هل ساعَدَت حَربُ غزّة “حزبَ الله”؟

في حين تمكّنت إيران من تعبئة شبكاتها الممتدة على مستوى المنطقة وإعادة التأكيد على أهميتها الإقليمية، فإنَّ القصّة تبدو أكثر تعقيدًا في لبنان.

وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت: لن يتوقف القتال على الجبهة اللبنانية إذا توقفت جبهة غزة…

مايكل يونغ*

رُغمَ أنَّ القليلَ من الناس يُشَكّك في أنَّ إيران و”حزب الله” كانا على عِلمٍ بنِيّةِ حركة “حماس” مهاجمة البلدات الإسرائيلية المُحيطة بقطاع غزّة، فإنه يبقى من غير الواضح ما إذا كانا على عِلمٍ بالتوقيت، أو حتى رحّبا به. وبالفعل، نقلت وكالة “رويترز” عن ثلاثة مصادر أنَّ المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي قال لزعيم “حماس” إسماعيل هنية في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر): “أنت لم تُعطِنا أي تحذير بشأن هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) على إسرائيل، لذا لن ندخُلَ الحربَ نيابةً عنكم”. ونفت “حماس” في وقتٍ لاحق التقرير ووصفته بأنه “كاذب”.

الواقع أنَّ الجميع لا يُصدّقُ رواية المفاجأة الإيرانية، خصوصًا وأنَّ إيران كانت لها دائمًا مصلحة في النأي بنفسها عن عملية “حماس”، مُفضّلةً أن تتحمّلَ كتيبة من الميليشيات العربية الموالية لطهران وطأة الانتقام الإسرائيلي والغربي بدلًا منها. ومع ذلك، فإنَّ التطورات في لبنان قد تضفي بعض المصداقية على تفسيرٍ مفاده أنَّ ما حدث في 7 تشرين الأول (أكتوبر) لم يكن واضح المعالم مثل عملية الضغط على زرٍّ إيرانية. في حين أنَّ ما يُسَمّى بـ”محور المقاومة” الإيراني تمكّنَ من الردِّ على مستوياتٍ مُتعدّدة على الحرب في غزة ودعم إدارة جو بايدن لإسرائيل، وبالتالي الإظهار بأنَّ طهران لاعبٌ مركزي في الشرق الأوسط لا يمكن تجاوزه والتحايل عليه، فإن القصة أكثر تعقيدًا بالنسبة إلى “حزب الله”.

منذ بداية حرب غزة، اتّسَمَ رَدُّ فعل “حزب الله” بالقيود. حتى اليوم، كان الحزب قادرًا على تحقيق توازنٍ دقيق يتمثّل في الحفاظ على مستوى مُعَيَّن من الردع مع إسرائيل مع تجنّبِ حربٍ مُدمّرة شاملة يمكن أن تُقوِّضَ موقف ووضع “حزب الله” في لبنان. ومع ذلك، شكّلَ هذا النهجُ دائمًا مخاطر كبيرة، حيث لم يكن هناك أيُّ يقينٍ على الإطلاق من أنَّ إسرائيل سوف تتعاون وتُقَيِّدُ نفسها بمستوياتِ العنف التي حدّدها الحزب.

الأهم من ذلك، أنَّ الصراعَ في لبنان يعني ضمنًا بشكلٍ شبه مؤكّد أنه سيتمّ البحث عن ترتيباتٍ جديدة على طول الحدود اللبنانية-الإسرائيلية في النهاية، ما يعني أنَّ “حزب الله” سيتعيَّن عليه أن يتصارَعَ مع ديناميكياتٍ قد تُغَيِّرُ الوضعَ الراهن المُريح الذي استفاد منه قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر). بمعنى آخر، إذا كانت هجمات “حماس” تم تخطيطها وتنسيقها من قبل إيران، فإنها دفعت “حزب الله” إلى وضعٍ شديد التقلّب، وهو ما انعكس في مفردات التهدئة التي أطلقها الأمين العام للحزب، السيد حسن نصر الله، في الأسابيع التي تلت الهجمات، مما أظهر رغبة قوية في تجنّب الأسوَإِ.

وبحسب وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، فإنَّ إسرائيل لن توقف قصفها على طول الحدود مع لبنان إذا كان هناكَ توقّفٌ للقتال في غزة. لأشهرٍ عدة، كان غالانت يلعب دور الشرطي السيّئ على جبهة لبنان، ويُهدّدُ بإعادة البلاد إلى عصورِ ما قبل التاريخ. وفي الوقت نفسه، التزم الإسرائيليون بشكلٍ أو بآخر بقواعد اللعبة أو قواعد الاشتباك غير المكتوبة على طول الحدود، حتى ولو قاموا في بعض الأحيان بتوسيع هامش هجماتهم، كما حدث عندما اغتالوا مسؤول “حماس” صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت.

في مقابلةٍ جرت في 18 كانون الثاني (يناير)، صرّحَ غادي آيزنكوت، الوزير في حكومة الحرب الإسرائيلية، أنَّ حكومة الحرب أوقفت هجومًا على لبنان، وهو ما كان من شأنه أن يكونَ “قرارًا غير صحيح للغاية… وخطأً استراتيجيًا خطيرًا جدًا”. لذلك، لا يوجد إجماعٌ بين القادة الإسرائيليين على توسيع الحرب مع لبنان، ما يشيرُ بقوة إلى أنَّ تحذيرات غالانت المُرَوّعة مُصمَّمة لتشكيل نتائج المفاوضات أكثر من كونها إشارةً إلى حربٍ برّية وشيكة.

ولكن لا يُمكِنُ استبعادُ نشوب حربٍ برية بشكلٍ كامل. بمجرّد انتهاء حرب غزة، ستحتاج إسرائيل إلى إعادة سكان الجليل إلى المنطقة الحدودية. المشكلة هنا هي أنَّ الكثيرين غير راغبين في العودة نظرًا لوجود “حزب الله” في مكانٍ قريب. وكما قال أحد المسؤولين المحليين في الشمال: “نحن نطالب بحلٍّ عسكري سياسي مسؤول يريح السكان. ليس لدينا أي تسامح مع الحلول المؤقتة”. وهذا يعني أنه لا بدَّ من التوصّلِ إلى نوعٍ من الاتفاق بشأن المنطقة الحدودية الأوسع، حيث أن هناك أيضًا عشرات الآلاف من المواطنين اللبنانيين الذين نزحوا بسبب القتال والذين سيحتاجون أيضًا إلى العودة. وإلى أن تحصل إسرائيل على الامتيازات التي تسمح لها بإعادة سكان الشمال إلى ديارهم، فلن يكونَ لديها أي حافز لجعل الحياة مُحتَمَلة في جنوب لبنان بالنسبة إلى اللبنانيين الراغبين في العودة إلى بلداتهم وقراهم.

ويطرحُ هذا الواقع مشاكل ل”حزب الله”. بينما يستطيع الحزب تدمير البلدات الإسرائيلية متى شاءَ ردًّا على القصف الإسرائيلي، فإنَّ حقيقة إخلاء القرى الجنوبية من سكانها قد أعطت إسرائيل ودولًا أخرى، مثل الولايات المتحدة، المزيد من النفوذ للتوصّلِ إلى حلٍّ في المنطقة الحدودية. وهذا قد يُجبِرُ “حزب الله” على تقديم تنازلات، على الأقل إذا كان يسعى إلى تجنّبِ حربٍ كبرى في لبنان – وهو ما يفعله. لكن هل يمكن للحزب أن يكون سعيدًا بهذا الوضع؟

لقد رفض “حزب الله” مناقشة تفاصيل أي ترتيبات حدودية حتى الآن، قائلًا إنَّ كلَّ هذه المناقشات يجب أن تنتظرَ نهاية حرب غزة. لكن الحزب سيأخذ في الاعتبار التنازل الواضح من المبعوث الأميركي عاموس هوكستين لتشجيع انسحاب “حزب الله” من الحدود. بدلًا من مطالبة الحزب بالانسحاب إلى ما وراء نهر الليطاني مسافة 30 كيلومترًا من الحدود (وهو الشرط المنصوص عليه في قرار مجلس الأمن رقم 1701 وكذلك الطلب الإسرائيلي)، إقترَحَ هوكستين، حسب تقارير صحافية عدة، أن ينسحبَ “حزب الله” حوالي 7 كيلومترات. وبينما يُقال إنَّ “حزب الله” رفض ذلك، فإنَّ ردّه من المُمكن أن يكون موقفًا افتتاحيًا، لأنه عندما اقترحه هوكستين، لم يكن يدرس تنازلات متبادلة. ومع ذلك، بمجرّد أن تبدأ المفاوضات بشكلٍ جدي، فمن الممكن، بل من المرجح، أن يفكر “حزب الله” في صفقةٍ شاملة يمكن أن يأخذَ منها شيئًا في المقابل. وبالفعل، يستطيع الحزب أن يرى أنَّ المبعوث الأميركي قد ابتعد من القرار 1701، وهو في حدِّ ذاته مكسبٌ كبير.

والتركيز الرئيس للحكومات الغربية التي تبحث عن حلٍّ في لبنان هو إعطاء دور قيادي للجيش اللبناني في أيِّ اتفاقٍ بَعدَ الحرب. يبدو أنَّ الحديثَ عن خططٍ لإنشاءِ فوجٍ إضافي في قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، “يونيفل”، لحراسة الأبراج الحدودية، كما أوردت صحيفة “الأخبار” اليومية المؤيدة ل”حزب الله”، غير صحيح. وكما قال أحد الأشخاص المُطّلعين على التفكير الغربي بشأن الجنوب: “يتعلق الأمر أكثر بدفع [القوات المسلحة اللبنانية] إلى بسط سيادة الدولة إلى منطقةٍ يوجد فيها خطُّ اتصالٍ غير مُستدام. إن النمط الحالي بين إسرائيل و”حزب الله” لا يمكن أن ينتهي إلّا بإحدى طريقتين. إما أن يكونَ انسحابًا مُتفاوضًا عليه شمال نهر الليطاني، أو على الأقل إلى منطقة عازلة بطول 7 كيلومترات شمال الخط الأزرق، وإدخال [القوات المسلحة اللبنانية]… [أو سيكون انسحابًاً] بواسطة حرب واسعة النطاق].

وأضاف ذلك الشخص: “هناك رغبة، إن لم يكن قرارًا، في رؤية [الحل التفاوضي] يحدث. على الأقل في ما يتعلق بالأطراف المتحاربة، هناك تفضيلٌ لهذا الأمر كأداةٍ للتخفيف من حدة الصراع، ولكن هناك الكثير من العقبات”.

بالنسبة إلى “حزب الله”، فإنَّ الحتمية في هذه الملاحظة –حقيقة أنَّ الصراعَ على الحدود الجنوبية يجب أن ينتهي إمّا من طريق حلٍّ تفاوضي (وهو ما يعني بالتأكيد ترتيبات حدودية جديدة) أو الحرب– هي أمرٌ حاول الحزب تجنّبه. منذ البداية، يبدو أنَّ “حزب الله” كان ينظر إلى الصراع في الوضع المثالي باعتباره فترة فاصلة بين وضعَين قائمين، ولهذا السبب كان متردّدًا في مناقشة أيِّ شيء نهائي قبل انتهاء الحرب في غزة.

مع ذلك، فإنَّ المزاجَ السيئ في إسرائيل ليس من الأمور التي يمكن ل”حزب الله” أن يتجاهلها بسهولة. لقد خلقت هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، التي حقّقت نجاحًا كبيرًا من وجهة نظر “حماس”، خوفًا وجوديًا في إسرائيل كان من المتوقع أن يُخلّفَ دائمًا انعكاساتٍ عميقة على الجبهة اللبنانية، وخصوصًا بمعنى تشجيع القادة الإسرائيليين على القضاء على خطر “حزب الله” في الشمال. ولتجنّب ذلك، قد يجد الحزب نفسه مضطرًا إلى قبول تفاهماتٍ جديدة لدَرءِ صراعٍ أوسع.

لا شكَّ أنَّ حربَ الحدود قد دفعت “حزب الله” أيضًا إلى توضيح الغموض البنّاء الذي أحاط باستراتيجية “توحيد الساحات” التي ينتهجها الحزب وإيران. من المؤكد أن الإيرانيين تمكّنوا من إظهارِ مدى نفوذهم الإقليمي، وقدرتهم على ممارسة الضغوط على الإسرائيليين والأميركيين في وقتٍ واحد من لبنان واليمن والعراق، حتى مع بقاءِ حليفتهم “حماس” على قيد الحياة على الرُغم من أشهرٍ من القصف الإسرائيلي المُدمّر. ولكن في الوقت نفسه فإنَّ ضبط النفس الذي يمارسه “حزب الله” وتصويره للبنان باعتباره مجرّد “جبهة دعم” ل”حماس” في غزة قد سلط الضوء أيضًا على القيود التي تعيب استراتيجية “توحيد الساحات”. وقد أدى هذا إلى تسليط الضوء على تقييم “حزب الله” بأنَّ الحرب الموسَّعة في لبنان قد تدمّر البلاد إلى الحدّ الذي قد يؤدي إلى تأليب معظم اللبنانيين ضد دور “المقاومة” الذي يلعبه “حزب الله”. وقد يشجع مثل هذا الاستنتاج الإسرائيليين على رؤية المزايا في الدخول في حربٍ كبرى، في حين يظهر أيضًا أنَّ مفهوم “توحيد الساحات” قد يكون مفهومًا منقوصًا للغاية بمجرد أخذ نقاط الضعف الداخلية في الاعتبار.

من خلال خلق ديناميكيات قد تؤدّي إلى تقويض الوضع الراهن، ومن خلال فرض الوضوح غير المرغوب فيه على استراتيجية “توحيد الساحات”، ربما لم تكن عملية “حماس” موضعَ ترحيبٍ بالنسبة إلى “حزب الله”، على الأقل في توقيتها. يمكن للوضع في لبنان أن يسيرَ في اتجاهاتٍ عديدة، ولكن مع تدمير غزة وقدرة “حماس” و”الجهاد الإسلامي الفلسطيني” على تحييد إسرائيل عسكريًا في الوقت الحاضر، حتى لو تمكن “حزب الله” من تجنّب هجوم إسرائيلي كبير في الجنوب، فمن الصعب الإستنتاج بأنَّ 7 تشرين الأول (أكتوبر) قد جلب للحزب الكثير من الفوائد.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى