مَجدُ الوطن بمُبدعيه لا بسياسيّيه

هنري زغيب*

عدتُ هذا الأُسبوع إِلى ترجمتي القديمةِ التي كنتُ وضعتُها لكتاب أَندريه مالرو “ديغول وأَنا” (منشورات عويدات 1982)، وهو حوار طويل بين مالرو والرئيس بعد رفْضه نتيجةَ استفتاء 27 نيسان 1969. ولَفَتَتْني فيه عبارة ديغول يوم تولَّـى الرئاسة (21 كانون الأَول/ديسمبر 1958): “علينا أَن نُعلِّم الفرنسيين كيف يستاهلون مجد فرنسا، فيستعيدون إِلى بلادهم نُبْلَها ومكانتَها. إِنَّ لي معاهدةً مع فرنسا، سأُنفِّذها وأُدافع عن قدَر بلادي”.

يُعلِّق مالرو بأَنَّ الرئيس قال: “معاهدة مع فرنسا”، ولم يقُل: “معاهدة مع الفرنسيين”. فهذا القائد التاريخي، مذ أَطلق نداءَه من لندن (18 حزيران/يونيو 1940) كانت فرنسا غايتَه، فرنسا حبيبتَه، فرنسا شمسَه، أَيًّا تكُن مواقف الفرنسيين الذين، بعد كل ما فعَل من أَجلهم كي يحبِّبَهم بفرنسا، خذَلوه في الاستفتاء فغادر الإِليزيه، وانسحب إِلى قريته النائية “كولومبيه” يمضي فيها آخر سنتَين من حياته، خاتمًا بمرارةٍ حوارَه الطويل مع مالرو:”لم يَعُد للفرنسيين طموحٌ وطنيٌّ، ولا استعدادَ لديهم إِلَّا انصياعهم للتيارات السياسية”. وفي مكان آخر من الحوار قال لِمالرو: “في شعبنا جموعٌ تَتْبَع سياسيين ممتلئين حقدًا وكراهيةً. لكن هؤُلاء السياسيين آنيُّون ظرفيُّون، سرعان ما يتقلَّبون بمواقفهم فيُقَلِّبون وراءَهم جماهيرهُم”.

أَهو شعور الخيبة من شعبه؟ أَم الحُرقة أَنَّ شعبه ينقاد إِلى سياسيِّــيه لا إِلى عظمة بلاده بمبدعيها في التاريخ والحضارة؟

كان شارل ديغول آتيًا من غَد فرنسا، رائيًا أَمسَها كي يواصل لها مستقبلًا يليق بمجدها.

قلتُ التاريخ والحضارة، لأَنهما عُنوانَا الحاكم الرؤْيوي الذي يعرف أَنَّ خلُود الوطن في ذاكرة التاريخ لا يَنسُجُهُ زَبَدُ السياسة والسياسيين، بل لؤْلُؤ الثقافة والمبدعين.

ذاتَ يوم كان ديغول يُدشِّن مبنًى حكوميًّا في ﭘـاريس. قبل الاحتفال جاء مَن يَلْفِتُه إِلى غياب اسم الشاعر صاحب البيتَين المحفورَين فوق مدخل المبنى. فأَجاب ديغول بكل شَمَم فرنسيّ: “أَنا شئْتُ ذلك. مَن ليس يعرف أَنَّ البيتَين هما للعظيم ڤـيكتور هوغو، لا يستاهل أَن يحمل هُوية فرنسا”.

إِنه الحاكمُ الرؤْيويُّ الـمُدركُ أَنَّ مجد وطنه هو بالثقافة والإبداع.

ذاتَ يوم آخر، في جلسة خاصة، استغرب أَحدُهم طَلَبَ الرئيس أَن يجلس مالرو إِلى يمينه في مجلس الوزراء لا رئيسُ الحكومة، فأَجاب ديغول بالاعتزاز الفرنسيّ ذاته: “مالرو لا يجلس عن يميني. أَنا أَجلس عن يَساره”.

إِنه الحاكم الرؤْيوي الواعي أَهميةَ الثقافة والمبدعين في خلود الوطن. ولم تكن مصادفةً أَن يُنشِئَ أَولَ وزارة للثقافة في فرنسا (24 تموز/يوليو 1959) وأَن يُسلِّمَها طوال عهده إِلى أَندريه مالرو (1959-1969) الكاتب الذي جعلَها “وزارةً سياديةً” ذاتَ سُطُوع.

هذا الكتاب الرائِع (“ديغول وأَنا”)، وضعَه مالرو، وفاءً، بعد وفاة الرئيس (9 تشرين الثاني/نوفمبر 1970). وفيه كثير من المواقف الخالدة لرئيس استثْنائي عرفَ أَن مجدَ وطنه ليس من سياسييه العابرين كالغيم العابر، بل من مبدعيه الخالدين بآثارهم الخالدة.

كان ديغول يعمل لسُلطة تنصِّع الدولة كي تستاهل رضى الوطن. فمجد الوطن بمبدعيه الخالدين لا بسياسييه الزائلين.

هكذا كلُّ رئيس رؤْيويّ: يوظِّف الدولة في خدمة الوطن، والوطن سنابل مبدعين، همُ الذين يكتبون للتاريخ خلود هذا الوطن.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى