهاوية والاستفزاز والإرهاب.

لكن بالنسبة إلى معظم الإيرانيين، فإنَّ سياسةَ المقاومة هذه ليست أكثر من مسرحٍ أ مسرحية للمقاومة. فقد فقدوا منذ فترة طويلة صبرهم تجاه القيادة الدينية وفقدوا الاهتمام بالإسلام الثوري. والقضايا التي تهمُّ الإيرانيين العاديين أكثر من غيرها هي الاقتصاد الراكد (الذي أنتج هجرة الأدمغة من الشباب القادرين) والقمع الاجتماعي القسري (الذي تقتصر أشد تدابيره على النساء). وهذه هي المظالم التي دفعت الإيرانيين إلى النزول إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة في السنوات الأخيرة.

مع فقدان المؤسّسة الدينية في إيران مكانتها المُعتادة، عَوَّضَ الحرس الثوري الإيراني عن هذا النقص، فعملَ بشكلٍ مُتزايدٍ كدولةٍ داخل الدولة. ورُغمَ أنه مُتحالِفٌ نظريًا على الأقل مع رجالِ الدينِ وخاضعٌ لسلطة خامنئي طالما بقي على قيد الحياة، فإنَّ المنظمة العسكرية لديها مصادرها الخاصة للثروة والقوة ومصادر قليلة للمُساءلة الخارجية. وقد اكتسب الحرس نفوذًا سياسيًا في معظم المؤسّسات الإيرانية إن لم َيكُن كلها. وقد مكّنه تفويضه المُحَدَّد دستوريًا بحماية الأمن القومي، بدعمٍ من المرشد الأعلى، من إنشاء جهازٍ قمعي في الداخل مع تعزيزِ سياسةٍ خارجية مُوَجَّهة نحو المقاومة في الخارج.

نما النفوذ السياسي للحرس الثوري الإيراني جنبًا إلى جنب مع توسُّعه الاقتصادي. يشغل العديد من أعضائه السابقين مناصب داخل الحكومة (بما في ذلك مجلس الوزراء والبرلمان) ويعملون كحُكّام أقاليم. ويجلس كبار قادة الحرس في المجلس الأعلى للأمن القومي، وهو الهيئة المُكَلَّفة بصياغةِ السياسة النووية والخارجية والدفاعية. ويلعبُ العديد من الشخصيات الرئيسة في المنظمة أدوارًا حاسمة في مكتب المرشد الأعلى. كما تُشرفُ قوات الحرس الثوري الإيراني على العديد من المؤسّسات الأمنية الكبرى، بل وتؤثر حتى في المحاكم الثورية، التي تنظر في قضايا تتعلّقُ بالأمن القومي. ومنذ اندلاع المظاهرات الطلابية في العام 1999 وفي كل مظاهرة على مدى السنوات العشرين الماضية، بما في ذلك الاحتجاجات الوطنية في الأعوام 2009 و2017 و2019 و2022، لعبت قوات الحرس دورًا بارزًا في قمع المعارضة المحلية. كما تقود المنظمة العلاقة الأمنية والدفاعية الناشئة بين إيران وموسكو، وتوفّرُ ذراعها الخارجية، المعروفة باسم “قوة القدس”، الدعم المالي والمادي المباشر لأعضاء “محور المقاومة”.

لكنَّ الحرسَ الثوري ليس كيانًا مُتجانِسًا. فعلى الرُغمِ من درجاتِ الولاء العالية والانضباط والجنون، فقد شهدَ مثل أيّ مؤسّسة كبيرة توتّرات داخلية. فقد نشأت الخلافات والفجوات بين الأجيال بشأن المشاركة في الصراعات الإقليمية، والعلاقات مع الغرب، والتعامل مع الاحتجاجات، حيث بدا البراغماتيون الأصغر سنًا أقل إيديولوجية وأكثر انفتاحًا على المشاركة والتحرُّر الاجتماعي من المحاربين القدامى الأكبر سنًّا. كما إنَّ الحرسَ الثوري ليسَ مُكَوَّنًا من المحافظين فقط؛ فقد دَعَمَ بعضَ الأعضاء السياسيين الإصلاحيين، بما في ذلك في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. كما أدت مزاعم الفساد وسوء السلوك المالي والتورُّط في القمع المحلي إلى تشويه صورة الحرس الثوري العامة وقد تؤثِّرُ في دوره في الأمد البعيد.

مع ذلك، ليس هناك شكٌّ في أنَّ الحرس الثوري سيعملُ كضامنٍ للاستقرار عندما يرحل خامنئي عن المشهد. ومن المؤكد أنَّ المنظمة ستؤثّرُ في عملية الخلافة، وتدعم النتيجة التي ستحمي مصالحها الخاصة وتصونُ دورها كمهندس ومدير رئيس ل”محور المقاومة”. وسوف يأتي هذا الترسيخ المستمر على حساب نفوذ رجال الدين المُتراجِع أصلًا.

جيشٌ لن يتراجع

لكي نُدرِكَ كيفَ قد تبدو إيران في فترةِ ما بعد خامنئي حيث يتفوّقُ الحرسُ الثوري الإسلامي، قد يتصوَّرُ المرء أنَّ مصر تُقدّمُ لنا تلميحًا. فقد قادَ العسكر مصر وهيمنوا على حكومتها منذ أطاحت مجموعةٌ من الضباط النظام الملكي في العام 1952. وفي العقود التي تلت، وَفّرَ الحُكمُ المدني الاسمي واجهةً رقيقةً على القوى الحقيقية في البلاد: المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية. وكان للبلاد رئيسٌ مدني واحد: محمد مرسي، الإسلامي الذي انتُخِب في أوائل العام 2012، بعد ثورات “الربيع العربي”، والذي ساعدت المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية في إزاحته في تموز (يوليو) 2013.

والرجل الذي حكم البلاد منذ ذلك الحين، عبد الفتاح السيسي، هو جنرال سابق كان جُزءًا من المؤسسات العسكرية منذ أن كان في السادسة عشرة من عمره ويحتفظُ بثقته العميقة في المؤسسة العسكرية. إنَّ أكثر من نصف محافظي المحافظات المصرية هم من الجنرالات المتقاعدين، وقد جنّدَ السيسي ضباطًا كبارًا لرئاسة عددٍ كبير من المبادرات الاقتصادية الحكومية وشبه الحكومية. وللجيش أيضًا يدٌ مباشرة في الاقتصاد من خلال مؤسّساتٍ مثل وزارة الإنتاج الحربي، وهيئة الهندسة التابعة للقوات المسلحة المصرية، والهيئة العربية للتصنيع (وهي شركة مُصَنِّعة للأسلحة في الأساس).

في مصر، دفعت السيطرة العسكرية في البداية إلى إعادة توجيه السياسة الخارجية، حيث تبنّى الرئيس جمال عبد الناصر مُعاداة الاستعمار، وعدم الانحياز في الحرب الباردة، ودعم الحركات الثورية في أماكن مثل اليمن والجزائر. لكن في نهاية المطاف، عمل ترسيخ الجيش المصري كقوة استقرار في السياسة الخارجية. في سبعينيات القرن العشرين، في عهد الرئيس أنور السادات، الضابط السابق، أصبحت مصر قوة قائمة بذاتها في الشرق الأوسط، ويرجع هذا جُزئيًا إلى أنَّ المصالح الاقتصادية للقيادة العسكرية أصبحت مرتبطة ارتباطًا عميقًا بالاستثمار الغربي. ووقّعَ السادات معاهدة سلام مع إسرائيل وبحث باستمرار عن طرقٍ أخرى لجذب مئات المليارات من الدولارات من المساعدات والاستثمارات إلى مصر. في الوقت نفسه، حافظ الجيش على مكانته المتميِّزة في الاقتصاد واستفاد بشكل كبير. وقد حافظ خلفاء السادات، أوّلًا حسني مبارك (الجنرال السابق) ثم السيسي، على هذه السياسة.

لكن كما هي الحال اليوم، فإنَّ ترسيخَ الحرس الثوري الإيراني في إيران سوف يلعبُ دورًا مُختلفًا تمامًا. في حين أنَّ وجودَ النخبة “البريتورية” قد خفف بمرور الوقت من موقف مصر الدولي، فإنَّ ذلك في إيران سيكون له تأثيرٌ مُعاكِس. لم تخضع مصر قط لعقوباتٍ صارمة، ولم يعتمد نموذج الأعمال العسكري المصري قط على عزلة مصر عن الاقتصاد العالمي. وعلى النقيض من ذلك، يستفيد الحرس الثوري الإيراني من عائدات تحطيم العقوبات، ويأتي الكثير من الاستثمارات التي يتلقاها من الصين، التي لديها مصلحة في دعم عزلة إيران عن الغرب. بالإضافة إلى ذلك، توفر شبكة إيران من الوكلاء الإقليميين للبلاد عمقًا استراتيجيًا، وإعادة التوجيه الاستراتيجي بعيدًا من الصين وغيرها من القوى المناهضة للغرب مثل روسيا وكوريا الشمالية من شأنه أن يترك إيران معزولة ومكشوفة.

براغماتية فوق الضغط

الواقع أنَّ الجمهورَ الغربي غالبًا ما ركّزَ انتباهه على العوامل الخاطئة في السياسة الإيرانية. فهو يُركّزُ غضبه على كوادر رجال الدين المُلتَحين في إيران، ويُعلّقُ آماله على الرؤساء ذوي العقلية الإصلاحية. لكنَّ مركزَ الثقلِ الحقيقي في إيران لا يُرى: الحرس الثوري الإسلامي الصاعد بهدوء. وبوسع بزشكيان أن يُحقّقَ بعض الانتصارات الداخلية الصغيرة ضد المعارضين المحافظين، ولكن من الخطَإِ أن نَخلُطَ بين أيِّ معركةٍ ينتصرُ فيها ضد سيطرة رجال الدين على المجتمع وبين صراعٍ أساسي على السلطة أو تحوّلٍ في موقف إيران الدولي. ذلك أن القوة الحقيقية تكمن على نحوٍ متزايد في أيدي الحرس الثوري، ومصالحه ونموذج أعماله يتعارضان مع التكيُّف مع العالم الخارجي. وعلى هذا فإن القوى الغربية التي تأمل في تشجيع تَحَوُّلٍ أعمق لا ينبغي لها أن تضع ثقتها في بزشكيان وحده؛ بل يتعيّنُ عليها بدلًا من ذلك أن تجدَ السُبُلَ لتشكيل مصالح الحرس الثوري.

إنَّ أحدَ المسارات هو مُضاعفة الجهود في مسارٍ واحدٍ لتصعيدِ العقوبات الدولية وتصنيفِ الحرس كمنظمة إرهابية، على أمل التعجيل بانهيار النظام. وهذا هو المسار الذي يحظى بأقل قدر من المقاومة في واشنطن، ويرجع هذا جُزئيًا إلى أن الكثير مما تفعله إيران لا يمكن الدفاع عنه. ولكن من المهم أن نلاحظ أمرين. أوّلًا، نادرًا ما أسقطت العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة نظامًا، مهما كان بغيضًا ــ سواء كان فيدل كاسترو في كوبا أو معمر القذافي في ليبيا أو بشار الأسد في سوريا. فالأنظمة تتكيّفُ معها بمرور الوقت، ومثل الحرس الثوري الإيراني، تتعلم استخدام المواجهة لخدمة احتياجاتها السياسية والاقتصادية. وعلى الأقل في الأمد القريب، سوف تستمر العقوبات الأشد في تمكين الحرس الثوري بدلًا من إضعافه. ثانيًا، مسار المواجهة غير المشروطة الذي يدفع الحرس الثوري إلى الردِّ بالسلوك نفسه الذي تجده الولايات المتحدة الأكثر إثارة للاعتراض، وهو خنق الاقتصاد المحلي على حساب الشعب الإيراني وتعزيز “محور المقاومة” لإظهار أنه لن يخضع للضغوط الأميركية.

إن النظام الإيراني ربما يكون في آخر أيامه، وقد يحلُّ محلّهُ نظامٌ أكثر مُلاءمة لمصالح الولايات المتحدة. وإذا كان الأمر كذلك، فيتعيّن على واشنطن أن تُرحّبَ بمثل هذا النظام مع إدراكها أن بصمات الولايات المتحدة على تغيير النظام من المرجح أن تؤدي إلى نزع الشرعية عن حكّام إيران الجدد بدلًا من مساعدتهم ــ وخصوصًا في ضوء الصدى الطويل للجهود الأميركية لتغيير النظام في إيران في العام 1953. بدلًا من ذلك، فإنَّ السياسة الأفضل لا بدَّ أن تجمع بين الضغط والاستمالة والمشاركة، بهدف تشكيل الخيارات والنتائج الإيرانية الداخلية. ولا ينبغي لوسطاء القوة في إيران أن يعرفوا فقط أنَّ سلوكهم الخبيث سوف يستفز استجابة أميركية عقابية؛ بل لا بدَّ وأن يعرفوا أيضًا أنَّ الولايات المتحدة سوف تلاحظ وتستجيب إذا توقفوا عن مثل هذا السلوك الخبيث. على سبيل المثال، إذا قللت طهران من دعمها لوكلائها أو نأت بنفسها عن روسيا، فقد ترد واشنطن بتقليل فرضها للعقوبات.

من المُمكِن أن نتخيّلَ الحرس الثوري، مثل الجيش المصري، يصبحُ مُدينًا للوضع الراهن بدلًا من الاضطرابات الإقليمية. غالبًا ما يفترضُ الأجانب أنَّ حكامَ إيران المُعادين لا بدَّ وأن يكونوا غير عقلانيين، لكن السجل يشير إلى خلاف ذلك. إنَّ التقييمَ الواضح لما يخشاه قادة الحرس الثوري الإسلامي حقًا وما هُم على استعداد للتعايش معه يمكن أن يسلّط الضوء على المسارات المؤدّية إلى الحَدِّ من التوترات. قد يساعد بزشكيان على تسهيل وإقامة علاقات أفضل، أو قد يثبت أنه غير ذي صلة. وفي كلتا الحالتين، يجب أن يسعى نهج الولايات المتحدة إلى المساءلة والاتساق والسماح بإمكانية التكيُّف العملي الذي سعت إليه مع مصر. ومن المرجح أن يخدم مثل هذا النهج المصالح الأميركية في المدى الطويل. إنَّ المسارَ البديل للضغط لن يؤدي إلّا إلى تعزيز قبضة الحرس الثوري الإسلامي على البلاد ودفعه إلى مضاعفة المواجهة.

  • جون ألترمان هو نائب الرئيس الأول ومدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.
  • سانام فاكيل هي مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز الأبحاث البريطاني “تشاتام هاوس”.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى