طموحاتُ إيران البحريّة الجَديدة
مع صعودِ القوّةِ البحرية العسكرية لإيران، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها الاستعداد. لقد تمَّ تصميمُ استراتيجية إيران لتكون ذكية، مما يسمح لها برفع مخاطر الصراع الإقليمي وتهديد المصالح الأميركية في العديد من الأماكن في وقتٍ واحد.

حميد رضا عزيزي*
منذُ بدايةِ الحرب على قطاع غزة في تشرين الأول (أكتوبر)، أصبحَ البحرُ الأحمر ساحةَ معركةٍ ثانية. أَطلَقَ الحوثيون، وهم جماعة مُسَلّحة يمنية تدعمها إيران، صواريخَ وأرسلوا طائراتٍ مُسَيَّرة مُسَلّحة لضربِ السفن التجارية التي تمرُّ عبر الطريق البحري. وقد أغرقوا سفينتين وألحقوا أضرارًا بالعشرات الأخرى. ومن خلالِ تعطيلِ الطريق الذي يمرُّ عبره ما لا يقل عن 12% من إجمالي التجارة الدولية في عامٍ عادي، تسبّبت هجمات الحوثيين في ارتفاعِ تكاليفِ الشحن بشكلٍ كبير وقَلبِ النظامِ التجاري رأسًا على عقب. وقد تعهّدت المجموعة بمواصلةِ استهدافِ السفن التجارية حتى تُنهي إسرائيل عملياتها العسكرية في غزة، مُعتقدةً أنَّ الفوضى التي تُسبِّبها ستزيدُ الضغوط الدولية على الحكومة الإسرائيلية لإنهاء الحرب.
ربما يقودُ الحوثيون هذا الهجوم، لكنهم لا يتصرّفون بمفردهم. الجماعةُ جُزءٌ من “محور المقاومة” الإيراني، وهو عبارة عن شبكة من الشركاء والوكلاء في معظمهم من غير الدول الذين تحشدهم طهران لخدمة أهدافها الإقليمية. وقد قدمت إيران الأسلحة والمعلومات الاستخبارية لدعم حملة الحوثيين في البحر الأحمر، كما أيد قادة البلاد الهجمات على السفن التجارية.
بالنسبة إلى إيران، فإنَّ مساعدةَ الحوثيين في هجماتهم هي مجرّد جُزءٍ واحد من تحوُّلٍ استراتيجيٍّ أوسع – وهو تحوُّلٌ يعتمدُ بشكلٍ متزايد على القدرات البحرية لإبقاءِ أعداءِ إيران في موقفٍ دفاعي. حتى ما يقرب من أربع سنوات مضت، كانت أنشطة إيران في البحر تقتصرُ إلى حدٍّ كبير على مئاتٍ عدة من الزوارق السريعة الصغيرة التابعة للحرس الثوري الإسلامي التي تقومُ بدورياتٍ في الخليج العربي والتهديدات الدورية بإغلاق مضيق هرمز، وهو ممرٌّ حاسمٌ لشحنات النفط العالمية. لكن في الآونة الأخيرة، حصلت القوات البحرية الإيرانية على سفنٍ أكثر تقدُّمًا، بما في ذلك غواصات جديدة وسفن حربية مُسَلَّحة بالصواريخ، وبدأت تُغامِرُ بالوصول إلى المحيطَين الأطلسي والهادئ. وتتماشى هذه التغييرات مع عقيدة “الدفاع الأمامي” الإيرانية، التي تمَّ تبنّيها بعد الحرب الإيرانية-العراقية في العام 1988 وتمَّ تعزُيزها في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتي تهدفُ إلى إشراكِ وإشغالِ الخصوم بعيدًا من حدودِ إيران قبل أن يتمكّنوا من تشكيلِ تهديدٍ للوطن.
أصبحت البحرية الإيرانية المُجَدَّدة الآن في قلب استراتيجية طهران العسكرية. إنَّ الأدواتَ التي طالما كانت أساسية للدفاع الأمامي لإيران على الأرض –الصواريخ والطائرات المُسَيَّرة والميليشيات العميلة– يتمُّ نشرُها اليوم في البحر. ومن أجل تعزيزِ قوّتها بشكلٍ أكبر، أقامت طهران شراكاتٍ بحرية مع الصين وروسيا. ومن خلالِ تعزيزِ وجودها البحري، لا تهدفُ إيران فقط إلى رَدعِ الهجمات التي تشنّها الجهات الأجنبية التي قد ترغبُ في إلحاق الضرر بها، بل تهدفُ إلى القيام بذلك من أجلِ تهديدِ هؤلاء الخصوم بشكلٍ مباشر – وفي المقام الأول الولايات المتحدة.
التهديدُ البحري الإيراني يتطلّبُ الرد. يجب على واشنطن أن تُقَلِّلَ من ضعف نظام الشحن الدولي من خلالِ تطويرِ طُرُقٍ تجارية بديلة، ويمكنها تقليل رغبة طهران في تعطيل العبور البحري في المقام الأول من خلالِ السماح لإيران بالاندماج في نظامِ التجارة العالمي بطرُقٍ محدودة. بالإضافة إلى ذلك، بينما يعمل شركاء الولايات المتحدة في الخليج على تحسين علاقاتهم مع إيران، يجب على واشنطن تشجيعهم على ممارسة نفوذهم لكَبحِ جماح استفزازات البلاد. وعلى الجبهة العسكرية، يجب على الولايات المتحدة أن تعملَ بشكلٍ وثيقٍ مع حلفائها لمواجهة القوة البحرية الإيرانية واحتوائها.
الدفاعُ الأمامي
أدخلت إيران العديدَ من التغييراتِ الملحوظة أثناء تطوير استراتيجيتها البحرية. أوّلًا، اضطلعت البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني بدورٍ مُهَيمِن. كانت هذه البحرية تتألف تاريخيًا من أسطولٍ من الزوارق السريعة الرشيقة التي قامت بمُضايقة السفن الأميركية في الخليج العربي ومضيق هرمز. في الوقت نفسه، قامت القوات البحرية التقليدية الإيرانية بسُفنٍ أكبر بدورياتٍ، ونفّذت عملياتٍ لمُكافحةِ القرصنة، وجمعت معلوماتٍ استخباراتية في المياه البعيدة – وهي مهام دفاعية في الأساس. ومع ذلك، اختفى التفاوت في قدرات البحريتَين فعليًا في كانون الثاني (يناير) الفائت، عندما تلقت البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني سفينتين حربيتين متطورتَين جديدتين. ومن المتوقع أن تحصل على المزيد في السنوات المقبلة. ستسمح السفن الجديدة لبحرية الحرس الثوري الإيراني إجراءَ عملياتٍ خارج الخليج العربي وخارج نطاق مهمة القوات البحرية التقليدية. في العام 2020، كلف المرشد الأعلى علي خامنئي الحرس الثوري الإيراني على وجه التحديد بتوسيع قدرة إيران على الوصول إلى الخصوم في المياه البعيدة، بما يتماشى مع استراتيجية تُعرَف باسم “اليد الطويلة”.
تُشَكّلُ القدرة التكنولوجية للقوات الجديدة تغييرًا بارزًا آخر. تعمل إيران على تطوير برنامجها الصاروخي منذ عقود، لكنها الآن تعملُ بشكلٍ متزايد على تسليح أسطولها البحري بأحدثِ التقنيات. تمَّ تجهيزُ السفن الحربية التابعة للبحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني بأنظمةٍ صاروخيةٍ مُتَقدِّمة يصلُ مداها إلى 430 ميلًا. في السابق، كانَ بإمكان الصواريخ الأرضية الإيرانية الوصول إلى أهدافٍ على بُعدِ 1200 ميل فقط من الأراضي الإيرانية. لكن قدرة الأسطول البحري على الحركة تعملُ على توسيعِ نطاقِ الأهدافِ المُحتَملة بشكلٍ كبير.
على مدى الأشهر القليلة الماضية، قامت إيران بمهامٍ بحرية لمساعدة أعضاء “محور المقاومة” بوتيرةٍ مُتزايدة. وفقًا لتقرير نشرته صحيفة “التلغراف” البريطانية، أرسل فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني أسلحةً إلى “حزب الله” في لبنان من طريق تخزينها على متن سفن الشحن التي تنطلق من مدينة بندر عباس الساحلية الإيرانية حيث تتوقف هذه السفن في ميناء اللاذقية السوري، ويتم فيه تفريغ الأسلحة، قبل مواصلة طرقها التجارية. واستخدمت إيران أيضًا “ناقلات شبحية” –وهي السفن التي تقوم بإيقافِ تشغيل أنظمة التتبع الخاصة بها وتُغَيِّرُ أسماءها وتسجيلها لتجنُّب اكتشافها– لتوصيل النفط إلى سوريا، حيث يحتفظ الرئيس السوري بشار الأسد بتحالفٍ وثيقٍ مع طهران ويُعتَبَرُ حليفًا حاسمًا في “محور المقاومة”. وفي البحر الأحمر، تقوم سفينة التجسس الإيرانية “بهشد” بتقديم الدعم الاستخباراتي والمراقبة لهجمات الحوثيين على الشحن الدولي.
هناكَ عنصرٌ رئيس آخر في الأنشطة البحرية الإيرانية وهو تشديدُ سيطرة البلاد على الممرّات المائية الاستراتيجية. وتتيحُ الجغرافيا الإيرانية لقواتها البحرية الوصول إلى الخليج العربي ومضيق هرمز، الذي يتمُّ من خلاله شحن ما يزيد عن 20% من النفط المستهلك عالميًا. وشراكتها مع الحوثيين تمتد إلى مضيق باب المندب، وهو الممر بين اليمن والقرن الأفريقي عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر. وفي العام 2018، أشار الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى أن إيران تُسيطرُ على باب المندب عندما قال: “لدينا العديد من المضايق نسيطر عليها، ومضيق هرمز هو مجرّد واحدٍ منها”. وبعد مرور خمس سنوات على هجمات الحوثيين على السفن التي تمرُّ عبر هذا الممر المائي، تبدو كلمات روحاني وكأنها تحذير. وقد أفادت وسائل الإعلام التابعة للدولة في إيران أنَّ طهران أرسلت صواريخ باليستية إيرانية الصنع مُضادة للسفن إلى الحوثيين وأن التكنولوجيا الإيرانية ساعدت الحوثيين على ضرب السفن في البحر الأحمر. ومن المُحتَمل أن تكون إيران نقلت تكنولوجيا صاروخية مماثلة إلى “حزب الله”، الذي يُعتَقَدُ أنه يمتلك بالفعل صواريخ روسية الصنع مُضادة للسفن. من خلال الجمع بين المواقع الساحلية والقدرات البحرية لأعضاء “محور المقاومة” مع قدراتها الخاصة، تستطيع إيران إبراز قوتها خارج الخليج العربي إلى البحر الأحمر وشرق البحر الأبيض المتوسط.
تُشَكِّلُ الشراكاتُ مع الصين وروسيا الركيزةَ الأخيرة لاستراتيجية إيران البحرية. منذ العام 2019، أجرت الدول الثلاث أربع مناورات بحرية مشتركة، كان آخرها في خليج عُمان في آذار (مارس) الفائت. وقد أرسلَت هذه العروض إشارةً إلى قدرة الدول الثلاث وعزمها على تحدّي الهيمنة البحرية الغربية في المنطقة. وكجُزءٍ من التعاون العسكري المتنامي بين إيران وروسيا منذ بداية الحرب في أوكرانيا، طلبت إيران أيضًا المساعدة الروسية على تطوير صواريخ بحرية دقيقة أكثر تقدُّمًا طويلة ومتوسطة المدى.
إغراء البحر
إنَّ الاستراتيجيةَ البحرية الإيرانية المُجَدَّدة هي في المقام الأول استجابةٌ للتغيُّرات في البيئة الأمنية للبلاد. فمن ناحية، ترى طهران حاجةً إلى تنويعِ خياراتها للردِّ على الولايات المتحدة. في السابق، كانت القواعد العسكرية الأميركية في دول الخليج بمثابةِ أهدافٍ سهلة؛ وعندما كانت تتصاعد التوترات الديبلوماسية وتُكثّف واشنطن ضغوطها على طهران، كان يمكن أن تُهدّدَ إيران بضرب قاعدة أميركية. لكن على مدى العامين الماضيين، اتخذت إيران خطواتٍ للمُصالحةِ مع جيرانها العرب، وهي الآن أكثر تردُّدًا في تعريض هذه العلاقات للخطر. ونتيجةً لذلك، انخفضت تهديداتُ طهران ضدّ القواعد الأميركية في المنطقة بشكلٍ كبير. وفي مثال واضح على حَذَرِ إيران، قبل هجومها الصاروخي والطائرات المُسَيّرة على نطاق واسع على إسرائيل في نيسان (أبريل)، أبلغت إيران العديد من دول الخليج بخططها لطمأنتها بأنَّ العملية ستقتصرُ على إسرائيل ولن تتوسَّعَ إلى أراضيها.
لتجنُّب احتمالِ إثارةِ غضبِ جيرانها، بدأت إيران تركيزَ تهديداتها على المصالح الأميركية في أماكن أبعد. في شهر أيار (مايو)، على سبيل المثال، أعلن قائد البحرية في الحرس الثوري الإيراني علي رضا تنكسيري أن إحدى السفن الحربية الجديدة المُجَهَّزة بالصواريخ التابعة لقواته أبحرت بالقرب من دييغو غارسيا، وهي جزيرة نائية في المحيط الهندي حيث يتمركز عسكريون أميركيون. وكانت هذه المناورة بمثابةِ رسالةٍ واضحةٍ للولايات المتحدة مفادها أنَّ الأسطولَ البحري الإيراني يوسِّع نطاقَ وصوله.
تهدفُ استراتيجيةُ إيران الجديدة أيضًا إلى محاصرةِ إسرائيل. ويُشَكّلُ وكلاء وعملاء إيران والميليشيات المتحالفة معها في لبنان وسوريا بالفعل تهديدًا عسكريًا على طول حدود إسرائيل، ومن خلال تزويد “حزب الله” والحوثيين بطائرات مُسَيَّرة وصواريخ مُضادة للسفن، تمنح إيران شركاءها الوسائل اللازمة لفَرضِ تكاليف كبيرة على إسرائيل من خلالِ استهدافِ سفنها وموانئها. وفي أيِّ صراعٍ مُحتَمل، يُمكِنُ للجماعات المدعومة من إيران ضرب أهداف إسرائيلية في البر والبحر. وقد تواجهُ الولايات المتحدة أيضًا صعوبةً أكبر في تقديمِ المساعدة والدعم اللوجستي لإسرائيل، لأنَّ سفنها ستكون عُرضةً للهجمات الإيرانية وحلفائها. إنَّ مجرّدَ إنشاءِ هذه القدرات يُعزّزُ نفوذَ إيران على إسرائيل، التي يتعيَّن عليها الآن أن تأخُذَ في الاعتبارِ خطرَ صدِّ الهجمات على جبهاتٍ مُتعددة في تخطيطها الاستراتيجي.
بعضُ دوافعِ طهران دفاعيٌ. تسعى إيران إلى استخدامِ وجودها البحري لرَفعِ تكاليف الصراع على خصومها، سواءَ إسرائيل أو الولايات المتحدة أو أي قوّة مُعادية أخرى. ويُمكنها القيامَ بذلك من خلالِ تعزيزِ قدرتها على عرقلة طرق العبور الدولية، كما فعل الحوثيون خلال الحرب في غزة. ولبناءِ هذه القدرة بشكلٍ أكبر، حاولت إيران، ولو بدون جدوى، إنشاءَ قاعدةٍ بحرية على ساحل البحر الأحمر السوداني مقابل توفير أسلحة متطوّرة للقوات المسلحة السودانية. وإلى جانب نفوذها على الحوثيين، فإنَّ وجودَ قاعدةٍ في السودان من شأنه أن يمنحَ إيران إمكانية الوصول إلى ممرٍّ بحري من اتجاهيَن. ووفقًا لحسابات طهران، إذا تأكّدَ أعداؤها من أنَّ المناوشات الإقليمية من شأنها أن تقلُبَ التجارة العالمية رأسًا على عقب، فلن تكون لديهم الجرأة للمخاطرة بحصول فوضى اقتصادية عالمية من خلال الاشتباك مع القوات الإيرانية أو شنِّ هجومٍ على الأراضي الإيرانية.
وأخيرًا، أصبح العمل بواسطة البحر أكثر جاذبية، حيثُ جعلت المراقبة الإسرائيلية من الصعب على نحوٍ متزايد على إيران تهريب الأسلحة إلى حلفائها من طريق البر والجو. وقد أصبحت الطرق التقليدية –مثل “الجسر البري” الذي يربط إيران بسوريا ولبنان عبر العراق و”الممر الجوي” الذي يربط إيران بسوريا عبر العراق– محفوفةً بالمخاطر حيث تستطيع المخابرات الإسرائيلية تحديد عمليات النقل هذه وتقوم الغارات الجوية الإسرائيلية بتعطيلها. وعلى النقيض من ذلك، يخضع النقل البحري لمراقبة أقل شدّة ويوفِّرُ مرونةً أكبر من حيث تغيير الطرق واستخدام أنواع مختلفة من السفن، مما يسمح لإيران بالحفاظ على تدفُّقٍ مستمرٍّ للأسلحة إلى حلفائها.
خفضُ التهديد
وحتى في الوقت الذي تُعيدُ إيران توجيه استراتيجيتها البحرية، فإنَّ القوة البحرية التقليدية للبلاد لا تزال مُتَخَلّفة كثيرًا عن قوة الولايات المتحدة ومعظم حلفائها. لكن هذا لا يعني أنَّ الأنشطة الإيرانية في البحر لا تُشَكّلُ تهديدًا. ويَكمُنُ الخَطَرُ الحقيقي في قدرة طهران المتزايدة على شنِّ حربٍ غير مُتماثلة في المجالات البحرية، باستخدامِ مزيجٍ من الهجمات الصاروخية والطائرات المُسَيَّرة، والعمليات من خلال الميليشيات بالوكالة، والسيطرة على الممرات المائية الاستراتيجية لاستهداف المصالح الأميركية.
إنَّ علاقات إيران العميقة مع الصين وروسيا تؤدّي إلى تفاقُمِ التهديد. لا تستطيعُ طهران فقط اكتسابَ تقنياتٍ بحرية مُتقدِّمة وخبرة في إدارة حرب بحرية فعّالة من خلال هذه الشراكات، ولكن الأنشطة البحرية لكلِّ دولة، سواء تمَّ تنظيمها بالتنسيق أم لا، يمكن أن تخدُمَ أيضًا هدفها المشترك المتمثل في تحدّي الهيمنة الأميركية في البحر. وكما يتضح من فشلِ الحملة العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة وبريطانيا في وقف هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر، فمن الصعب مكافحة العمليات البحرية غير المُتماثلة، خصوصًا عندما تحدُث في مياهٍ بعيدة. إذا قامت إيران والصين وروسيا بتوجيهِ هجماتٍ بحرية على الأصول البحرية الأميركية والشحن التجاري في الوقت نفسه وعبر مناطق جغرافية متعددة، فيمكنها إرباك القوات البحرية الأميركية.
يجب على الولايات المتحدة أن تتخذَ إجراءاتٍ للتخفيفِ من التهديدِ البحري الإيراني. من خلال تعزيز المبادرات الديبلوماسية لتطوير طُرُقِ عبورٍ دولية بديلة، يُمكِنُ لواشنطن وشركائها تقليل اعتمادهم على الممرّات المُهَدَّدة وغير الآمنة. إحدى هذه المبادرات هي الممر بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا. ينبغي على الولايات المتحدة حشد الجهات الفاعلة المعنية – بما في ذلك الهند وإسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والاتحاد الأوروبي- لتأمين التمويل، وتحديد معالم ملموسة، وتسريع بناء السكك الحديدية والموانئ وغيرها من البنية التحتية الحيوية. ويمكن لواشنطن أيضًا دفع المشروع الاقتصادي إلى الأمام من خلال تشجيع الشركات الأميركية على الاستثمار من خلال الشراكات بين القطاعين العام والخاص. وفي سياقٍ مُماثِل، يمكن للولايات المتحدة أن تُقدِّمَ دعمها لمشروع طريق التنمية، الذي سيربط الخليج العربي بتركيا وأوروبا عبر العراق. ويمكن لواشنطن أن تساعد في هذا المشروع من خلال مساعدة الحكومة العراقية في جهودها لتعزيز الأمن على طول الطريق ومن خلال تعزيز التعاون الوثيق بين بغداد وأنقرة. ويمكن للولايات المتحدة أيضًا أن تساعد العراق على تأمين القروض أو المنح للمشروع من خلال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
علاوةً على ذلك، يمكن لواشنطن أن تُشَجّعَ شركاءها في الخليج على استخدامِ علاقاتهم الدافئة مع طهران للحَدِّ من مخاطر الصراعات البحرية. لقد أعربت كلٌّ من إيران وأعضاء مجلس التعاون الخليجي عن اهتمامهما بالأمن الإقليمي، والخطوة التالية هي وضعُ إطارٍ يتضمّنُ ضماناتٍ بأنَّ جميعَ الأطراف سوف تحترم التجارة الدولية والشحن في الخليج العربي ومضيق هرمز. يمكن أن يكونَ اتفاقُ عدمِ الاعتداء بين إيران وجيرانها هو الخطوة الأولى نحو إطارٍ أمني إقليمي، لأنه من شأنه أن يُعزّزَ الثقة ويُقلّل من فُرَصِ الاشتباكات في البحر. ويتعيَّن على الولايات المتحدة أن تُوَضِّحَ لشركائها أنها تدعمُ مثل هذه المفاوضات.
ويجب على إدارة بايدن أيضًا أن تحاولَ دمجَ إيران في الاقتصاد العالمي، ولو بطُرُقٍ محدودة. لقد أدّت العقوباتُ التي تقودها الولايات المتحدة إلى تقييد التجارة الدولية للبلاد، مما يترك طهران مع أقل ما تخسره من خلال عرقلة طرق العبور. إنَّ رفعَ تكلفة تعطيل التجارة العالمية بالنسبة إلى إيران يمكن أن يساعد على تغيير حساباتها. إحدى الخطوات التي يمكن أن تتخذها واشنطن في هذا الاتجاه هي تجديد الإعفاء من العقوبات الذي من شأنه أن يسمح للهند بالمضي قدمًا في خططها لتطويرِ وإدارة ميناء تشابهار الإيراني.
إلى جانب جهودها الديبلوماسية، ينبغي على الولايات المتحدة أن تحثَّ شركاءها الإقليميين على اتخاذِ تدابير عسكرية لاحتواء التحدي البحري الإيراني. وتتيحُ محادثات التطبيع العربية-الإسرائيلية فرصةً لتأمين مثل هذه الالتزامات. لا شكَّ أنَّ التحالفَ العسكري الرسمي الذي يضم إسرائيل والمملكة العربية السعودية ودول الخليج من شأنه أن يستفزَّ إيران، ولكن من المرجح أن تسفرَ هذه المحادثات عن أشكالٍ أضيق من التعاون، مثل أحكام تبادل المعلومات الاستخباراتية البحرية بشكلٍ مُنتظم والدعم التقني واللوجستي. وستكون هذه الجهود ذات أهمية خاصة إذا فشل التوصل إلى اتفاقٍ أمني بحري إقليمي يشمل طهران. وفي هذا السيناريو، ستسعى دول الخليج إلى إيجادِ طرق أخرى لتقييد قوة إيران في البحر، بما في ذلك التعاون العسكري مع الولايات المتحدة.
والتعاون مع حلفاء واشنطن الأوروبيين لا يقل أهمية. لقد انضمت القوات الأوروبية إلى الحملة ضد الحوثيين في البحر الأحمر، لكن قدرتها على الانتشار السريع ومواصلة العمليات بعيدًا من قواعدها محدودة. ولتجهيز جيوشها للاستجابة بسرعة للتهديدات البحرية غير المتماثلة في المستقبل، يتعيَّن على الحكومات الأوروبية زيادة عدد السفن المنتشرة في أساطيلها وتحسين الدعم اللوجستي.
مع تبلور الدفاع البحري الأمامي لإيران، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها الاستعداد. لقد تمَّ تصميمُ استراتيجية إيران لتكون ذكية، مما يسمح لها برفع مخاطر الصراع الإقليمي وتهديد المصالح الأميركية في العديد من الأماكن في وقتٍ واحد. ستحتاجُ واشنطن إلى الاستفادة من مجموعةٍ كاملةٍ من أدواتها الديبلوماسية والعسكرية من أجل حرمان طهران من الميزة التي تسعى إليها في البحر.
- حميد رضا عزيزي هو زميل زائر في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية وزميل غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون العالمية.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورِين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.