لماذا قد تكونُ سياسةُ تركيا في سوريا على وَشَكِ التغيير؟

مع اقترابِ مَوعِدِ الانتخابات البلدية في تركيا، تشعرُ حكومة رجب طيّب أردوغان بأنها تواجهُ وَضعًا خطيرًا يَفرُضُ عليها تدخّلًا عسكريًا جديدًا.

“وحدات حماية الشعب”: هل تتركها أميركا فريسة للثلاثي: تنظيم “الدولة الإسلامية، نظام الأسد وتركيا؟

فرانشيسكو سيكاردي*

هناكَ خيوطٌ تتكشّف في شمال سوريا وشمال العراق والمنطقة الأوسع، الأمرُ الذي قد يدفع القيادة التركية إلى مراجعة سياستها تجاه سوريا.

لقد أصبح من المُعتاد تقريبًا عشية أية انتخاباتٍ رسمية في تركيا أن تُصَعّدَ الحكومة التي يقودها الرئيس رجب طيّب أردوغان خطابها بشأنِ التهديدات الأمنية الصادرة عن الحدود التركية-السورية. في 31 آذار (مارس)، ستتوجه تركيا إلى صناديق الاقتراع لتجديد إداراتها البلدية.

وكما هو الحال دائمًا، فإنَّ شمالَ سوريا هو المكانُ الذي تلتقي فيه طموحات تركيا الإقليمية بالواقع على الأرض. من خلال أربع عملياتِ تَوَغُّلٍ في الأراضي السورية في الفترة 2016-2020، احتلت تركيا مساحاتٍ واسعة من الأراضي بهدف تحييد التهديد الصادر عن حزب العمال الكردستاني، الجماعة المتمردة الكردية المسلحة الموجودة جنوب الحدود التركية مباشرةً في كلٍّ من سوريا والعراق.

على الرُغمِ من كلِّ الجهودِ العسكرية التي تبذلها أنقرة، لا تزال المنطقة خطيرة للغاية بالنسبة إلى القوات التركية. في الشهر الفائت، قُتِلَ 21 جنديًا تركيًا في هجماتٍ متكررة قام بها حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، حيث أنشأت تركيا قواعد عسكرية لمواصلة القتال ضد الجماعة الكردية داخل الأراضي العراقية.

وردًّا على هذه الهجمات، شنّت تركيا ضربات جوية ضدّ المُسَلّحين الأكراد في شمال العراق وضد مواقع قوات سوريا الديموقراطية في شمال سوريا. وتُهيمن “وحدات حماية الشعب” على قوات سوريا الديموقراطية، وهي ميليشيا كردية سورية تعتبرها تركيا امتدادًا لحزب العمال الكردستاني.

لا شيءَ من هذا جديد. تقصفُ تركيا شمال سوريا منذ سنوات. لكن أنقرة استهدفت في الماضي أهدافًا عسكرية ضمن دائرة يبلغ نصف قطرها 10 كيلومترات من الحدود التركية-السورية. وقد تغيّرت هذه الاستراتيجية الآن، مع قصفِ مواقع أعمق بكثير داخل الأراضي السورية لضرب أهدافٍ في الحسكة وحلب والرقّة. ولا تستهدف الهجمات التركية الآن الأهداف العسكرية فحسب، بل تستهدف أيضًا البنية التحتية المدنية، مثل مصافي النفط ومحطات الطاقة، التي يُنظَرُ إليها على أنها تَدُرُّ إيراداتٍ لحزب العمال الكردستاني. والهدف هو تجفيف مصادر تمويل هذا الحزب في سوريا، والإظهار بأنَّ وجودَ الجماعة المسلّحة يضرّ بأمن الإدارة الذاتية التي تديرها قوات سوريا الديموقراطية في شمال وشرق سوريا.

مثل هذا التغيير في الإستراتيجية هو أمرٌ قد يضع تركيا على مسارٍ تصادُمي مع القوى الأخرى التي تلعب دورًا في سوريا –روسيا وإيران والولايات المتحدة. والجدير بالذكر أن استخدامَ حقّ النقض (الفيتو) من قبل موسكو وواشنطن قد حال حتى الآن دون توغُّلٍ تركي خامس في شمال سوريا. وقد يتغيّرُ ذلك قريبًا: “إن شاء الله، في الأشهر المقبلة، سنتَّخذ خطواتٍ جديدة في هذا الاتجاه بغضِّ النظر عمَّن يقول ماذا”، قال أردوغان في الشهر الماضي.

هذا النوع من الخطاب المتحدّي ليس بالأمر غير المعتاد من جانب الرئيس التركي. في لبِّ المشكلة اتهاماتُ أنقرة لروسيا والولايات المتحدة بأنهما لم تفيا بوعودهما في سوريا. في العام 2019، تعهّدت الدولتان بتطهيرِ شريطٍ من الأرض يبلغ طوله 30 كيلومترًا على طول الحدود التركية-السورية من وجود “وحدات حماية الشعب”. ومع استمرار نشاط هذه الوحدات على طول الحدود، تشعر تركيا بأنَّ لها الحق في التدخّل في سوريا لحماية أمنها. وبينما استخدمت روسيا والولايات المتحدة حق النقض ضد عمليةٍ عسكرية تركية في الماضي، فإنَّ التوترات الدولية في المنطقة وحولها هذه المرة قد تصبُّ في مصلحة أنقرة.

بالنسبة إلى روسيا، يظلُّ إحياءُ العلاقات بين الحكومة التركية والنظام السوري أولوية. ولكن مع استمرارِ الحرب في أوكرانيا، تتطور العلاقة بين موسكو وأنقرة. وتجري الآن صياغةُ علاقاتٍ أعمق في مجالَي الاقتصاد والطاقة، حيث يعتمد الكرملين على تركيا للحصول على مستوى مُعَيَّن من الدعم لتخفيف تأثير العقوبات الدولية. وفي ظلِّ هذه الظروف، فإنَّ تقديمَ تنازلاتٍ لأنقرة في سوريا ليس أمرًا مُستَبعَدًا.

ويُشَكّلُ وجودُ القوات الإيرانية في سوريا، التي تدعم نظام الرئيس بشار الأسد، عقبةً أخرى أمامَ وجودٍ تركي أقوى في البلاد. وبينما تستمر الخلافات بين أنقرة وطهران، أشار زعماء البلدين في القمة التركية-الإيرانية الأخيرة إلى التقارب التدريجي لمصالحهما الإقليمية – التي يجمعها دعمهما للفلسطينيين في غزة.

أخيرًا، قد يكون الانسحاب المُحتَمَل للقوات الأميركية من شمال شرق سوريا بمثابةِ تغييرٍ آخر لقواعد اللعبة بالنسبة إلى تركيا. ولن يقتصرَ الأمرُ على إزالةِ حق النقض الذي تمارسه واشنطن على عملية تركية أخرى في المنطقة؛ ولكن أيضًا يضعف موقف “وحدات حماية الشعب”، التي ستفقد داعمها الرئيس وستُترَكُ لمواجهةِ تهديدٍ ثُلاثي من تنظيم “الدولة الإسلامية”، ونظام الأسد، وتركيا. وقد تأكّدت شائعة الانسحاب من مصادر غير رسمية، لكن وكيلة وزارة الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند نفتها رسميًا خلال زيارةٍ قامت بها أخيرًا إلى تركيا. وأشارت نولاند بدلًا من ذلك إلى المصلحة المشتركة بين الولايات المتحدة وتركيا في محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا، مما يشير إلى أنهما يمكن أن يعملا معًا في المنطقة.

وعلى الجبهة الداخلية التركية، فإنَّ حَشدَ الجهودِ ضد حزب العمال الكردستاني من شأنه أن يعودَ بفوائد انتخابية على القيادة التركية. في الماضي، تم استخدام العمليات العسكرية في شمال سوريا كأداةٍ لحشد البلاد حول العَلَم. إنَّ الخطابَ حول مكافحة الإرهاب، ولكن أيضًا حول الحاجة إلى إنشاءِ مناطق آمنة داخل الأراضي السورية لإعادة ملايين السوريين النازحين حاليًا في تركيا، سوف يتردّد صداه لدى قاعدة الائتلاف الحاكم.

ومع اقترابِ موعد الانتخابات البلدية المحلية، فمن الطبيعي أن نتوقع أن تقوم الحكومة التركية بتفجير خطابها المناهض للأكراد. ومع ذلك، هناك حالة أخرى قد نشهد فيها العلامات الأولى لتغيير الاستراتيجية. واعتمادًا على حساباتها الانتخابية، قد تبدأ القيادة التركية مغازلة جُزءٍ من الناخبين الأكراد. ويبدو أنَّ الأحداثَ الأخيرة، مثل التنازلات المُقَدَّمة للزعيم الكردي المسجون صلاح الدين دميرتاش ودعوات كبار القادة الأكراد إلى استئناف عملية السلام، تشير إلى هذا الاتجاه.

في الآونة الأخيرة، كان القرار الذي اتخذه حزب المعارضة الكردي الرئيس “حزب الشعوب الديموقراطي”، بتقديم مرشحه لانتخابات رئاسة البلدية في إسطنبول بمثابة تغيير في قواعد اللعبة. إنَّ جبهة المعارضة المُنقَسِمة تُقَوِّضُ فُرَصَ فوز رئيس البلدية الحالي أكرم إمام أوغلو. ولزيادة الفرص الانتخابية لحزب الشعوب الديموقراطي، يمكن لأردوغان أن يتبنّى سياسةً كردية أكثر واقعية – في تركيا وخارجها.

واستنادًا إلى روايةٍ كلاسيكية إيطالية قديمة، وهي رواية “الفهد” للكاتب جوزيبي دي لامبيدوزا، فإنَّ ما شهدناه في شمال سوريا في السنوات الأخيرة هو أنَّ “كلَّ شيءٍ يجب أن يتغيَّرَ حتى يظلّ كلّ شيءٍ على حاله”. وتظل أهداف تركيا طويلة المدى تجاه دمشق كما هي: إنشاءُ منطقةٍ عازلة خالية من حزب العمال الكردستاني على طول الحدود التركية-السورية، وإيجادُ طريقةٍ لإعادة جُزءٍ من النازحين السوريين الذين انتقلوا إلى تركيا. ويبقى أن نرى ما إذا كانت أنقرة على وشك تحديث تكتيكاتها واستراتيجياتها لتحقيق ذلك.

  • فرانشيسكو سيكاردي هو مدير أول للبرامج ومحلل أبحاث أول في مؤسسة كارنيغي أوروبا.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى