“إذا ما إجا ظالم … بتِجي جَربوعة”

رشيد درباس*

كُلّما أمْعَنّا في الاستقلال نُمعِنُ في العبودية.
سمير عطاالله

الرهانُ أنواع، منها المُغامرة والمُقامرة والاحتراف. لكنه في السياسة يُبْنَى على وقائع ملموسة، ويُعزَّزُ بالحنكة والخبرة والبصيرة، فالسياسيُّ الفذُّ هو من يقرأ النتائج من أسبابِها، من غير تبصيرٍ ولا مراهنة، وما عدا ذلك قبض ريح، أشبهُ بما جاء على لسان “زياد الرحباني” في إحدى مسرحياته، حين راح يحاول إقناع مدير الفندق بتأجيره غرفة مؤكّدًا له أنَّ الأجرة سيقبضها فور فوز “ظالم” أو “جربوعة” في سبق الخيل؛ فكم طوت السنابك من أَوْهَامِ مراهنين! وكم داست على مصائر من وضعوا رواتبهم في قبضة “جوكي” بناءً على “تعليمة” أو منامات تزورهم في السَّحَر! وكم نشأت على هامش هذا المضمار زُمَرٌ تتكسّب من ادعائها معرفة الجواد المحمَّل بالمال في كل شوط، وهؤلاء أطلق عليهم لقب “المتَكَهِّنين”.

وفي القواميس أنَّ “كَهَنَ له” تعني قضى له بالغيب، ولقد كان في العرب كَهَنَةٌ، منهم من زعم أن له تابعًا من الجنّ يلقي إليه الأخبار، ومنهم من ادَّعى أنه يعرف الأمور بمقدمات يستدل بها على مواقعها، وهذا كانوا يَخُصُّونَه باسم العَرّاف. وسمَّت العرب كاهنًا كلَّ من تعاطى علمًا دقيقًا، فعدَّتِ الطبيب كالمنجّمِ كاهنًا.

لم تندثر مهنة الكهانة رُغمَ التطورات العلمية المذهلة، فما زال المنجّمون وأهل قراءة الطوالع، ملجأَ أفواج كثيرة ومشارب متعددة، فيها الجاهل والمؤمن بالماورائيات والعاجز الذي أعيته الوسائل المادية عن إنجاز ما يريد، فعاذ بِطاقةٍ خفية يتولّاها وسيطٌ روحاني، أو شيخٌ من أهل الكرامات، أو عفريتٌ مُستَتِرٌ في أعماقه.

وفي لبنان دأبَ بعضُ الشاشات على تسلية المشاهدين ليلةَ رأس السنة، بعَرضِ تكهناتِ نجومٍ لمعوا في المزاج العام لمعانًا أزهى من بريق السياسيين، فتصاعدت  أهميتهم على حساب خفوت أشعّة أهل السياسة والحكم، الذين أصبح بعضهم طُلابَ تكهنات، يستطلعون عبرَها دوريًّا آراء الناس بهم، أو يستخبرون عن مصائرهم عقبى ما ارتكبوا من فشل وتخريب. ذلك أن العقلَ البليد العاجز عن ابتكار الحلول أو قراءة الخرائط هو عقلٌ انتقائي، إذا وجد أن “نبوءةً” تَفَوَّهَ بها ميشال حايك أو ليلى عبد اللطيف قد تحقّقت، لجأ سريعًا إلى أحدهما لاستيلاد نبوءةٍ تخصُّه، متناسيًا أنَّ مَن يعتمد على برمجةٍ مُسبقة وَيُوَسِّع أطُر توقعاته، لا بدَّ له من أن يتكهّنَ بأمورٍ تحصلُ فعلًا. أما الوجدان العام الذي تَعْتَورُهُ حالات استسلام أو يأس من الواقع، فقد يتكيَّف أحيانًا مع ما يسمعه من أشخاص يقرَأون معارفهم في الغيب عن ورقةٍ مكتوبة، ولو أخطَأوا غالبًا في تلاوتها، في حين أن ذلك النوع من “المعرفة المتميِّزة” يعتمدُ على البداهة والاستشراف والومض الهابط عليهم من فوق. فيا ليت أهل الكشف نبّهونا إلى الأزمة المصرفية قبل وقوعها، أو ليتهم “رأوا” متى يكون لنا رئيس، وما صفاته: أَسِيادِيٌّ أم مُمانعٌ أو في منزلة بين بين، لكي نتمكّنَ من ترتيب أمورنا على قاعدة تلك البيانات.

كان الأمرُ ليهون لو اقتصرَ على “عَرَافَةٍ” تقع في باب السلوى والترويح. أما أن تُصبِحَ جِدًّا كاملًا متلبّسًا جهالة السياسيين، فتلك مشكلة عويصة تحتاج إلى تصدٍّ صريح ومعالجة صارمة، ذلك أن النواب الذين ينبغي لاسم الرئيس أن يخرجَ من أسِنَّةِ أقلامهم، يُبرّرون عجزهم عن كتابته على ورقة الانتخاب بفقدان المعلومة أو (تعليمة)، وشلل الإرادة، ويجيبون عن السؤال بسؤال، وهم ليسوا بأقلَّ من الشعب حَيرةً.

إن القوى السياسية المُوَزَّعة حتى التشظّي، قد استقالت كليًّا من واجب الابتكار الوطني، وقبعت في مواقعها تتبادل الخطابات النارية، مع علمها المسبق أن البلاغة وقوّة الحجّة والنبرة القوية والاستشهاد بالدستور وبالقوانين، أمورٌ لن تُكْسِب أيَّ فريق أرضًا جديدة على حسابِ فريقٍ آخر. وهنا أقول لكل من يأخذه الجَوُّ المحموم المسموم، الملغوم بدعوات الانفصالِ والنكوصِ إلى جغرافيات جديدة وثقافات هجينة، إن اللبنانيين لن يذهبوا إلى اقتتال طائفي مهما كانت الذرائع، لأنَّ الذين لم تُوَحِّدْهُم البحبوحة التي فَرَّطوا بها، وَحَّدَتْهُمْ الفاقة التي فرَّطَت بهم، وهم لن يمتشقوا البنادق لنصرةِ أذانٍ أو جرسٍ يناجيان الأجواء العالية، ويأنفان من النزول إلى حضيضٍ طائفيٍّ مُستهلك.

يقول نعوم تشومسكي: “استراتيجية الإلهاء عنصرٌ أساس في التحكّم بالمجتمعات، وذلك عبر وابلٍ متواصلٍ من المعلومات التافهة لتحويل انتباه الرأي العام عن المشاكل المهمة…”.

نحن أَدْمَنَّا الوقوف تحت هذا الوابل المتواصل من التفاهات الكاذبة، “فكل حزبٍ بما لديهم فرحون” من غير إيلاء الوطن الحزين أي اهتمام بدولته المخَلَّعة، وبالفقر الزاحف على بيوته كلها، حتى وصلت الأمور، أو كادت، إلى شفا الفوضى الشاملة التي لن يسيطرَ عليها أحد، لأن جميع التنظيمات مهما بلغت صلابتها، تنهار كلّيًا عندما تنهار السدود، ويعجز الجنود. فعجبًا كيف أن القوى السياسية، بدلًا من ذهابِها إلى منتصف الطريق لدرءِ الفوضى، شكّلت فرق اغتيال كامنة عند أيّ منعطف يمكن أن يطل برأسه منه مرشّح مُحتمل، سواء كان عسكريًّا أو اقتصاديًّا أو ذا رأي سياسي، كأنما عدنا إلى عصر القناصة ومناظيرهم الضَّالَّة.

لفتني أن رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة”، النائب محمد رعد، يزدري بكل ما يمتّ بصلة للبيوت المالية العالمية التابعة للاستكبار (على حد قوله)، فيما يُطْلَبُ من المرشح سليمان فرنجية سلسلة ضمانات لا يملك رئيسُ الجمهورية دستوريًّا أن يقدّمَها، وهي في حقيقتها تنازلات برسم “حزب الله” دون سواه، وهذا يورثُ الشك بأن إطلاق نار استباقيًّا جرى لا على “المرشح الاقتصادي” وحسب، بل على الحلّ الاقتصادي وعلى الزيارة الباريسية، ربما، للتخفيف من غلواء المبادرة الفرنسية ومتطلباتها.

هنا “وقف حمار الشيخ في العقبة” كما جاء في المثل، فالإعلامُ المُمانع الذي كفَّ عن مهاجمة السعودية كبادرةِ حسن نيّة تجاه الإنجاز الصيني، عَوَّضَ عن ذلك بإضرام النار المحلية عبر اتهام القوات بالسعي للتقسيم، في حين تطلب “القوات اللبنانية” من “الممانعة” رفع الراية البيضاء وإخلاء الساحة اعترافًا منها “بفشلها الذريع” في إدارة البلاد، فأيّ واقعية في هذا الجدل الذي يدلُّ على العجز عن إنتاج تسوية داخلية، استباقًا لتسويةٍ سَتُفرَض علينا في وقتٍ مقبل. ودليلي على هذا، أن ميزان القوى السياسي قبل العسكري الذي لا يسمح بانتصارٍ حاسم  لهذا أو ذاك، يُسقط هذه المقولات، وَيُنَبِّهُ أصحاب الرجاحة إلى ضرورة الخروج من المتاريس التي تَدَّعي التمسك بالمبدئية اللفظية  إلى حقل التسوية التي لا بدَّ منها.

لم يُقصِّر الشعب اللبناني في المبادرات، فقد رفض الاحتلال الإسرائيلي وهزمه، وأنجز انتفاضة الرابع عشر من آذار/مارس وأعطى قواها غالبية برلمانية راجحة، وهو الذي انتفض في تشرين الأول/أكتوبر، ثم وقف في الطوابير الطويلة ليوصل إلى المجلس النيابي، من الثقوب الضيقة لقانونٍ انتخابيٍّ طائفيٍّ لعين، بعضَ مرشّحيه الذين جَرَّعوه الخيبة، لأن المبادرات الشعبية إذا لم تواكبها قوى منظّمة براغماتية وفعالة، تتراخى نتائجها إلى زمن مقبل قد لا تستطيع انتظاره بنيتنا المتهالكة.

بعد هذا، أرى المحللين السياسيين الذين أَعْيَتْهم المعرفة، يلجأون إلى “عَرَافة” لا تقوم على تحضير الأرواح المحلية وإشعال البخور البلدي، لأنها انتقلت إلى الصيغة الدولية، فهذا يتكئ على ما قرأه في صمت سفير قابله، وذاك على حدسه بعد زيارة عاصمة أجنبية، وذلك يبتسم ويقول: كلمة السر عندي وليس لها تبديل. أما أنا، إن كان لي أن أدلي بدلوي، فإنني لا أضربُ بالمندل حين أَتَكَهَّنُ – في زمان الجهل والمجهولية – بأن الساسة اللبنانيين استقالوا من الفعل وإنتاج الصيغ، وراحوا يعِدون أنفسهم بما سوف يأتيهم بالظرف المختوم من غير المرور بقانون الشراء (الديموقراطي)، ذلك أن البند اللبناني في الملف الصيني لم تظهر معالمه بعد ولا درجة ترتيبه في جدول الأعمال، وهذا يفسر انعدام المبادرة بانتظار رقم “لوتو” يترقبه المترقبون، في حين أن الواجب الوطني الذي هو في متناول اليد يملي على “المرجئة” وأهل الانتظار، الإسراع في اختيار حارس قضائي تكون مهمته المؤقتة شراء عمر آخر للدولة، لأنها ما زالت قابلة للحياة. وفي هذه المثابة أقول إن دعوة الذهاب إلى الصين بحثًا عن حلٍّ اقتصادي، أجابت عليها الصين بالدعوة إلى حلٍّ سياسي هو مفتاح كل باب.

وإذا عُدنا إلى التكهن الموثوق والطريف، علينا جميعًا الإصغاء إلى “العرَّاف”  الأكبر زياد الرحباني الذي قرأ لنا مصيرنا قبل أقل من نصف قرن، وأوضح لنا أن “نزل السرور” الذي أسسه “المرحوم المهضوم الذي كان يحنّ على المحروم”، لم يعد يتّسع لهذا الكم من الثورات والأوهام والمغامرات، وأن نزلاءه المتكاثرين لا يبرزون هوياتهم لعامل الاستقبال المضرب عن العمل، وأن استمراره كمضافة مؤقتة أو إقامة دائمة لا يمكن أن يعتمد على ما يدرُّه، عليه “ظالم” أو “جربوعة” في ميدان سباق الخيل، فكلاهما له دلالة من اسمه.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى