يَسارُ فرنسا: مأزقُ انتصارٍ غَيرِ مَحسُوب
محمّد قوّاص*
صُعِقَ حزبُ “التجمُّعِ الوطني” اليميني المُتَطرِّف بهزيمةٍ لم تَكُن مُتَوَقَّعة في الدورة الثانية للانتخابات التشريعية الفرنسية التي جرت في 7 تموز (يوليو) الجاري. لا يزالُ الحزبُ يحظى بالمرتبة الأولى في عددِ الأصوات التي نالها (نحو 10 ملايين صوت)، لكنه وتحالفهُ تراجعَا إلى المرتبة الثالثة من حيثُ الكتل البرلمانية. جاءَ تحالفُ اليسار أوّلًا، يليه تحالفَ الوسط الماكروني، ما أعاقَ فوز اليمين المتطرّف وجعله “مُؤجَّلًا”، وفق تعبير زعيمة الحزب الشهيرة، مارين لوبَان.
لم تَلتَقِط استطلاعاتُ الرأي هذا الاحتمال، وفَشِلَت في استباقِ مزاجِ صناديق الاقتراع. حتى التحالف اليميني المتطرّف الطموح، وذلك التحالف اليساري المُرتَجَل على عجل، لم يستشرِفا تلك الخسارة أو ذلك النصر.
قبل صدورِ النتائجِ بساعات، كان جوردان بارديلا، رئيس “التجمّع الوطني” ومُرشَّحهُ لرئاسة الحكومة، يُخبِرُ الصحافة بزهوٍّ وغرورٍ أنَّ تشكيلةَ الحكومة في رأسه وخطّة الحكم جاهزة وأنها على مرحلتين: الأولى بحكومةٍ يرأسها، والثانية حين تتبوَّأ لوبَان رئاسة البلاد في انتخابات العام 2027. كلُّ شيءٍ كانَ مُعَدًّا لهذا العرس، حتى أنَّ الحكومة استنفرت 30 ألف رجل أمن لمواجهة ما قد يُفجِّرهُ ذلك النصر في شوارع البلد. لكنَّ النصرَ لم يحصل.
في المقابل، فإنَّ صاعقةً أقوى من نوعٍ آخر أذهلت صفوفَ تحالُفِ اليسار. فالتحالفُ تمّ تدبيره بعد يومين من إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 9 حزيران (يونيو) عن حلِّ البرلمان وتنظيم انتخابات بعد 3 أسابيع، في آخر الشهر. تمكّنَ الحزبان الاشتراكي والشيوعي وحزب الخضر وحزب “فرنسا الأبية” ومُكوّنات أخرى، من تشكيل تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة”، تَيَمُّنًا بجبهةٍ قديمة في تاريخ البلاد. كانت تلك “الجبهة الشعبية” قد تشكّلت من يساريي البلد في العام 1935 لخوضِ انتخاباتِ العام التالي. ولئن رفعَ قادة التحالف “الجديد” أثناء الحملة الانتخابية لواء النصر المقبل، لكن ذلك كان من “لوازم الشغل” من دون أيِّ امتلاكٍ لمُعطَياتٍ تُفيدُ بقدرتهم على الانقلاب على التوقّعات والاستطلاعات، وطرد اليمين المتطرّف من المرتبة الأولى في البلاد.
حصلت المفاجأة، ونالَ تحالفُ اليسار 182 مقعدًا فحلَّ في المرتبة الأولى. ومن حقِّ التحالفِ المُتصدِّرِ باقي التحالفات منطقيًا أن يُطالبَ بتكليفِ شخصيةٍ من صفوفه لتشكيل الحكومة الجديدة. وفيما لا يزال التحالف، بتعدّدِ مكوّناته، يصرّ على هذا الحقّ من أجل تنفيذ برنامجه الانتخابي، فإنَّ منافسيه لا يرون في هذا الحقّ حقًّا، ذلك أنَّ الغالبية التي حصل عليها تحالف اليسار نسبية صغيرة بعيدة من تلك المطلقة (289 مقعدًا) التي تُمَكّنه من حُكمِ البلاد وحيدًا. ووفقَ ما هو طموحٌ حالمٌ وأمرٌ واقعٌ رادع، يدخل يسار فرنسا في جدل، أقساه في داخل صفوفه، لإيجادِ مخرجٍ للمأزق.
يتغنّى خصومُ تحالف اليسار بسادية خبيثة في التسليم له بامتلاكه 182 مقعدًا. لكنهم يُذَكّرونهُ بأنَّ باقي المقاعد، أي 395 مقعدًا (من إجمالي مقاعد الجمعية الوطنية الـ 577)، هي لليمين. يضعون في سلّة الحساب هذه مقاعد الوسط الماكروني واليمين الديغولي واليمين المتطرّف الذي تتزعمه لوبان. وهم في عملية العدّ هذه “يبشّرون” اليسار بعدم أحقّيتهِ في احتكارِ حكومة، ويَعِدون بإسقاط محاولته في البرلمان. وفي ثنايا ذلك المشهد، يوحون بتحالُفٍ من الوسط يستثني المتطرّفين، يمينًا ويسارًا، ويبقي عمليًا ماكرون في قلب اللعبة السياسية.
وإذا كانَ من السهلِ التصويبُ على يمينٍ مُتطرّفٍ يمثّله حزب بارديلا-لوبان، فإنهم يُطلِقون السهامَ على ما يعتبرونه يسارًا مُتطرِّفًا يمثّله حزب “فرنسا الأبيّة” بزعامة اليساري الراديكالي جان لوك ميلانشون. فإضافةً إلى سقوفِ ذلك الحزب العالية في يساريتها، برزَ في الأشهرِ التي تلت “طوفان الأقصى” من خلال التغريد خارج السرب البرلماني في إدانةِ إسرائيل والتضامن مع غزّة ورفض نعت حركة “حماس” بالإرهاب. سَهُلَ وَسمُ هذا الموقف بمُعاداة السامية، ما جعلَ الحزب حالة “شاذة” لا يقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التعامل معه، ولا باقي أحزاب اليمين والوسط.
ومسألةُ مُعاداة السامية تهمةٌ سياسية طالما أنَّ القانون الذي يُجَرِّمُ الأمرُ لم يُدِنْ الحزب ولا قادته. سبقَ للقضاء في المقابل أن أدانَ زعيم اليمين المتطرّف التاريخي، جان ماري لوبان، بتلك التهمة في العام 1987، حين اعتبرَ الأخير أنَّ غُرَفَ الغاز التي استُخدِمَت لإبادة اليهود في الحرب العالمية الثانية “نقطة تفصيلية في التاريخ”. مع ذلك، تكرّر اتهام ميلانشون وحزبه بمعاداة السامية إلى درجةِ اعتبارِ الأمرِ مُسَلّمة لا جدالَ فيها. وأحرجَ أمرُ هذا الاتهام مكوّنات اليسار نفسها التي ارتأت، مع ذلك، تجاوز الأمر وتشكيل تحالف مع حزب ميلانشون لصدّ اليمين المتطرّف عن حكم البلاد.
وسط هذا المشهد، يعيشُ يسارُ فرنسا صراعَ الخيارات. فالتحالفُ حتى إشعارٍ آخر مُتَمسّكٌ بوحدته وبخطابه وبالمطالبة بالحقّ في قطف ثمار الفوز. سبقَ لميلانشون أن لمّح إلى استعداده لرئاسة الحكومة، غير أنَّ الرجلَ يفتقدُ إلى الإجماعِ حتى في صفوف التحالف نفسه، ما يجعله خارج هذا الاحتمال. في المقابل، عرضَ أوليفييه فور، زعيم الحزب الاشتراكي، قبل أيام خدماته لشغل هذا المنصب. وفيما قد يتوصّل التحالف إلى الاتفاق على شخصية تمثّله لتشكيل الحكومة، غير أنَّ حقائقَ الأرقام والحصص قد لا تجعله قادرًا على إطلاقِ حكومةٍ يسارية المُكوّنات.
ولئن لا يزالُ قادةٌ في تحالفِ اليسار يرفضون أيَّ ائتلافٍ مع “الماكرونية” واليمين المعتدل، فإنَّ الدعوات إلى تشكيلِ ائتلافٍ وسط يكون “بعض” تحالف اليسار داخله، يهدّد وحدة التحالف وديمومة وجوده. في المقابل، إنَّ الاستغناءَ عن الحُكمِ لصالح تحالف يميني وسطي يعني، بحسبِ أوساط اليسار، “خيانة” لتصويت الناخبين. وفي حين استطاعت “الجبهة الشعبية” في انتخابات العام 1936 الفوزَ بغالبيةٍ مَكّنتها من تشكيل 4 حكومات حتى العام 1938، فإنَّ الجبهةَ “الجديدة” تواجهُ حقائق انتخابات 2024 التي تفرضُ على التحالف رشاقةً ومرونةً ماكيافيلية، أو التمترسَ خلف أسوارِ المُستحيل.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).