مَعالمُ حَلٍّ في لبنان؟

مع استمرار حرب إسرائيل على غزة، يحاول العديد من الدول تثبيت الاستقرار على الحدود الإسرائيلية-اللبنانية.

“فرقة الرضوان” التابعة لـ”حزب الله”: إسرائيل تريدها وراء نهر الليطاني

مايكل يونغ*

تُريدُ إسرائيل أن تخلقَ صحارى حولها وتُسمي ذلك سلامًا. منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) بدا واضحًا لقيادتها، أبعد من الخلل الأمني الإسرائيلي، أنَّ المشروعَ الصهيوني وصلَ إلى طريقٍ مسدود. لقد حاول السياسيون الإسرائيليون على مدى عقودٍ محو الوجود الفلسطيني من وسطهم ومن حولهم، ومع ذلك بقي الفلسطينيون. يعيش نحو 5 ملايين نسمة منهم الآن بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، إضافةً إلى مليوني عربي داخل إسرائيل. أدرك الإسرائيليون بهدوء أنه بدون مشروعِ تطهيرٍ عرقي كبير، فإنَّ مُعدّل المواليد الفلسطيني المرتفع سوف ينقلب ضدهم ببطء، حيث يبلغ عدد السكان اليهود في إسرائيل حاليًا حوالي 7 ملايين نسمة.

مع ذلك، فإن هذه المخاوف لم تأتِ معزولة ومن العدم. بالنسبة إلى الإسرائيليين فإن الأغلبية الديموغرافية الفلسطينية الناشئة في إسرائيل والأراضي المحتلة تُشَكّلُ خطرًا أعظم لأنها مدعومةٌ من قِبَل ميليشيات مُسَلَّحة تسليحًا جيدًا على الحدود مع إسرائيل، وفي المقام الأول “حزب الله”، الذي يحظى بدوره بدعمٍ من قوةٍ إقليمية، إيران. ولهذا السبب يرغب بعض الساسة الإسرائيليين اليوم في توسيع نطاق الحرب في غزة لتشمل لبنان، على افتراض أنَّ تغطيةَ الولايات المتحدة لإسرائيل في غزة قد تُوَفّرُ فرصةً لعمليةٍ عسكرية كبرى في الشمال.

من المؤكّد أن هناك خوفًا بين بعض المسؤولين الأميركيين من أنَّ إسرائيل تعتزم استخدام الأسلحة التي تلقّتها من واشنطن في حربٍ ضد “حزب الله”. ومع ذلك، فإن فكرة إعطاء الأميركيين الضوء الأخضر لمثل هذه الحرب تبدو غير مُرَجَّحة في الوقت الحالي، لأسبابٍ ليس أقلها أن هناك احتمالاتٍ كبيرة بأن تتوسّعَ هذه الحرب لتتحوَّل إلى حريقٍ إقليمي أوسع يجذب الولايات المتحدة وإيران. منذ بداية حرب غزة، انخرطت إدارة جو بايدن وإيران في محادثاتٍ عبر قنواتٍ خلفية، ما أدّى إلى إبقاء الوضع في لبنان في حالةٍ من الاستقرار غير المُستَقِرّ، حيث يهاجم “حزب الله” وإسرائيل بعضهما البعض، وإن كان ذلك ضمن ما يُنظَر إليه على أنه قواعد اشتباك بخطوط حمراء.

لكن هل الإسرائيليون مطمئنون حقًّا على هذه الجبهة؟ من المحتمل تمامًا أنهم سيسعون إلى إثارة صراع في لبنان ودفع إدارة بايدن إلى اتخاذِ خيارٍ صعب إما مساعدتهم، أو دفع الثمن السياسي لفشلها في القيام بذلك. سيكون ذلك محفوفًا بالمخاطر للغاية، بطبيعة الحال، لأسبابٍ ليس أقلها أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يُنظَرُ إليه من قِبَلِ البعض في واشنطن باعتباره شخصًا لديه مصلحة في توسيع الصراع في المنطقة لإنقاذ جلده السياسي.

وكما أوضح أحد مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية لموقع “هافينغتون بوست”، “إن هذه لحظة محورية في التاريخ، ويجب أن نشعر بالغضب إزاء الطريقة التي أضرم بها نتنياهو النار بسمعتنا حرفيًا لتعزيز أجندته السياسية الشخصية. إن الآثار الجانبية على الأمن الأميركي لها عواقب وخيمة للغاية”.

لا الأميركيون ولا الفرنسيون يخاطرون مع إسرائيل. قبل بضعة أسابيع، أرسلت إدارة بايدن عاموس هوشستاين إلى بيروت لإيصال رسالة إلى “حزب الله” مفادها أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى حربٍ في لبنان. وبحسب ما ورد سعى هوشستاين، الذي ساعد في التفاوض على الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، إلى التفاوض أيضًا بشأن الحدود البرية للبلدين، على الرغم من أن التقارير الصحافية في ذلك الوقت أشارت إلى أن “حزب الله” لم يكن مُستعدًا بَعد لذلك.

ولكن، يبدو الوضعُ اليوم محفوفًا للغاية بالمخاطر لأسبابٍ عدة. أوّلًا، حتى لو انتهى الصراع في غزة بوقف إطلاق النار، فقد لا يتم التوصّل إلى أيِّ ترتيبٍ رسمي مُماثل لتهدئة الجبهة في لبنان. بعبارةٍ أخرى، يمكن لإسرائيل أن تحتفظَ بالحرية لمواصلة ضرب أهدافٍ في البلاد، ثم المطالبة بتنازلاتٍ مُقابل إنهاء حملتها العسكرية. ومن بين هذه التنازلات، فإن الأرجح هو تأمين انسحاب وحدات “حزب الله” إلى ما وراء نهر الليطاني، ما يسمح للإسرائيليين الذين يعيشون بالقرب من الحدود الشمالية بالعودة إلى منازلهم.

وينسجمُ الطلب الإسرائيلي مع قرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي أنهى حرب لبنان في العام 2006. ودعا القرار إلى “وضع ترتيباتٍ أمنية لمنع استئناف الأعمال العدائية، بما في ذلك إنشاء منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني خالية من أيِّ أفراد مسلحين وأصول وأسلحة بخلاف تلك التابعة للحكومة اللبنانية و”قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان” (اليونِفيل)”. فضلًا عن ذلك فقد صرّحَ رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي أخيرًا بأنَّ لبنان مُلتَزِمٌ بالقرار رقم 1701. أو بعبارة أخرى، قد يكون من الصعب على “حزب الله” أن يرفضَ مبادرة إعادة الانتشار بعيدًا من الحدود إذا كان ذلك يعني الانتهاك العلني لقرار الأمم المتحدة الذي تؤيّده بيروت.

في الشهر والنصف الماضيين، أرسلت فرنسا أيضًا مسؤولين إلى لبنان لتجنّب تدهور الوضع هناك. أوّلًا، أرسلت باريس وزيرة الخارجية كاثرين كولونا، ثم وزير الدفاع سيباستيان لوكورنو، ثم المبعوث الرئاسي جان إيف لودريان، الذي كان تركيزه على تمديد ولاية قائد الجيش اللبناني، جوزيف عون، إلى ما بعد كانون الثاني (يناير) المقبل. وأخيرًا، في الأسبوع الفائت، كان رئيس جهاز المخابرات الخارجية الفرنسي، برنار إيميه، الذي ذكر بعض التقارير أنه يعمل بالتنسيق مع دولٍ عربية وغير عربية التي تتابع الأحداث في لبنان عن كثب، في بيروت لاقتراحِ حلٍّ ينهي القتال في جنوب لبنان ودفع قوات “حزب الله” إلى ما وراء الليطاني. وبحسب تقارير إعلامية، رفض الحزب ذلك، قائلًا إنه لن يتوّقف عن ضرب إسرائيل إلّا بعد انتهاء الصراع في غزة، وأنه عندما يحدث ذلك فإنَّ الوضعَ في لبنان يجب أن يعودَ إلى ما كان عليه قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر).

مع ذلك، هناك فرصةٌ لتسويةٍ تتناقض مع تراجع الحزب. يُزعَمُ أن إيميه، السفير الفرنسي السابق إلى لبنان، والذي يتمتّع باتصالاتٍ جيدة في البلاد، اقترح أن يقوم “حزب الله” بسحب وحدته الخاصة “فرقة الرضوان” إلى الليطاني. ماذا يعني ذالك؟ ما لم يتم تشكيل قوة تسيطر على كل شاب ورجل يدخل جنوب لبنان، وهو أمر شبه مستحيل، يمكننا أن نفترض أن أعضاء “فرقة الرضوان” سيعودون إلى المنطقة متى شاؤوا، حيث أن العديد منهم ينحدرون من هناك ولهم عائلات هناك. وقد حدث الشيء نفسه مع القرار رقم 1701 في العام 2006. وسرعان ما عاد “حزب الله” إلى جنوب الليطاني مرة أخرى، لأنه لم تكن لدى الجيش اللبناني ولا قوات اليونيفيل السلطة لمنع عودة أعضاء الحزب إلى قراهم.

يُدركُ “حزب الله” هذا الواقع، ولذلك يجب تفسير رده السلبي على إيميه بحذر. من المؤكد أنه غير راغب في الالتزام بوقف الأعمال العدائية قبل نهاية حرب غزة، ولكن بمجرد التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار، فمن المحتمل أن يكون “حزب الله” حريصًا على الموافقة على إنهاءٍ رسمي للقتال في لبنان، ولو فقط لتجنّب أيِّ غموض الذي قد تستغله إسرائيل لشنِّ حرب.

وسيكون السؤال الرئيس هو ما إذا كان الإسرائيليون على استعداد لقبول هذا الخداع. قد لا تبدو حكومة نتنياهو في مزاجٍ يسمح لها بذلك، لكن عوامل عدة تلعب لصالح موافقتها. أوّلًا، قد تُمثّلُ الحربُ مع “حزب الله” تصعيدًا إقليميًا كبيرًا، وهو ما قد يؤدي إلى دمار كبير في إسرائيل. ونظرًا للمعارضة الداخلية التي يواجهها نتنياهو، فإنَّ الدعمَ لحكومته قد يتقلّص إذا نظر الإسرائيليون إلى حرب لبنان باعتبارها جهدًا من جانب رئيس الوزراء لضمان بقائه السياسي. إن الحماسةَ الإسرائيلية لمُعاقبة “حماس” لا تمتد بالضرورة إلى “حزب الله”.

ثانيًا، الأميركيون لا يريدون حربًا في لبنان، خصوصًا في عامٍ انتخابي لبايدن. لقد واجه الرئيس الأميركي بالفعل ردودَ فعلٍ سلبية لأنه مَكَّنَ إسرائيل من شنِّ عمليةٍ لا ترحم في غزة، لذلك يبدو من غير المحتمل إلى حدٍّ كبير أنه سيعطي إسرائيل الضوء الأخضر لتمديد الحرب بطريقةٍ قد تشمل القوات الأميركية. لقد سئم الأميركيون الصراعات الخارجية التي لا نهاية لها، ومن المؤكّد أنَّ حربًا جديدة في الشرق الأوسط من شأنها أن تُغرِقَ محاولة إعادة انتخاب بايدن. علاوة على ذلك، تتمتع الإدارة الأميركية بنفوذٍ كبير يُمكِنها استخدامه في عملية صنع القرار الإسرائيلية. فهي تزود إسرائيل بالأسلحة التي تحتاجها لشنِّ الحرب، بل وقد تقرر أن البوارج العسكرية الأميركية لن تتدخل إذا أثارت إسرائيل صراعًا في لبنان بدون موافقة أميركية.

ثالثًا، إنَّ حربَ لبنان، وبخاصة تلك التي يُنظَر فيها إلى إسرائيل باعتبارها الطرف المُعتَدي، من شأنها أن تُثيرَ ردودَ فعلٍ غاضبة في مختلف أنحاء العالم أكثر بكثير من تلك التي تثيرها حرب غزة، التي أطلقت فيها “حماس” الطلقات الأولى. وهذا بدوره يمكن أن يُهدِّدَ المكاسب الإسرائيلية في غزة، ويُعقِّدُ الأهداف الإسرائيلية، ويجلب وضعًا جديدًا تمامًا لن تتمكّن قوة النيران الإسرائيلية وحدها من مواجهته وحلّه. ولتوسيع نطاق الحرب لتشمل لبنان، فربما تحتاج إسرائيل إلى الاستعداد لصراعٍ مع إيران أيضًا، ما قد يؤدي إلى مستوياتٍ قد لا يكون الإسرائيليون والأميركيون مستعدّين لمواجهتها.

إذا وافقَ “حزب الله” على سحب وحدته “فرقة الرضوان” من الحدود، علاوةً على الانضمام إلى الضغط الدولي لتمديد ولاية عون كقائدٍ للجيش اللبناني، فسوف يطالب بشيءٍ في المقابل. الإجماعُ اللبناني هو أنه سيطلب من محاوري لبنان العرب والدوليين تأييد سليمان فرنجية رئيسًا للجمهورية. إذا تمخض هذا عن صفقةٍ شاملة، فقد لا يكون أمام خصوم فرنجية المسيحيين خيار سوى الموافقة عليها.

على السطح، يمكن لمثل هذا الترتيب أن يُعطي شيئًا لجميع الأطراف، حتى لو ترك أسئلة من دون إجابة. على سبيل المثال، هل سيسمح “حزب الله” ل”حماس” أن تتعرّضَ لانتكاسةٍ كبيرة في غزة من دون أن يقوم بأيِّ ردِّ فعل؟ وحقيقة أن الحزب رفض مناقشة أي تنازلات قبل توقف القتال هناك تشير إلى عدم وجود ذلك. ولكن لنفترض أن رد فعله لا يزال محدودًا، إذ سيحصل “حزب الله” بعد ذلك على الرئيس الذي يريده، وستكون إسرائيل قادرة على تحقيق نوع من النصر في غزة، من دون رد فعل لبناني كبير، وإعادة مواطنيها إلى منازلهم في الشمال، وسوف يتجنب الأميركيون والإيرانيون حربًا إقليمية، كما سيتجنب لبنان الدمار، الأمر الذي يطمئن رعاة البلاد العرب والغربيين.

كلامٌ متفائل جدًا؟ ربما يكون ذلك مُمكنًا، ولكن يتعيّن على الإسرائيليين أن يُدركوا أن الأمنَ على حدودهم يعتمد في نهاية المطاف على كفاءة قواتهم العسكرية، وليس على حسن نية أعدائهم. إن توقع بقاء “فرقة الرضوان” منتشرة بشكل دائم بعيدًا من الحدود الإسرائيلية، مع مطالبة الجيش اللبناني واليونيفيل بتنفيذ ذلك، هو أمرٌ ساذج نظرًا للواقع اللبناني. ليس لدى إسرائيل مجالٌ كبير لتوسيع نطاق الصراع في غزة، لذا في ظلِّ هذه الظروف، ونظرًا للإدانة العالمية للمجازر التي ارتكبتها بالفعل ضد الفلسطينيين، فقد تضطر إلى أخذ ما يمكنها الحصول عليه.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى