عامٌ على الاتّفاقِ السّعودي-الإيراني: كَيفَ صَمَدَت “صَفقَةُ” بكين أمامَ “الطَّوَفان”؟
محمّد قوّاص*
بَعدَ مرورِ نحو 12 شهرًا على توقيعِ الاتفاقِ السعودي-الإيراني في بكين، يَجوزُ تأمّلُ هذا المسار واستنتاجُ آثاره كما تداعياته، ليس فقط على علاقاتِ البلدَين، بل على ما أحدثته تلك “الصفقة” في المَشهَدِ الإقليمي برمّته. ولا شَكَّ في أنَّ أطرافَ الاتفاق الثلاثة: السعودية، إيران والصين، ذهبت في ورشتها باتجاهِ آفاقٍ وطموحاتٍ لم تَكُن تتوقّعُ أو تَستَشرِفُ ما أحدَثهُ زلزالُ “طوفان الأقصى” من تصدّعاتٍ داخل الشرق الأوسط كما المشهد الدولي العام.
مُنذُ اللحظاتِ الأولى للإعلان في 10 آذار (مارس) 2023 عن “المُصالَحة” المُفاجئة، كانَ واضحًا أنَّ الأمرَ هو قرارٌ سياسي اتَّخَذَتهُ كلٌّ من الرياض وطهران لوَضعِ حَدٍّ لمَرحَلةٍ طويلةٍ من الخلاف، والانتقالِ، معًا، إلى مرحلةٍ جديدةٍ لـ”إدارة الخلاف”. بمعنى آخر، لا أحَدَ في السعودية وإيران صَدّقَ أنَّ رعايةً صينية طارئة غامضة أزالت غُيومَ انقسامٍ جيوستراتيجي عقائدي رانَ العلاقة بين “الجمهورية الإسلامية” و”المملكة” منذ الثورة الإيرانية عام 1979.
سَعَت بغداد مُنذُ عهد رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي إلى رعايةِ “حوارٍ” بين البلدين بدأ في نيسان (أبريل) 2021، وبدا أقلّ من مستوى المفاوضات. وعلى الرُغمِ من تعدّدِ جولات هذا الحوار وتعثّرِ بعضها، فإنَّ التقدُّمَ بدا بطيئًا ويكشفُ غيابَ رغبةٍ مُشتَرَكة في المضي قُدُمًا والوصول إلى الخواتيم المأمولة وتجاوز حتى تفاصيل الخلاف. وكانَ واضحًا أنَّ آليةَ الحوارِ مرغوبةٌ من الطرفَين من دونِ الشعورِ بالحاجةِ إلى تتويجِ الأمرِ باتفاقٍ مَكتوبٍ واضح المعالم والبنود. وكانَ وزيرُ الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان يصفُ دائمًا الحوارَ بأنّهُ استكشافي على نحوٍ بدا فيه أنَّ هذا “الاستكشاف” هو الهدف بحدّ ذاته.
وربما ليس دقيقًا أنَّ وزنَ دولةٍ كُبرى مثل الصين هو الذي طوى صفحة الاستكشاف ورَسَمَ حروفَ نصِّ “اتفاق بكين”. والأرجح أنه ليس صحيحًا أيضًا أنَّ الصين هي دولةٌ ضامنة أقنعت السعودية وإيران بالتوقيع في بكين على اتفاقٍ كانَ من الصعب الوصول إليه في العاصمة العراقية. فما رعته الصين هو ثمرة “حوار بغداد” الطويل، ولا يُمكِنُ للصين أن تضمنَ الاتفاق أو تُمارِسَ أيَّ ضغوطٍ رادعة على الطَرَفَين لو قرّرت السعودية أو إيران نقضَ التفاهم وفَضَّ الشراكة في تلك الصفقة.
قادت تحوّلات السعودية بعد تبوُّؤِ الملك سلمان بن عبد العزيز عَرش البلاد في العام 2015 إلى تطوّرٍ في الاستراتيجيات المُعتَمَدة في السياسة الخارجية للمملكة. تطوّرت تلك التحوّلات وتغيّرت مُقارَبةُ الرياض في التعامل مع طهران. بدا أن رؤية 2030 التي يُشرِفُ عليها وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان ومسارات “المصالحة الخليجية” بعد قمّة العُلا في أوائل 2021 دفعت باتجاهِ شكلٍ من أشكالِ “تصفير المشاكل”. وجدَ هذا الخيارُ واجهاتٍ له في المصالحة مع قطر، ثم طيّ صفحة النزاع مع كلٍّ من إيران وتركيا. في المقابل، أظهرت إيران تحوّلًا حقيقيًا، منذ تبوُّؤ الرئيس إبراهيم رئيسي سدّة الرئاسة في العام 2021، وبرعاية كاملة من المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، باتجاهِ فَتحِ صفحةٍ جديدة مع السعودية. كانت إيران أدركت أنَّ الدخولَ من أبوابِ الرياض يفتحُ أبوابَ الخليج ومصر وقد يُشرّعُ أبوابَ المنطقة جميعها.
لم يحصل الشيء الكثير خلال العام الذي مرّ على الاتفاق. ليس في الأمر مفاجأة. فمفهومُ “إدارة الخلاف” يعترفُ بدوامِ الخلافِ ويسعى إلى وَضعِ ضوابط له تمنعه من التحوّلِ إلى صدام. فحتى تبادل البعثات الديبلوماسية وتبادل السفراء بين البلدين استغرقَ وقتًا وشابهُ تلكّؤٌ لا يُشبِهُ روحيِّةَ ما نَصَّ عليه الاتفاق. لكنَّ اللافت أنَّ مواقفَ الرياض وطهران بقيت تتكلّمُ بلسانٍ يكاد يكون واحدًا في الدفاع عن الاتفاق وردّ الشائعات عنه وتبديد مظاهر قد يُفهَمُ منها نشوب أزمة أو أعراض توتر أو سوء فهم. ولو لم يكن القرار السياسي في الرياض وطهران لاحتضان الاتفاق نهائيًا، لما صمد “نصّ بكين” في مواجهة الأعاصير التي نُفِخَت في المنطقة منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
اجتمعت السعودية وإيران على إدانةِ الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزّة ودَعمِ الفلسطينيين. حضر الرئيس الإيراني قمّةً عربية إسلامية استثنائية عُقِدَت في الرياض في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي برئاسة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وفيما انتهجت السعودية مواقف ديبلوماسية تُطالِبُ بوقف إطلاق النار ودَعمِ مسارٍ دولي لقيام دولة فلسطينية، فإنَّ إيران قادت “محور المقاومة” إلى القيام بعملياتٍ عسكرية محسوبة داعمة لغزّة، سواء من قبل فصائلها الموالية في العراق وسوريا، أم من قبل “حزب الله” في لبنان، أم جماعة الحوثي في اليمن. ورُغمَ تبايُنِ المسارَين، فإنَّ طهران ومحورها لم يتجاوزا “مُحرّمات” الاتفاق السعودي-الإيراني، وبقيت لهجاتُ الجميع مُنضَبِطة لا تنقضُ المُنجَز في بكين. بدا هذا التعقّل مُتناقضًا مع الحملات التي شنّتها طهران ودمشق و”حزب الله” والمعسكر المُمانع ضد السعودية والدائرة العربية أثناء الحرب الإسرائيلية ضد لبنان في العام 2006.
صَمَدَ “اتفاقُ بكين” بانسيابٍ وسهولةٍ أمامَ حدثٍ تاريخي جلل ما زال يُهدّدُ السلمَ الشامل في الشرق الأوسط. لا بل يؤكّدُ حدث “الطوفان” تَمَكّنَ السعودية وإيران من حسن “إدارة الخلاف” كما تَمَسُّكَ البلدَين بـ”المصالحة” كخيارٍ نهائي. وبدا لافتًا تحاشي السعودية ودول المنطقة، لا سيما في البحر الأحمر، الدخول في أيِّ أحلافٍ دولية ضد جماعة الحوثي وعدم تبنّي أيِّ نَهجٍ أميركي-دولي مُعادٍ لإيران. وبدا تحذير وزارة الخارجية السعودية من خروج التصعيد عن السيطرة في البحر الأحمر بعد تشكّل “تحالف الازدهار” بقيادة الولايات المتحدة غير بعيد من تحذيرات وزارة الخارجية الإيرانية من تبعاتٍ تَشَكُّلِ قوى بحرية دولية في هذا البحر.
ورُغمَ “معجزة” صمود الاتفاق السعودي-الإيراني خلال عامه الأوّل، فإنَّ حصرَهُ بـ”إدارة الخلاف” من دون الارتقاءِ إلى مستوياتٍ أعلى وذات صدقية من التعاون والشراكة قد يُفقِدُ “الصفقة” وظيفتها في اجتراحِ آلياتٍ لتطبيعٍ سياسي،اقتصادي وجيوستراتيجي بين البلدَين. ومع ذلك وَجَبَ عدم تحميل الاتفاق مسؤولياتٍ طموحة، ذلك أنَّ صراعَ الشرق الأوسط ومُستقبل النظام الدولي ومآلات حرب أوكرانيا وتطوّر الصراع الأميركي مع الصين ومصير البرنامج النووي الإيراني داخل المشهد الدولي، هي ديناميات تتداعى مباشرة على تفاهمات رعتها الصين وداهمها “طوفانٌ” ينفثُ نيرانه على أوراق بكين.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).