البحر الأبيض المُتَوَسِّط: مَسرَحُ صراعاتٍ مُتَعَدِّدةِ الأَوجُه

الدكتور ناصيف حتّي*

تزدادُ أهمّية البحر الأبيض المتوسّطِ في الجغرافيتين السياسية والاقتصادية الدولية كما تدلُّ على ذلك الأحداثُ والتطوّرات في المنطقة. فشرقُ المتوسّط يُعتَبَرُ ممرّاً بحرياً أساسيّاً يربط الصين الشعبية بأوروبا كإحدى أهمِّ الخطوات في مبادرة استراتيجية  التمدّد الصيني الدولي، التي تُعرَفُ بمبادرة حزام واحد طريق واحد. وكانت إيطاليا أوّل دولة غربية وقّعت في العام ٢٠١٩ مُذكّرةَ تفاهمٍ مع الصين الشعبية في هذا الصدد.

ويُلاحَظ أيضاً ازدياد الاهتمام الروسي عبر البوابة السورية بالتواجد في شرق المتوسط، وإجراء مناورات في تلك المنطقة كرسالةٍ أيضاً على موقع تلك المنطقة في الأولويات الروسية، فيما التمركز الغربي يحظى دائما بالأهميّة، ولو اختلفت هذه الأهمية أو تباينت مُقاربة التحدّيات بين دوله في لحظة او أخرى.

ويشهد “المسرح المتوسّطي” الكثير من التحديات المُتداخلة والمُترابطة: أوّلاً هناك صراعان ساخنان يتداخل فيهما المحلّي بالإقليمي والدولي في كلٍّ من سوريا وليبيا، ويزيد من تعقيداتهما الموقع الاستراتيجي المهم لكلٍّ من الدولتين. صراعان يُغذِّيان ويَتَغَذَّيان على التوتّرات والصراعات في الإقليم. ثم هناك الصراع التاريخي التقليدي التركي مع اليونان وقبرص: صراعُ التاريخ والسياسة والاقتصاد والنفوذ، والذي شهد توتّراً أخيراً مع دعوة تركيا لحلّ الدولتين في قبرص (أو إقامة دولة قبرص التركية إلى جانب دولة”قبرص اليونانية”) حسب الموقف التركي التاريخي. وما يزيد من حدّة الصراعات في المتوسط احتياطات الغاز الطبيعي الهائلة الموجودة في هذا البحر، والتي قدّرها بعض الدراسات بحدود ١٢٢ تريليون قدم مكعبة، إلى جانب بالطبع وجود كميات كبيرة من النفط. ويعكس إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط في العام ٢٠١٩ هذا الاهتمام. ولا بدّ من التذكير في هذا الصدد بالخلافات الهائلة بين دول المتوسط بشأن ترسيم الحدود البحرية بينها.

ويُمثّلُ “المتوسط“ مصدرَ قلقٍ أساسياً للدول الأوروبية أيضاً، باعتباره ممرّاً للهجرة غير الشرعية من جنوب الصحراء في إفريقيا عبر البوابة الليبية بشكل خاص. كما أن التغيّرات البيئية والمناخية التي تُلقي بثقلها على منطقة المتوسط بشكلٍ كبيرٍ، مُقارنةً مع مناطق أُخرى في العالم إذا لم يتمّ التعامل معها بفعالية، تحملٌ تداعياتٍ خطيرة على اقتصاديات المنطقة، بخاصة في جنوب وشرق المتوسط. فهذه تزيد من حجم البطالة، وتُشكّل عنصراً طارداً للسكّان وبالتالي للهجرة. ويُشير تقريرٌ صدر حديثاً عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة عن الوتيرة المرتفعة، كما أشرنا، لهذا التغيير المناخي بتداعياته السلبية مُقارنةً مع مناطق أُخرى في العالم.

من الامور السلبية ايضاً على التنمية الاقتصادية في جنوب وشرق المتوسط عدم الاستقرار، وهو شرطٌ ضروريٌ ولو غير كافٍ، الذي نتجَ عن الثورات والتغيّرات التي حصلت في العشرية الأخيرة من هذا القرن. كما إن الديموغرافيا الشابة في هذه الدول، وهي سيفٌ ذو حدّين إذا ما أُحسِنَ توظيفها ولم يكن ذلك بالممكن نظراً إلى ما أشرنا إليه من تطوّراتٍ، شكّلت أيضاً عنصرَ ضغطٍ آخر، أو عنصر دافع للهجرة في مجتمعات هذه الدول، مما زاد من مستوى التوتّر في منطقة المتوسط.

إن تطورات العشرية الأخيرة في المنطقة، كما السياسة الاسرائيلية التي استمرّت في رفضها أي مُقاربة جدّية وواقعية لتسوية القضية الفلسطينية على الأسس والمرجعيات الدولية المعروفة، وذلك رُغم تراجع موقع القضية الفلسطينية على جدول الأولويّات في المنطقة بسبب التطورات التي أشرنا إليها سابقاً، ساهمت في تعطيلِ أو شلل الدور الأساس الذي كان على “الإتحاد من أجل المتوسط“ القيام به. الدور الذي كان وراء إنشاء الإتحاد في العام ٢٠٠٨ وهو وريث الشراكة الأورو-متوسطية (عملية برشلونة التي  انطلقت في العام ١٩٩٥)  لتعزيز التعاون والشراكة ولو بسرعات وصيغ مختلفة ومُتعدّدة في المنطقة المتوسطية. فالعمل على تعزيز التنمية الاقتصادية في دول جنوب وشرق المتوسط يساهم بدوره في خلق فرص العمل ومحاربة آفة البطالة، إحدى أهمّ مصادر التوتّر في هذه الدول، وبالتالي يساهم في تعزيز الاستقرار المجتمعي  في دول جنوب وشرق المتوسط.

ويُسَجَّلُ للاتحاد من أجلِ المتوسط الأولوية التي يُعطيها حالياً لقضايا البيئة والمناخ، الأمر الذي يُشكّل أحد التحديات الأساسية في منطقة المتوسط، كما أشرنا سابقاً، من خلال إطلاق تقريره حول هذه المسألة في اجتماع وزراء البيئة مطلع الأسبوع الماضي في القاهرة حول هذا الموضوع: الخلاصة هي أنّ المتوسط منطقة تلوّثٍ بيئي كبير، وصراعات سياسية بأسماءٍ وأشكالٍ مُختلفة عديدة ومُتعدّدة ومُتشابكة.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقاً المتحدث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقاً رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” – (لندن) – توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار”- بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى