كيفَ يُمكِنُ إنهاءُ حرب إسرائيل على غزّة وحَلّ القضية الفلسطينية
أفضلُ طريقٍ لإنهاءِ حربِ إسرائيل على غزة تكمنُ في إحياء مبادرة السلام العربية التي أُعلنت في بيروت في العام 2002 والتي من شأنها أن تحلَّ الصراعَ وتبني واقعاً فلسطينيًا جديدًا، كما يقول رئيس الوزراء الفلسطيني محمّد أشتية في المقال التالي:

محمّد أشتية*
بَعدَ ثمانيةِ أشهرٍ على الحربِ الوحشيةِ التي شنّتها إسرائيل على قطاعِ غزة، طَفَحَ الكَيلُ لدى الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين والقوى العالمية الرائدة. إلى جانبِ مُواجهةِ مستوى مُرَوِّعٍ من الوفيات بين المدنيين –حتى منتصف حزيران (يونيو)، وجدت الأمم المتحدة أنَّ أكثرَ من 37,000 شخص قُتلوا و78,000 جُرحوا في الحرب– فقد حُرِمَ سكّانُ غزّة من الغذاء والرعاية الصحّية الأساسية، وهم يتعرّضون باستمرارٍ للانتهاكات والاقتلاع من أراضيهم، ويتمُّ هدمُ وتدميرُ المزيد والمزيد من مساكنهم على رؤوسهم. لقد دُمِّرَت جامعات ومدارس القطاع وتحطَّمَ نظامها التعليمي، وتنتشر الأمراض المُعدية بسرعة، كما ترتفع معدلات الوفيات بين الأطفال بشكلٍ كبير. في الواقع لم يَعُد هناكَ مكانٌ آمن.
في محاولةٍ لإنهاء العنف، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن عن خطةٍ لوقفِ إطلاق النار وإطلاقِ سراحِ الرهائن، والتي قال بأنَّ أعضاءَ حكومة الحرب الإسرائيلية قد وضعوها ويجب أن تكونَ مقبولةً لدى كلا الجانبين. في 10 تموز (يونيو)، أيّدَ مجلس الأمن الدولي الخطة بأغلبية 14 صوتًا مقابل صفر مع امتناع روسيا عن التصويت. ولكن على الرُغمِ من هذا الإجماع الدولي النادر، فإنَّ الحربَ ما زالت مستمرّة. أعلنت حركة “حماس” إنها تُرحِّبُ بالخطة من حيثُ المَبدَإِ، وطلبت بعض التوضيحات قبل الموافقة عليها بشكلٍ كامل. والأكثر إثارةً للدهشة بالنسبة إلى العديد من المراقبين هي مقاومة الحكومة الإسرائيلية للخطة، على الرُغمِ من حقيقةِ أنَّ إدارةَ بايدن تصرُّ على أنَّ شروطَها إسرائيلية.
الواقع أنَّ الأسبابَ التي دفعت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى رَفضِ إنهاءِ الحرب واضحة: إذا تَبَنّى وقفَ إطلاقِ النار، فإنَّ ائتلافه اليميني سوف ينهار، وسوف يواجِهُ انتخاباتٍ يكادُ يكونُ من المؤكّدِ أنه سيخسرها. وفي مثل هذه النتيجة، من المرجح أيضًا أن يضطرَّ إلى المثول للمحاكمة بتُهَمِ الفساد. علاوةً، فإنَّ وقفَ إطلاق النار من شأنه أيضًا أن يُجبِرَ نتنياهو على مواجهة ما سيأتي بعد ذلك (اليوم التالي) وفشله في طرحِ خطةٍ قابلةٍ للتطبيق لغزّة ما بعد الحرب وكيفية حُكمها على النحوِ الذي طلبته واشنطن. وهذه مشكلةُ أثارتها حكومته الحربية مرارًا وتكرارًا. والواقع أنَّ عدم رغبة نتنياهو في صياغة مثل هذه الخطة هو الذي أدّى إلى استقالة اثنين من الأعضاء البارزين في حكومته الحربية، في التاسع من حزيران (يونيو)، بيني غانتس وغادي آيزنكوت، وقد قام الآن بحلِّ حكومة الحرب بالكامل.
إنَّ فشلَ الحكومة الإسرائيلية في التفكير بشكلٍ مُتماسِك ومُتَّسِق بشأنِ حلِّ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي يأتي بثمنٍ باهظ – وليس فقط بالنسبة إلى الفلسطينيين. لقد وجدت إسرائيل نفسها فعليًا معزولة على نحوٍ متزايد في مجلس الأمن الدولي، وفي العواصم الغربية، وفي واشنطن. من خلالِ إطالة أمد معاناة الكثيرين من الفلسطينيين، فإنها تُعرِّضُ أيضًا علاقاتها مع الشركاء العرب للخطر. من ناحيةٍ أخرى فإنَّ الحرب، التي امتدّت بالفعل إلى الحدود الشمالية لإسرائيل وإلى البحر الأحمر، تعملُ على زعزعةِ استقرارِ الشرق الأوسط الأوسع.
وهذا أمرٌ مأسوي بشكلٍ خاص لأنَّ الطريقَ إلى السلام ليس صعبًا أو مُعَقَّدًا للفَهم. خلال السنوات الخمس التي قَضَيتُها كرئيسٍ للوزراء، تعلّمتُ أنَّ المطلوبَ هو الشجاعة والثبات، وخصوصًا من المجتمع الدولي. إنَّ السلامَ الدائم، الذي يُشَكِّلُ مجرّدَ خطوةٍ أولى في أيِّ خطةٍ لمرحلة ما بعد الحرب في غزة، يجب أن يُلبّي التطلُّعاتَ الوطنية للشعب الفلسطيني. وأيُّ ترتيباتٍ للحُكمِ يجب أن يتمَّ تصميمها وقيادتها من قبل الفلسطينيين بدلًا من فَرضِها من الخارج. ويجب أن تحظى بدعمٍ قويٍّ من الدول العربية وأن تحصلَ على دعمٍ دولي. ويتعيَّنُ عليها أن توفِّرَ قيادةً فلسطينية مُوَحَّدة وطريقًا إلى إقامة دولة في حين تعملُ على تلبيةِ الاحتياجات الأمنية لكلٍّ من الفلسطينيين والإسرائيليين، وبالتالي إرساء الأساس للسلام والأمن الإقليميين أيضًا. قد يبدو الوفاء بهذه المُتطلبات تحدّيًا هائلًا، ولكنَّ هناكَ بالفعل نموذجًا لكيفية القيام بذلك: مُبادرة السلام العربية، والتي أقرّتها وأكّدت عليها مرارًا وتكرارًا الحكومات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فضلًا عن القوى العالمية الرائدة.
الخطة السعودية الكبرى
رُغمَ أنَّ مُبادرةَ السلام العربية لم تُذكَر إلّا قليلًا في الأشهرِ الأخيرة، فإنها نشأت من أزمةٍ كانت تُشبهُ في كثيرٍ من النواحي الأزمة التي يواجهها الشرق الأوسط اليوم. بحلول أوائل العام 2002، انهارت العملية التي أنشأتها اتفاقات أوسلو في العام 1993، وغرقت المنطقة في الاضطرابات والعنف. كان الردُّ العسكري الإسرائيلي على الانتفاضة الثانية أدّى إلى قتالٍ عنيفٍ في الضفة الغربية، مع سقوطِ أعدادٍ كبيرة من الضحايا بين المدنيين الفلسطينيين، وكانت الولايات المتحدة تُحاولُ، من دون جدوى، تأمينَ وقفِ إطلاق النار. آلافٌ الفلسطينيين قُتِلوا وجُرِحَ نحو 28 ألفًا؛ كما فَقَدَ مئات الإسرائيليين حياتهم. ومن المأسوي أنه بدلًا من السعي إلى المصالحة مع جيرانها الفلسطينيين، بدأت إسرائيل بناءَ جدارٍ عازلٍ في الضفة الغربية، يقع معظمه داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة – وهو الحاجز الذي وجدت محكمة العدل الدولية، في قرارٍ لاحقٍ في العام 2004، أنه يَحرُمُ الفلسطينيين من حقّهم في تقرير المصير وغيره من حقوق الإنسان الأساسية، وينتهك القانون الإنساني الدولي.
لإنهاءِ سَفكِ الدماءِ المُتزايد وحلِّ الأسباب الكامنة وراء الصراع، بشكلٍ نهائي، طَرَحَ ولي العهد السعودي (آنذاك) الأمير عبد الله بن عبد العزيز حلًّا جريئًا. ووفقًا للإطارِ الذي قدّمه إلى قمة جامعة الدول العربية التي انعقدت في بيروت في آذار (مارس) 2002، فإنَّ العالمَ العربي سوف يتَّخِذُ خطوةً غير عادية تتمثّلُ في الاعتراف بإسرائيل ضمن حدود العام 1967 –وهو الاحتمال الذي بدا حتى الآن غير وارد– شريطة أن تُنهي إسرائيل احتلالها للأراضي العربية وتقبل بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة في القدس الشرقية وقطاع غزة والضفة الغربية. وقال ولي العهد في حينه: “فقط في سياقِ سلامٍ حقيقي يمكن للعلاقات الطبيعية أن تزدهرَ بين شعوب المنطقة وتسمح للمنطقة مواصلة التنمية بدلًا من الحرب”.
لتحقيقِ هذه الأهداف، دعت الخطة إسرائيل إلى سحب جيشها إلى الحدود التي كانت قائمة قبل حرب حزيران (يونيو) 1967. كما دعت إلى أن تكونَ القدس الشرقية عاصمةً للدولة الفلسطينية الجديدة وأن يتوصّلَ الجانبان إلى تسويةٍ “مُتَّفَقٍ عليها” لقضية اللاجئين الفلسطينيين على أساس قرار الأمم المتحدة رقم 194. في المقابل، ستسمح الخطة بالاندماج الكامل لإسرائيل في المنطقة والتطبيع مع العالم العربي وإنهاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ولتنفيذ هذه الخطوات وإرساء الأساس لقيام دولة فلسطينية، دعت الخطة إلى إنشاءِ لجنةٍ خاصة من عددٍ قليل من أعضاء جامعة الدول العربية بدعمٍ من الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة والولايات المتحدة.
في خضمِّ هذا الصراع الراسخ، افترضَ البعضُ أنه سيكونُ من الصعبِ الحصولُ على دعمٍ واسع النطاق للإطار السعودي. ومع ذلك، في قمة بيروت، تمت الموافقة على الخطة بالإجماع من قبل جميع أعضاء جامعة الدول العربية الحاضرين، بما في ذلك العديد من الدول التي لم تعترف بإسرائيل قط. وفي العام 2003، تمَّ الاعتراف بالخطة –المعروفة الآن باسم مبادرة السلام العربية- في ما يسمى بخريطة الطريق للسلام التي تم طرحها بشكلٍ مشترك من قبل الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة والولايات المتحدة. وقد أُعِيدَ اعتمادُ مبادرة السلام العربية في قمة جامعة الدول العربية التي استضافتها الرياض في العام 2007، وقد نالت مرارًا وتكرارًا دعم منظّمة التعاون الإسلامي، التي تضم 57 دولة عربية وإسلامية، بما في ذلك إيران. في كانون الأول (ديسمبر) 2017، أكدت منظمة التعاون الإسلامي، في بيانٍ وقّعه الرئيس الإيراني آنذاك حسن روحاني، إلى جانبِ زُعماءٍ آخرين، دعمها لـ”حل الدولتين” الذي كانَ “مُتَّسقًا ومتوافقًا. . . مع مبادرة السلام العربية لعام 2002”. وبالتالي، فقد عرضت احتمال إنهاء الصراع الإسرائيلي حتى مع بعض أشد وأكثر خصومها رسوخًا.
ولسوءِ الحظ، لم تؤدِّ أيٌّ من هذه التأييدات العديدة إلى تحقيقِ وتنفيذِ الخطة. فمن ناحية، لم تنظر الحكومة الإسرائيلية بجدّية إلى مبادرة السلام العربية، ولم تتعرَّض لأيِّ ضغطٍ لقبولها حيث شجّعها في انحرافها وعدم قبولها لمقترحات السلام عدم مشاركة الولايات المتحدة. وفي محاولةٍ للترويج لمبادرة السلام العربية، دعا الرئيس محمود عباس إلى نشرِ النصِّ الكامل للخطة في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، بترجمةٍ عبرية، وكذلك في صحيفة “واشنطن بوست” بترجمةٍ إنكليزية. وعندما ذكر عباس ذلك بفخرٍ للرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، كان ردُّ فعل الرئيس باردًا واقترَحَ على عباس أن يَدّخرَ أمواله وما عنده.
لكن في خضمِّ الكارثة الحالية في غزة ــ-الحرب الأكثر تدميرًا لكلا الجانبين منذ عقود ــ لم يَعُد من المُمكن لمثل هذا التباطؤ أن يقفَ في الطريق. إنَّ مبادرة السلام العربية تُوَفّرُ الأساس الواعد لإنهاءِ الحرب من خلال خطةٍ يمكن أن تحظى بموافقة جميع الأطراف. ولذلك، فمن الأهمية بمكان أن تتبنّى الولايات المتحدة إطارَ مُبادرة السلام العربية وأن تعملَ مع شركاءٍ آخرين لتأمين تنفيذه. ويمكن أن يتمَّ ذلك من خلال مؤتمرٍ دولي بالتعاون مع المملكة العربية السعودية والدول العربية المَعنية. إذا أيّدت واشنطن بقوة مثل هذه الخطة بدعمٍ قوي من الدول العربية الرائدة والحلفاء الدوليين، فسيكونُ من الصعب جدًا على إسرائيل رفضها تمامًا. علاوةً على ذلك، في الوقت الذي تسعى إدارة بايدن بشدّة إلى تحقيقِ انفراجةٍ في التطبيع السعودي-الإسرائيلي، يبحث السعوديون عن نهايةٍ للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، ويتوق الفلسطينيون إلى تقرير المصير، ويسعى الإسرائيليون إلى إعادة استقرار أمنهم مع المنطقة. إنَّ مبادرة السلام العربية هي مُربِحة للجميع.
المزيد من السلطة، المزيد من المُساءلة
ولكي نفهمَ كيفَ قد يتمكّن نهجُ مبادرة السلام العربية من إنهاء الأزمة الحالية، فمن الضروري أن ننظُرَ في الظروفِ اللازمة للحُكمِ الفعّال الذي سيُمكِنه من تنفيذ ذلك. لقد تعرّضت الحكومة الفلسطينية للعراقيل بسبب توسيع المستوطنات الإسرائيلية ومصادرة الأراضي؛ وتقويض قدرتها المالية على الاستمرار؛ والقيود المفروضة على حركة الفلسطينيين ووصولهم إلى مواردهم الطبيعية وأسواقهم؛ والتوغّلات العسكرية اليومية في المدن الفلسطينية ومخيمات اللاجئين؛ وافتقار الفلسطينيين إلى السيادة ومنع الفلسطينيين في القدس الشرقية من التصويت في الانتخابات التشريعية الفلسطينية أو تنظيم الحملات الانتخابية أو الترشُّح للمناصب.
لكن مع الدعمِ الكامل من العالم العربي، فضلًا عن اعتراف إسرائيل بالسيادة الفلسطينية، يُصبحُ بوسعِ السلطة الفلسطينية أن تُديرَ شؤون الشعب الفلسطيني بطريقةٍ أكثر فعالية بشكلٍ كبير. وستكون لها السيطرة الكاملة وستكون مسؤولة بالكامل أمامَ مجلسٍ تشريعي فلسطيني مُنتَخَب. مدعومًا بالتطبيع بين إسرائيل والمنطقة بأكملها، سيُوَفّرُ إطارُ مبادرة السلام العربية أيضًا ضماناتٍ أمنية لإسرائيل من خلالِ وجودٍ أمني لطرفٍ ثالث لفترةٍ مُحَدّدة. وسيُطلَبُ من منظمة التحرير الفلسطينية بدورها إشراك جميع الفصائل السياسية الفلسطينية لقبول الخطة، بما في ذلك “حماس” و”الجهاد الإسلامي الفلسطيني”.
ومن الأهمّية بمكان أن يتمَّ توحيدُ إدارة ما بعد الحرب في غزة والضفة الغربية. ويجب أن تكونَ هناك حكومةٌ فلسطينية واحدة شاملة مسؤولة عن جميع الأراضي الفلسطينية. ولن تقبلَ السلطة الفلسطينية أن تتولّى المسؤولية عن غزة بناءً على طلب الحكومة الإسرائيلية. لكنها ستفعلُ ذلك كجُزءٍ من اتفاقٍ شاملٍ يدعمه المجتمع الدولي والدول العربية الرئيسة. في مثل هذا السيناريو، ستحتاجُ القيادة الفلسطينية إلى التشاورِ مع جميع أصحاب المصلحة الفلسطينيين، بما في ذلك المنظمات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، لضمانِ قبولِ أيِّ حكومةٍ من هذا القبيل على أوسعِ نطاقٍ مُمكن من الناخبين.
يجب أن تكونَ الأولوية الأولى للخطة هي توفير الأمن وضمان السلام حتى يتمكّن الفلسطينيون والمانحون الدوليون بدء العمل العاجل للإغاثة وإعادة الإعمار في غزة. وأيُّ ترتيبات أمنية جديدة يجب أن يتمَّ تنفيذُها بمساعدة الشركاء العرب والدوليين. خلال فترة ولايتي كرئيسٍ للوزراء، كان هناك اعترافٌ متزايد بأنَّ قطاعَ الأمن الفلسطيني يحتاجُ إلى إصلاحٍ جدّي وإعادة هيكلة. لكن لتنفيذ هذه الإصلاحات، كانت السلطة الفلسطينية بحاجة إلى دعمٍ دولي وعربي قوي، وهو الدعمُ الذي لم يتم تقديمه إلّا بشكلٍ جُزئي. من ناحيةٍ أخرى، يتعيَّنُ على المحكمة الجنائية الدولية، التي منحتها القيادة الفلسطينية الولاية القضائية الكاملة على الجرائم المُرتَكَبة على الأراضي الفلسطينية، أن تُقَدِّمَ إلى العدالة المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وإلّا فإنَّ الإفلاتَ من العقاب سوف يستمر.
ونظرًا لعدم تكافؤ القوى بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فإنَّ التقدُّمَ على مسارِ بناءِ دولةٍ فلسطينيةٍ قابلةٍ للحياة سوف يتطلّبُ الإشرافَ القوي من قِبَلِ وسيط قيادي عادلٍ ومُنصِف. الأمم المتحدة فقط، بدعمٍ من القوى العالمية الكبرى، هي القادرة على الاضطلاع بهذا الدور. ويجب تعيينُ مبعوثٍ للسلام للعمل على الإعدادِ لمؤتمرٍ دولي للسلام لضمان تنفيذ الخطة. وفي حالةِ الوصولِ إلى طريقٍ مسدود بين الجانبين –على سبيل المثال في ما يتعلق بالمسائل المُتعلّقة بالأمن أو الوصول إلى نقاط الدخول الحدودية– يجب على هذا الوسيط تأكيد السلطة المطلقة التي ينبغي أن يتمتّع بها.
للإشرافِ على هذه العملية فلا بدَّ من نشرِ قوّة حماية تابعة للأمم المتحدة في مختلف أنحاء الأراضي الفلسطينية لحماية الشعب الفلسطيني وطمأنة إسرائيل إلى تلبية مخاوفها الأمنية من ناحية، والإشراف على التحوّلِ الفلسطيني نحو إقامة الدولة من ناحية أخرى. وبمجرّدِ موافقةِ جميع أطراف الخطة على هذه المبادئ ووضع جدول زمني ثابت لتنفيذها، يمكنهم البدء في المفاوضات الصعبة حول ما يسمى بقضايا الوضع النهائي، بما في ذلك وضع القدس والمستوطنات الإسرائيلية والحدود والأمن وحقوق المياه، وحرية الأسرى الفلسطينيين وأوضاع اللاجئين.
في نهاية المطاف، فإنَّ الانتخابات الحرة والنزيهة هي وحدها القادرة على إرواء تعطُّش الفلسطينيين للديموقراطية. باعتباري أمينًا عامًا للجنة الانتخابات المركزية الفلسطينية في الفترة من 1995 إلى 1998، كنتُ مسؤولًا عن عملية انتخابية ذات مصداقية دولية. أعرفُ ما هي الشروط التي يجب استيفاؤها لإجراءِ تصويتٍ قانوني وديموقراطي سليم. إذا توفّرت الإرادة، يمكنُ إجراءُ الانتخابات حتى عندما لا تزال الشوارع مليئة بأنقاضِ الحرب. لذلك، ينبغي إجراءُ انتخاباتٍ عامة تحت رعايةٍ دولية في أقرب وقت ممكن عمليًا. وسيتطلّب ذلك، من بين أمورٍ أخرى، إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين الفلسطينيين وتهيئة بيئة سياسية ديموقراطية حرة ومواتية بالكامل. ويجب أن يُمنَحَ جميع الفلسطينيين، بمن فيهم سكان القدس، الفرصة للمشاركة في الانتخابات، كناخبين ومرشَّحين. ويجب الاعتراف بنتائج الانتخابات ودعمها دوليًا.
دَعمُ السيادة الفلسطينية
بالإضافة إلى تمهيدِ الطريق لإقامة الدولة الفلسطينية، فإنَّ إطار السلام الشامل من شأنه أن يُعطي الجهات الفاعلة الدولية حصّةً مباشرة في إعادة بناء وتنمية قطاع غزة والضفة الغربية. في الوقت الحاضر، تمَّ تدمير غزة وعانت الضفة الغربية من الفقر الشديد. وستكونُ تكلفةُ إعادة الإعمار هائلة. فضلًا عن ذلك، ونظرًا للتجارب الأخيرة، سوف يتوخّى المانحون الحذر إزاء تمويل خطة “مارشال” لغزة ما لم يكونوا واثقين من معالجة الجمود السياسي الأساسي بشكلٍ فعّال.
إحدى المزايا هي أن السلطة الفلسطينية لديها أصلًا وجودٌ في غزة. على الرُغم من الانقسامات العميقة مع “حماس”، ظلت السلطة الفلسطينية مُنخَرِطة منذ فترة طويلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والإدارية للقطاع. على سبيلِ المثال، كَلّفَت الحكومة التي تَرَأّستُها حتى أوائل العام 2024 كل وزارة من الوزارات ومؤسّسات السلطة الفلسطينية الأخرى بإجراءِ تقييمٍ مُفَصَّلٍ للاحتياجات المدنية الناشئة عن الحرب الإسرائيلية. وهذا العملُ مستمرٌّ ويوفّرُ الأساس للتخطيط لإعادة إعمار غزة بالتعاون مع البنك الدولي ووكالات الأمم المتحدة ذات الصلة.
لكن لكي تنجحَ هذه الجهود، يجب أن تتحمَّلَ السلطة الفلسطينية مسؤوليةَ تنفيذها بدعمٍ من الشركاء الإقليميين وغيرهم من الشركاء الدوليين. لقد راكمت السلطة الفلسطينية ثروةً من الخبرة في العمل مع الجهات المانحة المُتعدّدة الأطراف والثُنائية، حيث أشرفت على استثماراتٍ بمئات الملايين من الدولارات في مشاريع البنية التحتية في كلٍّ من قطاع غزة والضفة الغربية بطريقةٍ شفّافة. ومن بينها طريق صلاح الدين في غزة؛ وأنظمة الصرف الصحي، ومحطات تحلية المياه، والمستشفيات المتعددة؛ ومشاريع الإسكان المُموَّلة من قطر والإمارات العربية المتحدة؛ ومئات المدارس بتمويل من المملكة العربية السعودية، والكويت، وفرنسا، واليابان، والنروج، والسويد، والبنك الإسلامي للتنمية؛ ومشاريع الطاقة التي يموّلها البنك الدولي؛ والمراكز المُجتمعية الثقافية التي تدعمها الصين والهند واليابان؛ ومشاريع المساعدة التقنية التي تدعمها إيرلندا والمملكة المتحدة.
وقد تمَّ تنفيذُ عددٍ لا بأس به من هذه المشاريع تحت إشرافي من خلال المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار، الذي كنتُ أديره قبل تعييني رئيسًا للوزراء. وتولّت مؤسسات السلطة الفلسطينية قيادة مشاريع أخرى، وكذلك من خلال مشاركة وكالات الأمم المتحدة. إلّا أنَّ هذا التقليد القوي للمساعدات الدولية قد تعرَّضَ للتشويه في الأشهر الأخيرة. وكما لوحظ على نطاقٍ واسع، فإنَّ الادعاءات الإسرائيلية التي لا أساسَ لها ضدّ وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين –الأونروا، الوكالة التي طالما قدمت الدعم الأساسي للتعليم والصحة والتنمية البشرية في غزة– أدّت إلى تعليق تمويل الوكالة من قبل العديد من الدول المانحة. ولكن حتى قبل ذلك، خفّضت حكوماتٌ مانحة عدّة مساعداتها، الأمرُ الذي أثارَ تساؤلاتٍ جدّية حول التزامها.
وبالنظر إلى أنه لا تُوجَدُ منظمةٌ أخرى مُجَهَّزة للقيام بالأنشطة والخدمات الواسعة التي تدعمها الأونروا، وبالنظر إلى الصعوبات البالغة التي تواجهها الآن المنظمات غير الحكومية الدولية التي تحاول العمل في غزة خلال الحرب، فإنَّ المانحين الذين أوقفوا تمويلهم يتركون الفلسطينيين في مأزقٍ خطير في لحظةٍ هم في أمس الحاجة فيها إلى المساعدة. في نيسان (أبريل)، توصّلَ تحقيقٌ خارجي أجرته الأمم المتحدة بشأن الأونروا إلى أنَّ الوكالة لديها آلياتٌ لضمان الحياد، وأنه لا يوجدُ دليلٌ يدعَمُ الادّعاءات الإسرائيلية بأنَّ “عددًا كبيرًا” من موظفي الوكالة كانوا أعضاءً في منظّماتٍ إرهابية. ببساطة، لا يوجدُ بديلُ معقول من الأونروا، ويجب تمويلها بالكامل من قبل الشركاء الإقليميين والدوليين.
الطريقُ الوحيدُ للأمام
تُدرِكُ السلطة الفلسطينية أنها بحاجةٍ إلى إجراءِ إصلاحاتٍ وتجديداتٍ كبرى. ومن خلال الأدوات والدعم الدولي اللازِمَين للقيامِ بذلك، يصبحُ بوسعها بناء إدارةٍ أفضل وأكثر كفاءةً وخاضعة للمساءلة الكاملة أمام الشعب الفلسطيني. كرئيسٍ للوزراء، قدّمتُ برنامجَ إصلاحٍ شاملًا إلى المؤتمر الدولي للمانحين الذي عُقدَ في بروكسل في أيار (مايو) 2022، وقد رحَّب به معظم الوفود. ولكن بدلًا من المطالبة بالمَوعِدِ الذي يُرَتّبُ فيه الفلسطينيون بيتهم وأحوالهم، يتعيّنُ على الديبلوماسيين والمُعلّقين أن يُركّزوا على قضيةٍ أكثر إلحاحًا لا بُدَّ أن تَحدُثَ أولًا: إنهاء الحرب في غزة والتعدّيات الإسرائيلية المستمرة في الضفة الغربية. لا يمكنُ للشعب الفلسطيني أن يثقَ في أيِّ مبادرةٍ سياسية إذا كان قادته غير قادرين على ممارسة السلطة الإدارية الكاملة اللازمة لتوفيرِ الحدِّ الأدنى من الأمل في غدٍ أفضل وأمنٍ وازدهارٍ اقتصادي. يتوقُ ويُطالبُ الفلسطينيون بالمزيد من قادتهم، لكن غضبهم مُوَجَّهٌ بحقٍّ إلى إسرائيل، القوة المحتلة.
في أيِّ سلامٍ مُستدام، يجب السماح للسلطة الفلسطينية بالعمل ككيانٍ وطني وليس مجرّد وكالة أمنية تابعة للحكومة الإسرائيلية. لهذا السبب فإنَّ أيَّ ترتيباتٍ ل”اليوم التالي” يجب أن تتناولَ كافةَ الأراضي الفلسطينية، وليس قطاع غزة فقط. وهذا هو على وجه التحديد النهج الذي حدّدتهُ مبادرة السلام العربية. لإطلاق مثل هذه الخطة الشاملة، لا بدَّ من عقد مؤتمر دولي من قبل الأمم المتحدة بدعمٍ كاملٍ من مجلس الأمن الدولي لوضعِ خطّةِ تنفيذٍ لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية الذي بدأ بعد حرب العام 1967. ويجب عليها أن تُعالجَ جميع قضايا الوضع النهائي خلال المفاوضات وأن تتوصّلَ إلى علاقةٍ جديدة بين الإسرائيليين والفلسطينيين على أساسِ مبدَإ السيادة الفلسطينية.
لا شيءَ من هذا سيكونُ سهلًا. ولكن مع تجديدِ تفويضٍ ديموقراطي يحظى بتأييدِ زعماء العالم ودَعمِ المنطقة بالكامل، فإنَّ الحكومة الفلسطينية الجديدة سوف تكون في وضعٍ جيد يسمح لها بإحداثِ نهضةٍ في الحياة الفلسطينية. ويمكنها أن تتولّى المهام العاجلة المتمثّلة في إعادةِ بناءِ مرافق المأوى والصحة والتعليم؛ وإنعاش الاقتصاد الفلسطيني المُحطَّم؛ ووضعِ أساسٍ متينٍ للنموِّ المستقبلي. ومن الجدير بالذكر أن 145 من أعضاء الأمم المتحدة البالغ عددهم 193 عضوًا قد اعترفوا رسميًا بالدولة الفلسطينية؛ لقد حان الوقت للعالم أن يجعلَ ذلك حقيقةً قابلةً للحياة. لقد حانَ الوقتُ لحلِّ القضية الفلسطينية.
لم يكن السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 هو البداية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، بل كانَ الأثر الرهيب لصراعٍ مستمر منذ 76 عامًا. هذه المرة كانت الشرارة في غزة. في المرة المقبلة يمكن أن تكون في الضفة الغربية. إن الهجوم الإسرائيلي الناتج يُهدّدُ بدوره بخلق المزيد من أعمال العنف البغيض في المستقبل، كما يهدّد أيضًا بعزل إسرائيل بشكل أكبر عن الشركاء الإقليميين الذين يعتمد عليهم أمنها في المدى الطويل. والسبيل الوحيد لوضعِ حدٍّ لهذا البؤس والمأساة يتلخّصُ في معالجة جوهر المشكلة: احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، ومعاملتها غير العادلة للفلسطينيين، ورفضها السماح للفلسطينيين بفرصةٍ حقيقية لبناء دولة خاصة بهم.
- محمد أشتية هو رئيس الوزراء الفلسطيني من 2019 إلى 2024.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.