لبنان: التعميم 682 بين ثغرات النَّص وهواجس التَّطبيق

البروفسور مارون خاطر*

أصدَرَ مَصرِف لبنان التَّعميم الوسيط 682 في محاولةٍ للتَّخفيف مِمَّا لَحِقَ بالمودعين من ظُلم وتَمييز بِسَبَب التَّعميم 158 الفَاقِد لِلمَنطِق والذي يُحَدّد، بدون أي تَعليل، يوم 31 تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2019 تاريخًا فاصلًا لِتَصنيف أصحاب الحسابات بين مُستفيدين وغير مُستفيدين. بالإضافة إلى هذه الاستنسابيَّة المرفوضة، سَمَح نَصّ التعميم 158 غير المُحكم للمصارف بِتَطبيقه بطريقةٍ “عُرفيَّة” زادَت من ظلاميَّتِه وضَاعَفَ استنسابيته. إلَّا أنَّ التَّعميم الجَديد الصَّادر “بعد التفاهم مع المصارف” كما جاء في بيان حاكِم مَصرِف لُبنان بالإنابة وسيم منصوري، يَشتمل على ثغراتٍ نَصِّية بُنيويَّة متَّصلة بِمُندَرَجات التَّعميم 158 الذي يرتكز إليه. سيجعله ذلك يَصطدم نظريًا بالاستنسابية المضاعفة نفسها ويَضَعُهُ عمليًا في مَصَاف المحاولات غير المُجدية لإحداثِ اختراقٍ في جدار الانهيار المَنيع.

يُشير نصّ التعميم الوسيط 682 إلى أرصدة الحسابات التي كانت موجودة بالعملة الأجنبية قبل 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 والتي تمَّ تحويلها إلى مصرفٍ آخر. فهل تُستَثنى من هذا التعميم الأموال التي نُقلت من مَصرِفٍ إلى آخر عبر الشيك المصرفي وهو وسيلة دفع وإبقاء وليس وسيلة تحويل؟ من المعلوم أنَّ التحويلات المصرفية تُشكّلُ جُزءًا بسيطًا من حركة أموال المودعين بين المصارف في بداية الأزمة الماليَّة، في الوقت الذي كان الجُزءُ الأكبر من العمليات يتم عبر شيكات مصرفية. استطرادًا نسأل، ماذا لو تَمَّ تحويل رصيد الحساب إلى أكثر من مَصرِف؟ هل تُعادُ الأموال من جميع المصارف إلى الحساب الأساسي؟

في مكانٍ آخر، يُحَدّد التعميم 682 السقفَ الأعلى للاستفادة من التعميم 158 لأصحاب الحِسابات الذين يَشمُلُهُم التعديل بـ50 ألف دولار، وفي ذلك ثغرتان: الأولى تتعلّق بمبلغ الـ 50 ألف دولار نفسه وهو مُحتسَب على أساس مبلغ 800 دولار شهريًا كما أتى في النص الاساسي للتعميم. بذلك تكون الفترة غير المُعلنة لإستكمال تسديد الـ50 ألف دولار هي 5 سنوات كاملة تُشَكّلُ الإطارَ الزمني للتعميم 158. إلَّا أنَّ هذا السقف لم يَعُد ساري المفعول بَعدَ تَعديل هذا التعميم في عَهد رياض سلامة وتَحديد المبالغ الشهرية بـ400 دولار وبـ300 دولار للمُستفيدين الجُدُد، مِمَّا يخَفَّضَ المَبلغ الإجمالي للاستفادة إلى 24 ألف و18ألف دولار على التوالي إذا تم احتساب المُدَّة نفسها. أما الثغرة الثانية وهي الأخطر فَتَكمُن في أنَّ المصارف تَحتسب المبالغ المُستوفية لشروط التعميم 158 والتي يُمكن للمودعين المؤهّلين تحصيلها بالدولار، في حال تقدَّموا بطلباتٍ جديدة، على أساس 18 شهرًا فقط وهي ما تَبَقَّى من مُدَّة الـ 5 سنوات المذكورة أعلاه. بناءً على ما تَقَدَّم، لَن يكونَ السَّقفُ الأعلى للمبالغ التي ستستفيد من التعميم 682 خمسين ألف دولار ولا حتى 24 ألف أو 18ألف دولار بل إنَّه لَن يَتَعَدَّى 7200 دولار للمستفيدين القدامى و5400 دولار للجُدُد كَحَدٍّ أقصى وفي أحسن الأحوال.

شَغَلَ التَّعميم الوَسيط 682 الأوساط الإعلاميَّة والمودعين ولم يَشغُل المصارف التي لا تَمتلك حتى هذه اللحظة آليةً عَمَليَّة لتطبيقه ولا حتى إجابة واضحة عن تساؤلات المودعين. في العادة، تدفعنا ممارسات المصارف بِحَقّ المودعين إلى التَخَوُّف من أن تتحوّل الثغرات النَصيَّة التي يحتويها التعميم 682 إلى ثغرات تطبيقية تَمُرُّ عَبرها المصارف للإمعان في استنسابيَّتها؛ إلّا أنها هذه المرة لن تفعل! إذ إنَّه من غير المُتوقَّع أن يكون عدد المستفيدين من هذا التعميم يستحق عَناء المُراوغة. فالجُزءُ الأكبر من الحسابات التي لم تَستَفِد من التعميم 158 تم توزيعها بهدف التَحَوُّط ولَم تَبقَ مُلكًا لأصحابها الاساسيين أو سُحِبَت عبر شيكات مصرفية وفقًا لشروط التَّعميمَين 151 و161 قبل أن يَتمَّ إقفالها. لذلك لا يَحتاج التعميم الى بيانٍ توضيحيّ يَصدر عن مصرف لبنان على غِرار البيان الذي صَدَر بِسَبَب البَلبَلة التي أحاطت بالتعميم 158 عند إصداره بِنُسخته الأولى لأنه ببساطة “مش حرزان”!

من المؤكد أنَّ مَصرِف لبُنان لم يَستَنِد عِندَ اصداره التعميم 682 إلى دراسةٍ دقيقة لِعَدَدِ الحِسابات المؤهّلة للاستفادة ولِحجم الأموال اللازمة. لو فَعَل لَكانت المصارف اليوم قادرة على الإجابة عَن اسئلة المودعين. في مُطلق الأحوال، لا يُمكن أن يُشَكّلَ التعميم 158 وتعديلاته، ومن ضمنها التعميم 682، حًلاًا لِمُشكلة الودائع. فَعَدَد الحسابات التي تستفيد ومن الممكن أن تستفيد من هذا التعميم تُشكّلُ نسبةً لا تُذكَر من عَدَد الحِسابات ومن حَجم الودائع. يَسعى المصرف المركزي لِخَرق الجمود القاتل ضمن حدود إمكاناته في محاولةٍ يُرادُ منها أيضًا تظهير التمايز عن عهد رياض سلامة من دون أن ينجحَ في كِلتا المحاولتين. لا يُمكن تَصَوُّر حَلٌّ لِمُشكلة الودائع خارِج إطار خُطة اقتصاديَّة ماليّة ونقديَّة شاملة تُفضي إلى إعادة هيكلة المصارف بعيدًا من الضجيج والشعبويَّة وتَسجيل الانجازات.

في نظرةٍ أكثر شموليَّة للواقع اللبناني يتبيَّن أنَّ المُعالجات المَوضِعية لم تَعُد قادرة حتى على التَّخفيف من المعاناة مِمَّا يَستوجب الإسراع في إيجاد حلول بُنيويَّة تبدأ من السياسة لتصل إلى الاقتصاد والمال.

أمَّا التَّعميم 682 فلا يعدو كَونَهُ “طَبخة بَحص” بنكهة “إنصاف المودعين”!

  • البروفسور مارون خاطر هو أكاديمي لبناني، كاتب وباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة. يمكن متابعته عبر منصّة تويتر/ (X) على: @ProfessorKhater

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى