دَعوةُ الصدر المُقلِقةُ لتغييرِ النظامِ في العراق
محمّد قوّاص*
لم تنشغل التيّارات والأحزاب الشيعية العراقية المنضوية داخل “الإطار التنسيقي” بدعوةِ زعيم التيار الصدري السيّد مُقتدى الصدر إلى تغييرِ النظامِ السياسي في العراق. فدون طموحاتِ الصدر عوائقٌ ومَوانِعٌ محلّية داخلية، وهي لا شك ستتعرّض لروادع إقليمية ودولية.
قامت المنظومة السياسية التي تَحكُمُ العراق منذ العام 2003 بناءً على إراداتٍ دولية قادتها الولايات المتحدة استندَت على توازناتِ تلك الفترة.
ولئن من حقّ الصدر أن يستنتجَ تبدّل موازين القوى داخل العراق، على ما أفرجت عنه انتخابات 2021 و”ثورة تشرين” 2019 وظواهر أخرى، إلّا أن البنية الأساسية للمؤسسة السياسية لم تتغيّر ولم تنقلب حساباتها على نحوٍ يجعلها كارهة للنظام السياسي الراهن داعمةً للإطاحة به.
وفي الوقت الذي يُطلقُ الصدر خطابًا طهرانيًا ضدّ المُحاصصة والفساد لتحقيق رؤيته للعراق بما في ذلك تغيير النظام، فإن بقية المكوّنات السياسية العراقية، من شيعة وسنّة وأكراد، غير مستعدة لمجاراة زعيم التيار الصدري في هزّ أركان نظام ودستور وتجربة يعرفونها ويدركون عللها، والمخاطرة في الذهاب إلى المجهول.
يُهدّدُ تغيير النظام في العراق المُكتَسبات التي نالها المُكوّن الكردي دستوريًا والتي وفّرت له خصوصية وامتيازات داخل إطار سياسي مُناسب في مسائل تقاسم السلطة والثروة.
والأمر أيضًا لا يُطَمئن المكوّن السنّي طالما أن دعوات الصدر بشأن النظام البديل لا تتجاوز الإطار الطوباوي ولا تتجرّأ على طرح مسائل الدور والوظيفة والمصالح لكلِّ المُكوّنات.
أما التلميح بالتخلّي عن النظام البرلماني والذهاب إلى نظامٍ رئاسي أو شبه رئاسي فهو أمرٌ قد يعني العودة بالعراق، حتى لو لم يكن يقصد الصدر ذلك، إلى ما قبل العام 2003 ما سيُقابَل بالتوجّس والمخاوف التاريخية القديمة الحقيقية والمفتعلة.
والحال أن الصدر، رجل الدين الشيعي وسليل عائلة من المراجع والقامات الدينية الشيعية، ينطلق من موقعه هذا، لاقتراح انقلاب ضد الشيعية السياسية عامة، وهو أمرٌ يُفتَرَضُ أن يكون مقبولًا لدى الشيعة طالما أنه لا يأتي من مكوّناتٍ طائفيّة عِرقِيّة أخرى.
لكن مسّ الصدر بالنظام السياسي الذي قام على أكتاف الشيعية السياسية بكافة مكوّناتها، الدينية والمدنية، لا يمكن إلّا أن يُسَوِّقَ تخوّفًا، يَسهُلُ الترويج له، من مخاطر فقدان الطائفة لنفوذها الغالب منذ سقوط النظام السابق.
والمسّ بالنظام السياسي العراقي ليس شأنًا عراقيًا ولا يملك العراق أن يقرّرَ تحوّلًا من هذا النوع باستقلالية كاملة عن الدوائر الخارجية القريبة والبعيدة.
ولئن يتبادر إلى الذهن أن إيران ستكون الطرف الخارجي الأول المُعارض لتغيير نظامٍ مكّنها من مدّ نفوذها في هذا البلد، إلّا أن مصالح دولية وإقليمية أخرى متشابكة تدفع عواصم كثيرة لقول قولتها في شأنٍ استراتيجي كبير يتعلّق بالعراق وأصول الحُكمِ في بغداد.
وكان نُقِلَ عن مصدرٍ عراقي أنباء اتصال جرى بين مسؤول بريطاني و”زعيم عراقي بارز”. قالت هذه الأنباء إن الطرف البريطاني أبلغ محدّثه عن استعداد لندن وعواصم غربية أخرى للتحرّك ضدّ أيّ محاولاتٍ للتلاعب بالنظام السياسي العراقي تحت مسوغ “الدفاع عن المكتسبات الديموقراطية في البلاد”.
وبغضّ النظر عن مصداقية تلك الأنباء ودقّتها، إلّا أنها تكشف عن حقيقة الترابط الذي بات عضويًّا بين العراق ومصالح دولية كبرى، وتُلمّح إلى جدية الأدوات التي يُمكن لهذا الخارج استخدامها لمنع العبث بما أُنجِزَ منذ العام 2003.
أزمةُ ثقة كبرى تُعزّزُ الانقسامَ الدخلي، لا سيما داخل أركان “البيت الشيعي”. إلّا أن أزمة الثقة هذه تنسحب على علاقة الصدر بحلفائه السنّة والأكراد أيضًا. ولطالما استولت الريبة على الطبيعة المزاجية للصدر في اتخاذ قراراتٍ والانقلاب عليها، أو في نسج التحالفات والتخلّي عنها، بما يجعل من دعوة الصدر لتغيير النظام مزاجيًّا يقوم على شعورٍ بفائض قوة لا يستند إلى معطياتٍ صلبة داخليًّا ولا يُعوّل على مشهدٍ خارجي مُساعد.
صحيحٌ أنَّ كلَّ المُراقبين في العالم يتأمّلون الأعراض المُتتالية لتشكّل نظام دولي جديد سيتداعى آليًّا على التوازنات الإقليمية المُحيطة بالعراق، إلّا أن ذلك التشكّل ما زال مُرتبكًا في حالةِ مخاضٍ مُعقّد وعسير ولم يفرج عن ملامح لخرائط توازنات محتملة. والأمر من الركاكة بحيث لا يقوّي خيارُ تغيير النظام السياسي في العراق بالنسبة للعراقيين أنفسهم، ولا يمكن أن يعوّل هذا الخيار على تحوّل إرادات خارجية تمحض هذا التغيير بالدعم والرعاية.
لكن اللافت في دعوة الصدر إلى تغيير النظام السياسي واحتمال الذهاب به إلى أن يكون رئاسيًّا، هو أنه يمثّل أيضًا تسليمًا بأن النظام البرلماني هو المسؤول عمّا وصل إليه العراق من تدهورٍ وفسادٍ وتسيّب.
والأمرُ يكاد يكون مُماثِلًا للمراحل التي قطعتها تونس في تأثيم النظام البرلماني وتحميله مسؤولية الأزمة في البلد، وصولًا إلى نضوج حيثيات قدّمها الرئيس قَيس سعيِّد للدفع بدستورٍ جديدٍ بات شرعيًا إثر الاستفتاء الأخير، بما أنهى مرحلة ما بعد زين العابدين بن علي، وأعاد البلاد إلى نظامٍ رئاسي يُضيّق على الأحزاب هامش المناورة والفعل.
وإذا ما شهدت تونس مخاضًا صعبًا لتمرير الدستور الجديد، فإن ما هو صعب في تونس يكاد يكون مُستحيلًا في العراق. فالبلد ذو تاريخ دراماتيكي، مُشَتَّت الولاءات، يقوم على تعدّدٍ حادٍ في مُكوّناته، حيث ما زال للسلاح الكلمة الفصل في تقرير مصير الصغائر، فما بالك بالكبائر كتلك التي تمسّ دستورًا وصلاحيات وحصصًا وثروات وأجندات خارجية.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)