أكبرُ مجاعةٍ بشرية في العالم تجتاحُ السودان: لا أَحَدَ يهتَمّ؟

واحدةٌ من أقسى المُفارقات في حالة الطوارئ الغذائية في السودان هي أنَّ مُعاناةَ أطفال البلاد تبدو أنها تعودُ بالنفعِ على الطَرَفَين المتحارِبَين.

الشيخ محمد بن زايد والأمير محمد بن سلمان: بين أيديهما تقع مسؤولية حل المجاعة في السودان.

أليكس دي وال*

تتكشّفُ في السودان أكبرُ أزمةِ جوعٍ في العالم، وهي من صنعِ الإنسان. حتى الآن، يحتاجُ أكثرُ من نصفِ سكّان البلاد البالغ عددهم 45 مليون نسمة إلى المساعدة الإنسانية بشكلٍ عاجل. في أيار (مايو)، حذّرَت الأمم المتحدة من أن 18 مليون سوداني يُعانون من “الجوع الشديد”، بمَن فيهم 3.6 ملايين طفل يُعانون من “سوء التغذية الحاد”. ومنطقة دارفور الغربية، حيث التهديدُ الأكبر، أصبحت شبه مقطوعة عن المساعدات الإنسانية. ووفقًا لبعضِ التوقّعات، قد يموت ما يصل إلى خمسة في المئة من سكان السودان بسبب الجوع بحلول نهاية العام.

هذا الوَضعُ المُزري ليس نتيجةً لسوءِ الحصاد أو ندرةِ الغذاء بسبب المناخ. إنه النتيجة المباشرة لتصرّفات كلا الطرفيَن في الحرب الأهلية الرهيبة الدائرة في السودان. مُنذُ نيسان (أبريل) 2023، تخوضُ القوات المسلحة السودانية، بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، صراعًا مُدَمِّرًا مع قوات الدعم السريع، وهي مجموعة شبه عسكرية مُدَجَّجة بالسلاح بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي. وبينما يُناضلُ الحليفان السابقان من أجلِ التفوُّق، استخدمَ كلاهما عمدًا أساليب التجويع لتحقيقِ أهدافهما الحربية. يعملُ مقاتلو قوات الدعم السريع مثل جرادٍ بشري، حيث يقومون بتجريدِ المدن والأرياف من جميع الموارد المنقولة. إنَّ ورثةَ ميليشيا الجنجويد سيِّئة السمعة –المقاتلون العِرقيون العرب الذين ارتكبوا المذابح والمجاعة في دارفور بين العامين 2003 و2005، مما أسفر عن مقتل أكثر من 150 ألف مدني– يستخدمون هذا النهب للحفاظ على آلَتِهِم الحربية. ومن جهتها، منعت القوات المسلحة السودانية، القوّة المُهيمنة في حكومة السودان المُعترَف بها من قبل الأمم المتحدة، المساعدات الإنسانية إلى المناطق الشاسعة من البلاد الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع.

في أيار (مايو)، قال كريم خان، المُدَّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، للمرّة الأولى، إنّهُ يُحقِّقُ في جرائم تجويعٍ مزعومة يرتكبها أحد أطراف النزاع المسلّح. وكان خان طلبَ إصدارَ أوامر اعتقال دولية ضد مسؤولين إسرائيليين كبار بتهمة جريمة “تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب” في قطاع غزة، مُستشهِدًا بأدلّة قوية على الحرمان من الغذاء والوقود والمياه؛ التهديدات المُوَجَّهة إلى عمال الإغاثة؛ والقيود الصارمة على تدفّق المساعدات الإنسانية خلال الحملة الإسرائيلية هناك التي ما زالت مستمرة منذ ثمانية أشهر. إذا وافقت المحكمة على أوامر الاعتقال، فقد يُشكّلُ ذلك سابقة مهمّة بالنسبة إلى السودان، حيث تخضع أعدادٌ أكبر لهذه التكتيكات عينها – وحيث لا يزال اختصاص المحكمة الجنائية الدولية قائمًا، عملًا بقرارِ مجلس الأمن الدولي الصادر في العام 2005. وفي 11 حزيران (يونيو)، أعلن خان أنه يقوم بتحقيقٍ عاجلٍ في جرائمِ حربٍ في السودان.

لكنَّ حتّى الآن، لا يُظهِرُ مسؤولو المساعدات الدولية أيَّ رغبةٍ في الكشفِ عن الرجال الذين يقومون بتجويعِ أطفالِ السودان بشكلٍ منهجي. قد يزعمُ البعضُ أنَّ اللاعبين الخارجيين عليهم أن يتجنّبوا توجيه أصابع الاتهام، لأنَّ الجنرالات أنفسهم هم الذين يحتاجون إلى الإقناع لكي يسمحوا بدخول المساعدات. وهذا أمرٌ مُضَلّل. من غير المرجح أن يلينَ أيٌّ من الطرفين من تلقاء نفسه: الجوعُ رخيصٌ وفعّال، ومن دونِ ضغوطٍ دولية قوية يتوقّع الزعماء الإفلات من العقاب. في الواقع، من المرجّح أنَّ مفاتيحَ فَتحِ البلاد أمام المساعدات تكمنُ في أيدي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أكبر قوَّتين إقليميتين تتنافسان على النفوذ في القرن الأفريقي.

من المُلِحِّ إذًا أن تقومَ الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون ليس فقط بكشف أزمة الجوع المروِّعة في السودان على حقيقتها –وهو هدفٌ مقصود للأطراف المتحاربة– ولكن أيضًا لدفع القوى الخليجية التي تتمتع بالنفوذ لإجبار الطرفين على إنهاء التكتيكات المُستخدَمة من قبلهما. ربما فات الأوان لوقف الانزلاق إلى المجاعة، ولكنَّ التحرُّكَ السريع لفَرضِ توزيعِ المساعدات يُمكِنُ على الأقل تجنّب النتائج الأكثر كارثية.

ألعابُ الجوع

بدأت الحربُ في السودان في نيسان (أبريل) 2023، عندما انقلب حميدتي على البرهان، شريكه السابق في المجلس العسكري الحاكم في السودان آنذاك. قبل ثمانية عشر شهرًا، أطاح الزعيمان العسكريان الحكومة المدنية السودانية وسيطرا بشكلٍ مُشتَرَكٍ على الدولة، لكنَّ التحالُفَ ما لبثَ أن انهار وحاول حميدتي، مع قوات الدعم السريع، الاستيلاء على السلطة. كانت النتيجةُ صراعًا مُسَلحًا شرسًا أدّى بسرعة إلى إشعالِ حملةِ تطهيرٍ عرقي شنّتها قوات الدعم السريع في دارفور، والتي لا تزال مستمرة حتى اليوم. في الوقت الحاضر، تُسيطرُ قوات الدعم السريع على جُزءٍ كبير من البلاد غرب نهر النيل؛ بينما تُسيطر القوات المسلحة السودانية على أراضٍ إلى الشرق؛ ولا تزال الخرطوم ساحة معركة. تشتهرُ قوات الدعم السريع بارتكابِ المجازر والنهب والاغتصاب؛ والقوات المسلحة السودانية تشتهر بقصف المناطق المدنية. وتُضَيِّقُ قوات الدعم السريع حاليًا الخناق على آخر حامية للجيش السوداني في دارفور، في مدينة الفاشر، مما يُهدّدُ بكارثة. في الأسبوع الثاني من حزيران (يونيو)، هاجمت قوات حميدتي وأغلقت آخر مستشفى مُتَبَقٍّ هناك.

كان ينبغي تَوَقُّعُ أنَّ هذه الحرب ستخلقُ أزمةً غذائية. حتى قبل اندلاع القتال، كانت منظمات الإغاثة الدولية تتوقع أنَّ ثُلثَ سكان السودان سوف يحتاجون إلى المساعدات الإنسانية في العام 2023. لا يزال هناك ملايين عدة من النازحين بسبب الحرب في دارفور التي جرت قبل عشرين عامًا، ويُعاني كثيرون آخرون بسبب الأزمة الاقتصادية المُتفاقِمة الناجمة عن انفصالِ جنوب السودان الغني بالنفط في العام 2011. والآن، مع اجتياح الحرب للبلاد بالكامل، سقطت كل ركائز الاقتصاد الغذائي الوطني أو على وشكِ الانهيار.

كانَ محصولُ العام الماضي في المزارع التجارية الكبرى هزيلًا، وقد انخفض بسبب نَقصِ القروض والوقود والأسمدة. علاوةً على ذلك، في تشرين الثاني (نوفمبر)، اجتاحت قوات الدعم السريع منطقة الجزيرة، جنوب العاصمة، التي تُعتَبَرُ سلّةَ الخبز، ونهبت المزارع ومطاحن الأغذية والجامعة الزراعية في المنطقة. وقد تمَّ طردُ المُزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة من منازلهم، وسُرِقَت حيواناتهم، وأصبحت أسواقهم الآن مهجورة. إنَّ غالبية قطعان الماشية مملوكة الآن لعصابات التجار والجنود ــإما المسروقة أو المُشتراة من الرعاة اليائسين بأسعار بخسةــ والتي تحتكر تجارة التصدير المربحة. كما توقّفَت شحنات القمح من أوكرانيا التي كانت تُستَخدَمُ لتغذيةِ المدن السودانية لأنَّ الحكومة لا تستطيع الدفع. وانهارَ الاقتصادُ الحضري، ما دَفَعَ ما لا يقلّ عن مليون سوداني من الطبقة المتوسطة إلى الفرار واللجوء إلى الخارج.

واختفت أيضًا عملياتُ تَسليمِ المساعدات الغذائية التي تدعَمُ عادةً السكّان النازحين في البلاد، الذين كانوا يعيشون في مخيّماتٍ أصبحت مدن الصفيح حول بلدات دارفور. في غضونِ أسابيع قليلة، ستُضيف بدايةُ موسم الأمطار المَزيدَ من التحدّيات. في السنوات السابقة، كان بإمكان برنامج الأغذية العالمي تخزين الإمدادات في المناطق التي يصعبُ الوصولُ إليها. ولكن هذا العام، عندما تُصبحُ الطرق المؤدّية إلى المناطق الريفية المتضرّرة بشدة بطيئة أو حتى غير قابلة للعبور، فلن تكونَ هناك احتياطات يُمكنُ الاعتماد عليها. تُعتَبَرُ “الجنينة” في دارفور أبعد عن أيِّ ميناء بحري من أيِّ مدينةٍ أفريقية أخرى، وحتى في أوقاتِ السلم قد يستغرقُ وصول الشاحنات إليها أسابيع. الآن، من الممكن أن تنقطعَ عن العالم الخارجي بشكلٍ كامل.

تبنّى كلا الجيشين المجاعة كسلاحِ حَرب. في الأشهر القليلة الماضية وحدها، قامت قوات الدعم السريع بطرد ما يصل إلى مليون من سكان دارفور من ديارهم، ولجأ العديد منهم إما إلى مدينة الفاشر المُحاصَرة أو إلى جبال مرّة، التي تسيطر عليها جماعةٌ متمرّدة مستقلة تُسمّى “جيش تحرير السودان”. لا توجدُ موارد لدعم هؤلاء اللاجئين. وبالفعل، سيطرت قوات حميدتي على خزّان المياه في الفاشر، وهددت بقطع إمدادات المياه عنها، ونهبت آخر مستشفى مُتَبَقٍ فيها. في الوقت نفسه، تلعب القوات المسلحة السودانية لعبة أكثر ازدواجية. لقد حرصت على أن تكون أزمة الغذاء في مناطق شرق السودان التي تسيطر عليها أقل حدّة: فهذه المناطق قريبة من بورتسودان، مركز واردات البلاد، وتريد القوات المسلحة السودانية إطعام هؤلاء الناس. ومع ذلك، فهي على استعدادٍ للسماح لأولئك الموجودين في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع بالجوع، وحتى عرقلة الجهود الدولية لمعالجة الأزمة.

خُذ أحدَ المقاييس الدولية القياسية للمجاعة، والمعروف باسم “التصنيف المُتكامل لمراحل الأمن الغذائي”. وبوصفها بمثابةِ محكمة عُليا إنسانية، من المقرر أن تقوم لجنة مراجعة المجاعة التابعة ل”التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي” بتقييم الوضع السوداني قريبًا. لكن مجموعة العمل الخاصة ب”التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي” في السودان تخضعُ لسيطرةِ الحكومة المُعتَرَف بها من قبل الأمم المتحدة – ولدى القوات المسلحة السودانية مصلحة راسخة في تجنُّب الإعلان الرسمي عن المجاعة في دارفور لأنَّ ذلك من شأنه أن يزيدَ الضغط للسماح بتدفّقِ المساعدات إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع. ويبدو أنَّ الأرقامَ الأخيرة الصادرة عن “التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي” تشير إلى أنَّ 750 ألف شخص يعيشون في وضع غذائي “كارثي”. لكن معظم الخبراء المستقلّين في المجال الإنساني يعتقدون أنَّ الوضعَ أسوأ بكثير، ومن المحتمل أن تكون هناك مجاعة بالفعل في العديد من المناطق.

حتى في الأسابيع الأولى للحرب، حذّرَت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية من أزمةٍ تلوحُ في الأفق في مخيّمات النازحين السودانيين: ففي الخرائط المُلوَّنة التي تستخدمها الوكالة كنظامِ إنذارٍ مُبكر للمجاعة، غيَّرت تسمية المعسكرات من الأصفر يعني “التوتّر”، إلى الأحمر يعني “الطوارئ”. في الواقع، في أحد هذه المخيمات –مخيم زَمزَم بالقرب من الفاشر– أفادَ العاملون في المجال الإنساني المحلي الآن أنَّ الأطفالَ يموتون يوميًا من الجوع والعدوى. وبشكلٍ عام، فإنَّ 90 في المئة من الأشخاص الأكثر عُرضةً للخطر موجودون في دارفور وغيرها من المناطق التي تُسيطرُ عليها قوات الدعم السريع. وبمُقارنتِه للمخزون الغذائي الوطني في السودان مع الاحتياجات الغذائية للسكان، حَذَّرَ معهد “كلينجنديل” في لاهاي الشهر الفائت من أنَّ ما يصل إلى خمسة في المئة من السكان –2.5 مليوني شخص– قد يموتون قبل نهاية العام.

أرخص سلاح

واحدة من أقسى المفارقات في حالة الطوارئ الغذائية في السودان هي أنَّ مُعاناةَ أطفال البلاد تبدو أنها تعودُ بالنفعِ على الطرفَين المتحارِبَين. في الغرب، يحكم حميدتي أرضًا جائعة، لكن قادته يزدهرون، ومقاتلوه يحصلون على الطعام. أولئك الذين يتضوَّرون جوعًا هم جماعات “المساليت” و”الفور” و”الزغاوة” العرقية التي استهدفتها قوات الدعم السريع للتطهير العرقي — أو التي استولى مقاتلو حميدتي على أراضيها وعلى كل ما يمكن سرقته أو أكله. هذا هو حجم الدمار الذي لحق بالمزارع ومطاحن الدقيق والأسواق والمستشفيات، مما أدى إلى تسميم سمعة قوات الدعم السريع بين الكثير من السكان. والآن، أصبحت قوات الدعم السريع مستعدة لطلبِ فدية المساعدات الغذائية بنفسها، ومطالبة التجار ووكالات الإغاثة برسومٍ عالية بالدولار، مقابل كل شاحنة تسمح لها بالمرور. وهذا يضع الجهات المانحة للمساعدات في مأزق: ما المبلغ الذي ينبغي لها أن تدعم مرتكبي المجاعة من أجل إطعام ضحاياهم؟

في الوقت نفسه، يعتقد الجيش السوداني أنه من خلال فَرضِ المجاعة في مناطق قوات الدعم السريع، فإنه يمكن أن يدمّر قاعدة هذه القوات. وتقول النظرية إنه مع حرمانهم من الموارد، فإن المقاتلين البدو الذين يُشكّلون القوات الأساسية لحميدتي سوف يصبحون مضطربين وينقلبون عليه. ومن ثمَّ، استخدمت القوات المسلحة السودانية سلطتها باعتبارها الحكومة المعترف بها دوليًا لمنع الأمم المتحدة من نقل شحنات المساعدات من الشرق –من المناطق التي تسيطر عليها عبر خطوط القتال إلى دارفور– ومن الغرب، عبر الحدود التشادية مباشرةً إلى الأراضي التي تسيطرُ عليها قوات الدعم السريع. والاستثناء الوحيد الذي سمحت به هو ممرٌّ واحدٌ إلى الفاشر، لكنه أصبح غير صالح للعمل بسبب الهجوم المُكثّف لقوات الدعم السريع. ومن المرجح أن تؤدّي معركةٌ واسعة النطاق للسيطرة على الفاشر إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا بين المدنيين وتفاقم المجاعة.

ويعرفُ عمّالُ الإغاثة المخضرمون هذه الاستراتيجيات من حروب السودان السابقة. في الثمانينيات والتسعينيات الفائتة، حاولت الخرطوم تجويعَ جنوب السودان، ثم أغرت أفراد الفصائل اليائسة من المتمرّدين للانقلاب على رفاقهم في السلاح من خلال عروض المال والترخيص للنهب. كان هدفها هو السيطرة على المناطق الغنية بالنفط المهجورة في الجنوب، وقد أدت حملاتها في نهاية المطاف إلى مقتل ما لا يقل عن مليون شخص. وحتى اليوم، فإن الجنرالات الذين قادوا تلك الجهود يأسفون لأنَّ المساعدات الإنسانية الدولية منعتهم من نقل حرب المجاعة تلك إلى نهايتها المنطقية. وبدلًا من ذلك، كما يرون، أصبحت شحنات الإغاثة الغذائية بمثابة حصان طروادة للانفصال: فقد أبقت المساعدات التمرّد على قيد الحياة، وأصبح عمالُ الإغاثة متعاطفين مع قضية المتمرّدين، وكانت النتيجة استقلال جنوب السودان في العام 2011.

إنَّ الأعضاءَ رفيعي المستوى في القوات المسلحة السودانية لن يُكرّروا الخطأ الآن، حيث أنَّ المخاطرَ أعلى. في ذلك الوقت، كان المتمردون الجنوبيون بعيدين من الخرطوم. الآن، أصبحت العاصمة على الخطوط الأمامية للصراع: فقد كادت قوات حميدتي أن تجتاح المدينة في العام الماضي وما زالت تتحصّن فيها. ومن المؤكد أنَّ قوات الدعم السريع التي لم تُهزَم بعد تُخطّطُ لشنِّ هجوم جديد.

اللامبالاة العربية

على الرُغمِ من بوادر الأزمة المُنتشرة، فإنَّ الجهودَ الدولية للحَدِّ من المجاعة لم تُحرِز تقدُّمًا يُذكَر. في غضونِ أسابيع من بدء الحرب العام الماضي، عقدت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية محادثاتٍ لوقف إطلاق النار بين قادة القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في جدة. لم يوقف الاجتماع القتال، لكنَّ الجانبين وقَّعا على إعلانِ الالتزام بحماية المدنيين في السودان – ووَعَدا رسميًا بالتوصيل الآمن للمساعدات الإنسانية، واستعادة الخدمات الأساسية، وحماية المدنيين في الصراع المستمر. لكن منذ ذلك الحين، تجاهل الجانبان الإعلان، ولم تكن مبادرات الوساطة الأخرى أكثر نجاحًا. في شباط (فبراير)، وَجّهت الأمم المتحدة نداءً عاجلًا لجمع 2.7 ملياري دولار للسودان، لكنها لم تجمع سوى 15% من هذا المبلغ.

هناكَ سببٌ أكثر أهمّية وراء الفشلِ المُستَمِرِّ لمحادثات السودان في الانطلاق. حتى الآن، فشل الزعيمان الخليجيان اللذان يمتلكان القدرة على جلب البرهان وحميدتي إلى الطاولة بشكل مشترك، في التعامل بجدّية مع الأزمة. وهما ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ورئيس الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد. وقد استضاف السعوديون المحادثات، لكن بن سلمان لم يرغب في دعوة ومشاركة الإمارات. وبدورها لا تريد دولة الإمارات أن يؤثّرَ السعوديون في الصفقة – أو أن يحصلوا على الفضل فيها.

هناكَ تاريخٌ مُتشابِكٌ هنا. قبل تسع سنوات، عندما شنّت الدولتان الخليجيتان حربهما ضد الحوثيين في اليمن، قامتا بتجنيد القوات المسلحة السودانية للقتال في تحالفهما المناهض للحوثيين. كان البرهان قائد تلك الفرقة التابعة للقوات المسلحة السودانية. لكن في الوقت نفسه، قدّمَ حميدتي مقاتلي قوات الدعم السريع بموجبِ عقودٍ خاصة مع كلٍّ من السعوديين والإماراتيين. وأصبحت شركة “الجنيد” العائلية لحميدتي، مُوَرِّدًا مهمًا للذهب إلى الإمارات. واليوم، هناك مزاعم تشير إلى أنَّ الإمارات تقوم بتسليح وتمويل قوات الدعم السريع، وهي اتهاماتٌ نفتها أبو ظبي. وسمحت المملكة العربية السعودية، بفضل صلاتها بالبرهان، لمصر وقطر وتركيا بدعم القوات المسلحة السودانية، بما في ذلك بالأسلحة، كما منعت مبادرات السلام الأخرى. وهذا النوع من التدخُّلِ من كلا الجانبين يعني أنَّ أيَّ تقدُّمٍ بشأن وقف إطلاق النار سيتطلّبُ عملًا مشتركًا من جانب الرياض وأبو ظبي.

مع عدمِ وجودِ نهايةٍ للحرب في الأفق، قامت جهات خارجية أخرى بصبِّ الوقود على النار. في أواخر العام الماضي أرسلت إيران طائرات مُسيَّرة إلى القوات المسلحة السودانية في إطارِ جهودها لإحياء علاقاتها مع الإسلاميين السودانيين الذين يدعمون الجيش السوداني. في أيار (مايو)، اتخذت روسيا خطوات نحو التوصّل إلى اتفاقٍ مع القوات المسلحة السودانية بشأن منشأة بحرية في بورتسودان – ومع أن مجموعة فاغنر شبه العسكرية الروسية لا تزال مرتبطة بشكل وثيق بقوات الدعم السريع، فإنَّ روسيا لديها الآن حصص في كلا المعسكرين المتحاربين. في نهاية أيار (مايو)، عندما اتصل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بالبرهان للضغط عليه لحضور محادثات السلام المتجدّدة في جدة، رفض البرهان الدعوة بسرعة. وبدلاً من ذلك، أرسل نائبه، مالك عقار، لعقد اجتماعات في روسيا لوضع اللمسات الأخيرة على مجموعةٍ من اتفاقيات التعاون – الصفقة الأساسية هي أسلحة روسية مقابل قاعدة البحر الأحمر. ومن الواضح أن محادثات جدة التي كان من المفترض أن تُسفِرَ عن سلامٍ شاملٍ قد ماتت.

بالنسبة إلى الأمير محمد بن سلمان والشيخ محمد بن زايد، السودان هو قرصٌ صغير في إسطرلابهما أي في آلة رصدهما. وبما أنَّ الولايات المتحدة تلعب دورًا أقل في الأمن الإقليمي، فقد حاولت القوتان الخليجيتان التعاون والمنافسة في مصر وإريتريا وإثيوبيا وليبيا والصومال وكذلك السودان. إنَّ المخاطرَ الجيوسياسية المحيطة بالبحر الأحمر كبيرة: فهو الممر البحري الذي يربُطُ بين أوروبا وآسيا، وسوف تُشَكِّلُ خطوطُ السكك الحديدية المُخَطَّط لها من البحر الأبيض المتوسط ​​إلى الخليج حلقةَ وصلٍ مركزية في الممرِّ الاقتصادي المُتَصَوَّر بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا. لقد هزّت الحرب الإسرائيلية في غزة المنطقة وتطلّبت من دول الخليج السير على حبلٍ مشدود بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة، وإيران وعملائها ووكلائها من جهة أخرى. ومع كل هذا الاهتمام الإماراتي والسعودي المُستَجِد، تفاقمت الحرب والمجاعة في السودان بشكلٍ خطير.

ما الذي يجب على العالم أن يفعله؟

خاضَ جنرالات السودان حروبَ مجاعةٍ لعقود، بما في ذلك في دارفور. وحينَ أدلَيتُ بشهادتي كشاهدٍ خَبيرٍ في القضيّة الأولى التي حُوكِمَ فيها أحد أفراد ميليشيا الجنجويد بتهمة ارتكاب جرائم حرب أمام المحكمة الجنائية الدولية منذ عامين، أكّدَت شهادتي على هذا التكتيك باعتباره عاملًا حاسمًا في الخلفية. في الحرب الحالية، يستخدِمُ المتحاربون هذه الاستراتيجية في صراعهم من أجل البلد بأكمله، مما يُعرّضُ أعدادًا أكبر للخطر. ومما يزيدُ من قسوةِ هذه المأساة التي تلوح في الأفق أنَّ العديدَ من الأرواح يُمكن إنقاذه بمجرّدِ فَرضِ إيصالِ المساعدات إلى مَن هُم في أمسِّ الحاجةِ إليها.

منَ المُشجِّعِ أنَّ العزمَ المتزايد على محاكمة تجويع المدنيين باعتباره جريمة حرب يُشيرُ إلى أنَّ المسؤولين الدوليين وزعماء العالم ربما أصبحوا أخيرًا على استعدادٍ لمُحاسبة الجُناة. وفي إعلانه بتاريخ 11 حزيران (يونيو)، قال خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، إنهُ يَجمَعُ أدلّةً على الهجمات “المُتَكرِّرة والمُوسَّعة والمُتواصلة” ضد السكان المدنيين في دارفور. ورُغمَ أنه لم يذكر جرائم التجويع تحديدًا، إلّا أنَّهُ يعرفُ جيدًا مَن يرتكبها وكيف. إنَّ عجلاتَ العدالة تدورُ ببطء، ولكن حان الوقت لوضع الرجال الذين يتسببون في أزماتِ الجوع في السودان تحت المراقبة والمُساءلة. وإذا تحركت المحكمة الجنائية الدولية، فيتعيَّنُ على العالم أن يصطفَّ دَعمًا لها.

لكن حتّى لو قرّرت المحكمة الجنائية الدولية إصدارَ أوامر اعتقال رسمية، فقد يكون الوقت فات لمَنعِ عشراتِ الآلاف من الأطفال في السودان وكردفان المجاورة من الموت جوعًا. هناكَ حاجةٌ ماسّةٌ إلى حلولٍ أكثر فورية. خلال المجاعة التي شهدتها إثيوبيا في الثمانينيات الفائتة، ناشد بوب غيلدوف، المغني الإيرلندي الذي أطلق منظمة “Live Aid”، الجمهور العالمي “إطعام العالم”. وفي ذلك الوقت، كانت الحكومة الشيوعية في إثيوبيا تشنُّ حربَ مجاعةٍ ضدّ المتمرّدين في إريتريا وتيغراي. وبعد الضغط عليه من أجل اتباع مقولة الرئيس الأميركي رونالد ريغان بأنَّ الطفلَ الجائع لا يعرف السياسة، أصدر الزعيم السوفياتي آنذاك ميخائيل غورباتشوف في نهاية المطاف تعليماته إلى إثيوبيا بالسماح بتسليم المساعدات السرية التي تنظمها الولايات المتحدة عبر خطوط المعركة.

اليوم، لدى الأمير محمد بن سلمان والشيخ محمد بن زايد فرصةً لمُمارسةِ نفوذٍ مُماثل. وبوسع الرجلين أن يختارا إنقاذ الأرواح، وتحقيق الاستقرار في المحيط الاستراتيجي لبلديهما، ومنع ما يمكن أن يصبح ضررًا كبيرًا لسمعة البلدين. إنَّ التوصُّلَ إلى اتفاقٍ بين البلدين الخليجيين لن يفعل سوى إعطاء دفعةٍ، إذ إن السلام في نهاية المطاف يتطلّب متابعة سودانية. لكنَّ أيَّ نوعٍ من الاتفاق بين الرياض وأبو ظبي من شأنه أن يفتح الباب على الأقل أمام مفاوضاتٍ حقيقية، بدءًا بالإغاثة العاجلة للمجاعة.

إن وقت العمل ينفد. وتعمل إيران وروسيا بالفعل على تعقيد الأمور الجيوسياسية للحرب، وسوف تؤدّي المجاعة المُتَكَشِّفة إلى توليد المزيد من الفوضى. لكن في الوقت الحالي، لا تزال هناك فرصة لتجنُّب النتيجة الأسوَإِ. من خلال ضغوطٍ من واشنطن، يمكن للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أن تأخذ زمام المبادرة في إيصال المساعدات الغذائية إلى حيث يجب أن تذهب.

  • أليكس دي وال هو المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي.
  • كُتِبَ المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى