“زمن” تانيا قسيس وشاحٌ واعد بـفَجرٍ جديد

تانيا أَداءً مميَّزًا، وأندريه الحاج قيادةً دقيقة (عدسة نبيل اسماعيل)

هنري زغيب*

فَلْنَتَّفِقْ بدايةً أَن الوقوفَ الجامد على المسرح وراء الميكروفون وأَمام الأُوركسترا والغناء الإِفرادي طيلة برنامج السهرة، مرحلةٌ تقليدية غرُبَت، خَتَمتْها الخالدة فيروز التي وقْفتُها وحدها هيبةٌ ساطعة وحضورٌ آسِر ووقتٌ يزلق من الزمن بفرح السَماع.

من هنا كان لا بُدَّ من بُلوغ مرحلة أُخرى، مرحلة تالية، عصرية، دينامية، تُضفي على الغناء مشهديةً متحركةً بين شاشة في عمق المسرح، وخطوات راقصة على بساطه، وتحرُّك أَبعد من الميكروفون، يمينًا أَو يسارًا على امتداد الخشبة، حتى تمسي الخشبة كالقماشة البيضاء يتحرَّك وسْعها الرسام في حرية واسعة وهو يرسم لوحته.

فضل المحاولة

تانيا قسيس في استعراضها “زمن” (صالة السفراء – كازينو لبنان) قدَّمت لجمهورها 90 دقيقة ربطَها خيطٌ روائي موسيقي غنائي أَدائي، وضبطَتْها عصا المايسترو أندريه الحاج بـحزم القيادة الدقيقة.

في هذا العمل المتعدِّد الأَبعاد، شكلًا مسرحيًّا ومضمونًا موسيقيًّا، تَخرُج تانيا قسيس من الإِطار السابق في أُغنياتها ومحاولاتها، وتنسج أُفقًا بكْرًا على شخصية لها جديدة يمكن أَن يتبلور أَكثر ويتَّسع أَنضج عملًا بعد عمل.

وترفد ذلك كلَّه رؤْيةُ طوني كرم – كاتب النصوص والأَغاني والمدير الفني ومُخرج لقطات الفيديو في بصريات جميلة -، ليتكوَّن العمل نسيجًا حكائيًّا من خلجات المرأَة لدى لقائها الحبيب الأَول، مرورًا بأَحداث وأَحاديث تتماوج خلالها العلاقة مَدًّا وجزْرًا، بين براءة الشعور والغضب من انكساره، وقدرة المرأة على احتمال الحالات الصعبة في العلاقة، حتى انهمار الغروب شمسًا دافئة تمجّد الحب وتزيِّن به فسحات العمر.

الرؤْية الإِخراجية أَرادها طوني كرم ذات مسحة مغايرة، ما أَبقى للعرض في الأُولى الدقائق غرابةً في استيعاب ما يدور بين الراوي وصبايا الكورال المأْسورات في طبقتين عُلْيَيْن من المسرح، والتمثيل والرقص الذي يغلِّف الأَداء الغنائي بمشهدية سائغة تترجم ما يقوله صوت تانيا في خلجات الأُغنية.

الخيط الروائي

سوى أَن هذه الغرابة تنجلي تباعًا حين تروح تانيا، أُغنية بعد أُغنية، تسحب الخيط الروائي وتفلشُه على المسرح، خلْفها على الشاشة الكبرى مقاطع فيديو مصوَّرة ببراعة أَو بعض كلمات النص مواكِبةً أَداءَها الغنائي المميًّز وحضورها الواثق، حولها على ضفتَي الخشبة هيكل موسيقيين ممتازين عيونهم على عصا القائد أندريه الحاج، ومشاهد تمثيلية إِيضاحية تُترجم هي الأُخرى البُعد البصري للغناء السمعي.

ويأْتي نص الكلمات بنثريته البسيطة خارج كل شكل تقليدي للقصيدة المغناة، ليُضفي على رسالة “زمن” بُعدًا آخر لا علاقة له بالشعر الغنائي المأْلوفن ويخلق من الكلام اليومي نسيجًا موسيقيًّا بعضُه كلاسيكي وأَكثرُه حديث (يرفده توزيع موسيقي ذكي) قد تبتعد عنه الميلوديا أَحيانًا لكنه يعود فينضبط في أَنغام عذبة ليست بعيدة عن الاستراحة في ذاكرة الجمهور.

في سياق الرمزية

هذه الرمزية في الــ”زمن”، نصوصًا وبصرياتٍ ودينامية فردية (تانيا) أَو ثنائية (دويتو مع سعد رمضان) أَو جماعية (راقصون وممثلون) أَو مؤَثرات بصرية تنهمر على المسرح أَو تتلقَّفها الشاشة، تجعل من استعراض تانيا قسيس (مع فارق ضخامة الإِنتاج طبعًا) نسخةً لبنانية من استعراضات برودواي المتماوجة بين الميوزيكال والكوريغرافيا والغناء الفردي والثنائي والجماعي. وهذه خصيصة تُسَجَّلُ لتانيا قسيس أَنها، برؤْية فريق عملها ولولبُه طوني كرم، أَطلقت مشهدًا جديدًا للمسرح الغنائي اللبناني، صحيح أَنه في الخطوة الأولى مع كل ما في الخطوة الأُولى مما يمكن حتمًا تلافيه وبلْوَرته لاحقًا، لكنه واعدٌ بالكثير الذي سيضفي على مسرحنا الغنائي ديناميةً متى أَخذ جمهورنا يعتادها يكون اقترب من هذا الجديد وابتعد تلقائيًّا عن الجمود التقليدي في الغناء الإِحادي الْكان سائدًا حتى اليوم ويأْفُلُ عصره تباعًا.

ويرفد المشهدَ الكامل إِحساس المايسترو أندريه الحاج بدقّة الجديد تأْليفًا موسيقيًّا وتوزيعًا مركَّبًا لينفِّذه في حرَفية عالية تجعل من مهنيَّته الخبيرة ضمانة لنجاح هذا العمل وكل عمل يقود أُوركستراه.

يبقى أَن “زمن” تانيا قسيس يؤَسس لزمن لبناني غنائي موسيقي استعراضي راقص سيكون لبلْوَرته وتطويره أُفقٌ جديدٌ يُهدي مسرحنا الغنائي وشاحًا من الجمال يتقدَّم جمهورَه جيلٌ جديدٌ نحتاج حضورَه مسرحنا لمواصلة المرحلة الفنية الجديدة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى