“حزامُ” الصين و “مَمَرُّ” الهند وما بينهما …

محمّد قوّاص*

أن يُعلَنَ في 9 أيلول (سبتمبر) الجاري عن “الممرّات الدولية الخضراء” على هامش قمة مجموعة دول العشرين في نيودلهي، ففي ذلك رسائل عديدة تفصح عن رؤيةٍ مختلفة لعالمِ الغد تتناقضُ مع المشهد الدولي الحالي المتوتّر، سواء في ما يجري في أوكرانيا أم في ما تشي به توترات الغرب مع الصين في منطقة الإندو-باسفيك أم ما يتسرّب من حروب صغيرة أو كبيرة في العالم.

على هامش تلك القمة، تمّ التوقيع على الاتفاق المبدئي الخاص بالمشروع بين الولايات المتحدة والسعودية والإمارات والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا وإيطاليا. ولئن تقصّد الرئيس الأميركي جو بايدن توجيه شُكرٍ مُكرَّر لرئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد، فتلك إشادة واعتراف من واشنطن برؤيةٍ إماراتية خليجية دفعت باتجاه تحويل الفكرة إلى مشروعٍ عملاقٍ طموح.

يتألف المشروع من ممرَّين مُنفَصِلَين هما ” الممر الشرقي ” الذي يربط الهند مع الخليج العربي و”الممر الشمالي” الذي يربطُ الخليج بأوروبا. وتشمل الممرّات سكة حديد ستُشكِّل بعد إنشائها شبكة عابرة للحدود من السفن إلى السكك الحديدية، لتكملة طرق النقل البرية والبحرية القائمة لتمكين مرور السلع والخدمات.

ومَن يبشّر بمدّ خطوط الوصل بين الشرق والغرب يفترض أنه يتموضع على قواعد أخرى لتسيير هذا العالم. وإذا ما كان شرط البقاء هو تسريع سبل التجارة ونقل التكنولوجيا والانتقال الجماعي إلى الطاقة النظيفة، فإنَّ ذلك يعني، مبدئيًا ونظريًا، تقادم نظريات “صراع الأمم” بصفته زبدة الحياة وتعايش الشعوب منذ بدء الوجود. هنا تصف رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون در لايين، المشروع بأنه “أكبر بكثير من مجرد سكك حديد أو كابلات”، مشيرة إلى “جسرٍ أخضر ورقمي بين القارات والحضارات”.

يَعِدُ المشروعُ بمدِّ خطوطٍ للسكك الحديدية، وربط الموانئ البحرية، لتعزيز التبادل التجاري وتسهيل مرور البضائع. ويخطط المشروع إلى تطوير عملية نقل الكهرباء المتجددة والهيدروجين النظيف عبر كابلاتٍ وخطوط أنابيب، من أجل تعزيز أمن الطاقة، ودعم جهود تطوير الطاقة النظيفة. ويشمل المشروع طموحات لتنمية الاقتصاد الرقمي عبر الربط والنقل الرقمي للبيانات من خلال كابلات الألياف البصرية.

الحدث يعيد تأكيد الدور الجيوستراتيجي الذي باتت دول الخليج تلعبه لرسم معالم العالم في نسخته الراهنة أو تلك التي تخطط لعالم الغد، سواء تلك التي تنطلق من الصين وتَعِدُ الناس بفلسفة “الحرير” أم تلك المفترض أن تنطلق من الهند وتبشّر الحضارات بالزمن “الأخضر”. وأيًّا تكن الخيارات التنموية الكبرى التي سيتم اعتمادها، فإن دول مجلس التعاون الخليجي باتت الممر الجغرافي والسياسي والمالي لإنجاز الأحلام ونقلها من الخرائط إلى الميادين.

يختصر المشروع مدة نقل البضائع من الهند إلى أوروبا بنسبة 40 في المئة. وينقل النفط والهيدروجين الأخضر من الخليج ويمر الممر بالأردن وإسرائيل باتجاه أوروبا. ولا يستثني الممر قناة السويس، وفق خبراء، بل ستكون، وهي التي تنقل حاليا 13 في المئة من التجارة العالمية، ضرورة للممرات وجُزءًا منها.

تعيد ممرات الهند، الشرقية والشمالية، إلى أوروبا، بشكل أو بآخر، رسم خرائط جديدة للشرق الأوسط. يكفي للمراقب تأمّل خطوط السكك الحديد وخطوط ربط الموانئ لاستشراف مستقبل دول المنطقة الذي سيصبح بنيويًا في التأثير في مستقبل العالم أجمع.

لكن أسئلة تدور بشأن تفاصيل نقل ما هو اتفاق مبدئي إلى التنفيذ العملي بما يتطلبه من تفاصيل، لا سيما مالية، لوجيستية وسياسية، تمّ الوعد بالكشف عنها خلال 60 يومًا.

يقول البيت الأبيض بشأن إعلان “الممر” الكبير بين الهند وأوروبا: “نريد إطلاق حقبة جديدة متّصلة عبر شبكة سكك حديد، وربط الموانئ في أوروبا بالشرق الأوسط وآسيا”. ويذهب الرئيس الأميركي جو بايدن أبعد من ذلك بالقول إن المشروع “سيغير قواعد اللعبة”. لكن ما هي هذه اللعبة؟

قد يكون استسهالًا رؤية مشروع “الممرات الرقمية والخضراء” بصفته خطة مواجهة ومنافسة للمشروع الذي تدفع به الصين وفق ما ترسمه خطوط مبادرة “الحزام والطريق”. وقد يكون غياب الزعيم الصيني تشي جين بينغ عن قمة العشرين في نيودلهي، وما أثاره ذلك من لغط وجدل، سببًا لقراءة “الممر الهندي” كدربٍ معاند لـ”الحزام الصيني”. فهل هذه القراءة دقيقة؟

لا يمكن تبسيط الحدث واعتباره شأنًا لا علاقة له بالصراع الذي بات أولويًا واستراتيجيًا بين الصين من جهة والغرب عامة بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى. ولا يمكن عدم الربط بين خلاف الصين والهند (الذي لم تستطع مداولات مجموعة “بريكس” إخفاءه وتجاوزه ومداراته) والخطوط الدولية التي تخرج من الهند وتتبارى عمليًا مع تلك التي تخرج من الصين.

بالمقابل فإن “الممرات الخضراء” غير قابلة للحياة من دون الصين أو في ظل صراع قد يصبح عسكريًا معها. والأمر ينسحب على خطوط الحرير الصينية التي تنشد السلم والتعاون لتمددها وسيبقى حلمها متواضعًا في حال استمر العالم في استشراف مستقبله على أساس “لعبة الأمم” أو “صراع الحضارات” أو أي فلسفة لا ترى الدول إلّا من عينٍ تقليدية تقرأ العالم بمعايير الاصطفافات المتقابلة.

وتبقى المشاريع الكبرى أحلامًا نقيض الواقع والحقيقة. وإلى أن تسلك الخطط طرق التنفيذ، فإن حسابات وشروط ومستجدات طارئة قد تعيد ترتيب الأولويات وتحدِّث وتطوّر وتعدّل حتى أسس كل المشاريع. وإذا ما تستغرق مشاريع “الممرات” من جهة و”الطريق” من جهة أخرى إلى سنوات وعقود لشقّها وجعلها “واقعا وحقيقة”، فإن تنفيذها يحتاج إلى رسمٍ آخر لهذا العالم، وقد تتطلب ضرورات خرائطه المرور بمراحل موجعة من الصدام والمواجهة.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى