ميليشيات طهران: ما الذي يستطيع بزشكيان أن يَفعَلَهُ؟
محمّد قوّاص*
على الرُغمِ من مواقف سابقة للرئيسين الإيرانيين الأسبقَين، محمد خاتمي وحسن روحاني، ولوزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف، بشأن محدودية هامش المناورة لدى رئيس الجمهورية في إيران وضمور صلاحيات حكومته مُقارنةً بصلاحياتِ المرشد الأعلى علي خامنئي ونفوذ الحرس الثوري، فإنهم، مع ذلك، دعموا المرشّح “الإصلاحي” مسعود بزشكيان في سعيه لتبوُّءِ منصب رئيس الجمهورية.
فإذا كان المنصبُ محدودَ الحركة والحكومة تخضعُ لمزاجياتٍ عُليا، فحريٌّ السؤالُ بشأنِ همّةِ هؤلاء في دَعمِ بزشكيان والعملِ على إنجاح سعيه. منطقُ هذا السياق يقودُ إلى استنتاجِ حاجةِ النظام السياسي إلى موقعِ الرئيس وحكومته وهامشهما. لكنه يقودُ أيضًا إلى التسليمِ بحقيقةِ أنَّ لا رئيسَ أو حكومةَ في إيران يُبصران النور من دونِ ضوءٍ أخضر، يتراوحُ بين القبولِ وعدمِ المُمانعة، يُسَلِّطهُ المرشد الأعلى. وفي الحالَين، فإنه، وفقَ دستورِ الجمهورية، تجوزُ للمُرشد الأعلى وصايةٌ لا تجوزُ لرئيس الجمهورية وحكومته.
يتقدّمُ بزشكيان رئيسًا بصفتهِ مُعتدلًا أو إصلاحيًا يشبهُ بتفاوتٍ أكبر هاشمي رفسنجاني، أو وروحاني وخاتمي، مثلًا، ولا يُشبهُ إبراهيم رئيسي ومحمود أحمدي نجاد مثلًا آخر. لكنه في مسارات الجمهورية الإسلامية لا يُقارَنُ بمكانةِ رفسنجاني وروحاني ولا بالحالة الاستثنائية التي مثّلها محمد خاتمي في مشهد الإصلاح ونصوصه. كما إنَّ الرئيسَ الجديدَ بدا مُهادِنًا مُسايِرًا يُبالِغُ في تأكيدِ ولائه للمُرشد الأعلى بمناسبةٍ وبدونها، وكأنهُ يتبرّأُ من “إثم”. ثمَّ في إعلانه دعم محور المقاومة وفي نشره نصًّا بشأنِ السياسة الخارجية لإدارته بدا باهتًا مُقارنةً بما تمّ التعويل عليه في خطابه الانتخابي قبل ذلك.
وفقًا لذلك الواقع لم يتعامل العالم، بما في ذلك العالم العربي، مع الانتخابات الرئاسية بصفتها لحظة يُبنى عليها. وكان لافتًا الفتور الذي قابلت به العواصم، وخصوصاً العربية، الحدث واعتباره محلّيًا إيرانيًا يكفي بشأنهِ إرسال برقيات التهنئة الرسمية للفائز.
ولئن أفرطت منابر طهران وتوابعها في المنطقة في شَرحِ ما يُمثّلهُ المُرشدُ الأعلى في دستور الجمهورية الإسلامية، فإنَّ المنابرَ القريبة من خامنئي سعت، في المقابل، للتأكيد، على شكلِ تسريباتٍ ركيكة، بأنَّ بزشكيان هو خيارُ المرشد الأعلى ووضع اسمه في صندوق الاقتراع في يوم الانتخابات. مع ذلك، فإنَّ العواصم البعيدة والقريبة لم تكن بحاجة إلى ذلك التلميح لتفهم أنَّ أيَّ تحوّلٍ مُحتَمَلٍ في سياساتِ طهران الخارجية المقبلة مصدرها المرشد الأعلى وهو دافع وكابح لها.
وسواء تعلّق الأمر بالانفتاح أو الانغلاق في هذا الملف أو على ذلك الطرف، فإنَّ الأمرَ لم يتمّ يومًا إلّا بناءً على سياساتٍ عُليا يتقيّدُ بها الرئيس وتُنفّذها الحكومة. يسري الأمرُ على قرارِ المفاوضات التي أنتجت اتفاق فيينا النووي لعام 2015، وتحوّلات العلاقات الإيرانية مع السعودية والإمارات ومنطقة الخليج عامة، كما هذا الحوار الدائر حاليًا مع مصر. هو توجّهٌ أعلى لا يطلقه بالضرورة وجهٌ إصلاحي في الرئاسة. أُبرِمَ اتفاق بكين بين السعودية وإيران في 10 آذار (مارس) 2023 في عهد الرئيس الإيراني “المتشدّد” إبراهيم رئيسي. وتحقّقت أجواء الانفتاح على الجوار في عهد وزير الخارجية القريب من الحرس الثوري، حسين أمير عبد اللهيان، ولم يُنجَز منها شيء في عهد سلفه “المنفتح المعتدل” محمد جواد ظريف.
لم يُفاجِئنا بزشكيان بأيِّ وَعدٍ أو مقاربةٍ أو حتى فكرةٍ واحدة تختلفُ عمّا هو معمولٌ به ومُنتَهَجٌ في سياسة إيران الخارجية. وحتى حين صدّع رؤوسنا بالحديث عن الاتفاق مع الغرب والانفتاح عليه، فإنه في مقاله في “طهران تايمز” في 12 تموز (يوليو) الجاري بشأن سياسة إدارته الخارجية، أسهب في تمسّكه بالحلف مع روسيا والصين والجنوب، لكي يُبرّرَ (أو يُمرّرَ) خيارَ الغرب مُتعاملًا معه كاحتمالٍ عرضي مشروط. ولئن وضع العلاقة مع الجوار، العربي والتركي، في أولوياتِ تلك السياسة، لكن تلك الأولوية بدت شكليّة تخضع للأمر الواقع الإيراني في المنطقة الذي لا يوحي بإمكانيةِ النقاش به. حتى أن دعوته إلى “إنشاء منطقة قوية بدلًا من منطقةٍ تسعى فيها دولة واحدة إلى الهيمنة” أثارت سخرية وأسئلة مُتَهكّمة حول هوية تلك الدولة “الغامضة” التي تسعى إلى ذلك.
والأرجح أنَّ “الدولة العميقة” في إيران، بمُرشدها ومُحافظيها وحرسها، تُقدّمُ لنا وجهًا مُعتدلًا مُتحدّرًا من مهنة الطب والجراحة مُترجّلاً من إداراتِ الدولة ومؤسّساتها كي تقدمه للإيرانيين والعالم وجهًا “بشوشًا” يُمثّلُ إيران. لكن بزشكيان، الذي حاجج منافسيه في مناظراتٍ علنية، لم يأتِ (مثلهم) على أيِّ نقاشٍ يمسّ التّمدّدَ الميليشياوي الإيراني في المنطقة لا سيما في “العواصم الأربع”. وفيما كانت هتافات المتظاهرين الإيرانيين في السنوات الأخيرة تصدح بشعار “لا غزّة ولا لبنان روحي فداء لإيران”، فإنَّ بزشكيان لم يُقارِب هذا “المقدس” ولا اعتبره من وُرَشِ إصلاحاته.
غير أنَّ هذه السياقات لا تعني أنَّ إيران ليست ذاهبة إلى انفتاح، لا بل إنَّ طهران تحتاجُ إلى إظهار تلك المرونة، وهي ما برحت، حتى قبل أن يتسلّمَ بزشكيان منصبه، تُرَدّدُ الاستعداد للعودة إلى مفاوضات البرنامج النووي. غير أنَّ قرارًا كهذا، وإن كانَ لا يحتاج بالضرورة إلى رئيسٍ إصلاحي، فإنَّ مبرّراته تحتاجُ إلى رافعاتٍ يُمثّلها ذلك الرئيس وحكومته استعدادًا للتعامل المحتمل مع الثنائي الجمهوري ترامب- فانس في واشنطن. في المقابل، المقدّمات الإصلاحية للرئيس بزشكيان ليست بالضرورة سدّاً أمام التشدُّدِ وصدًّا له، لا بل إنَّ أوراقَ التشدُّدِ ستكون من عدّة الشغل والوجه الآخر لـ”صيت” الانفتاح يُخرجها الرئيس لاتقاء معاندة الداخل وابتزاز مقاربات الخارج.
وإذا أظهرت إيران تحوّلاتٍ وانفتاحًا في علاقاتها مع دول الجوار على النحو الذي أعاد علاقات طهران مع دول الخليج قبل انتخاب بزشكيان وظهور حكومته، فإنَّ لا شيءَ يستطيعُ أن يضيفه الرئيس الجديد ولا أحد في عواصم الجوار ينتظر ذلك. والأرجح أنَّ للرجل مهمّاتٍ داخلية عاجلة لانتشالِ اقتصادٍ مأزوم لا يمكن نجاحها إلّا، بحسب وصفاته، بالانفتاح غربًا ثم غربًا ثم غربًا. أما ملف الجوار وميليشياته فهي ليست على أجندة الإصلاح وأولوياته.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).