زيارة بايدن إلى السعودية: النَجاحات والإخفاقات
أسفرت زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المملكة العربية السعودية عن تحقيق بعض النتائج الملموسة لكنها في الوقت نفسه أثارت تساؤلات عن مستقبل العلاقات السعودية-الأميركية.
هشام الغنام ومحمد ياغي*
قطع جو بايدن، خلال حملته الرئاسية، وعودًا عدة تنسجم مع عقيدة أوباما بالانسحاب من منطقة الشرق الأوسط وتحويل التركيز نحو الصين. فقد وعد بإعادة تفعيل الاتفاق النووي مع إيران، وإنهاء الحرب في اليمن، والتعامل مع المملكة العربية السعودية انطلاقًا من نظرته إليها كدولة “منبوذة”. والتزمَ إلى حدٍّ كبيرٍ بهذه الوعود خلال عامه الأول في الرئاسة، إذ عمد إلى خفض الوجود العسكري الأميركي في العراق وسحب بعض المنشآت العسكرية المُتقدّمة من منطقة الخليج، ونشر تقريرًا استخباريًا اتّهم فيه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بالضلوع في مقتل جمال خاشقجي، وكشف النقاب عن تقرير عن هجمات 11 أيلول/سبتمبر أشار إلى تورط محتمل للسعودية، وامتنع عن تزويد المملكة بصواريخ دقيقة لاستخدامها في حربها في اليمن، وباشر المفاوضات لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، ورفض التواصل مع الأمير محمد بن سلمان.
لكن الفشل في إحياء الاتفاق النووي مع إيران، مقرونًا بالغزو الروسي لأوكرانيا، أرغمَ إدارة بايدن على تغيير أولوياتها. وعلى وجه الخصوص، أصبحت دول الخليج، جراء العقوبات التي فُرِضت على روسيا، أكثر أهمية للاقتصاد العالمي من أيِّ وقت مضى. وقد أدّت هذه العقوبات –لا سيما تلك المفروضة على قطاع الطاقة الروسي– إلى زيادة غير مسبوقة في أسعار النفط والغاز، ما ساهم بدوره في الارتفاع الشديد في معدلات التضخّم في الولايات المتحدة وأوروبا. تُرجِم ذلك بتدنّي معدّلات التأييد الشعبي التي يحققها الرئيس بايدن في استطلاعات الرأي، ما قد يؤدي حتى إلى خسارة الأكثرية الديموقراطية الحالية في الكونغرس بعد الانتخابات التشريعية النصفية في تشرين الثاني/نوفمبر.
إنطلاقًا من هذا، أعطى بايدن الأولوية لإيجاد بدائل من مصادر الطاقة الروسية. فتواصلت إدارته مع فنزويلا، ونظر في إمكانية السماح بتدفق مزيد من النفط من إيران، واتصل بالأمير محمد بن سلمان ورئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد، في محاولة لإقناعهما بزيادة الإنتاج النفطي. لم تُثمر الاستراتيجيتان الأولى والثانية، وتشير التقارير إلى أن بن سلمان وبن زايد رفضا الإجابة على اتصالاته.
بعدما عجز بايدن عن تحقيق الاستقرار في سوق النفط في ظل غياب التعاون من دول الخليج، قرر زيارة السعودية. ولكنه أشار في البداية إلى أن الهدف من زيارته هو تعزيز اندماج إسرائيل في المنطقة العربية. وقد صوّر الزيارة بهذه الطريقة لأنه لم يُرد أن يُنظَر إليه بأنه ينكث بوعود حملته الانتخابية. فضلًا عن ذلك، أراد أن ينتزعَ مقابل الزيارة تنازلات من السعودية مُتعلّقة باتفاقات أبراهام بما يساهم في تعزيز شعبيته في الداخل.
الأهداف المعلنة مقابل المحققة
مما لا شك فيه أن زيارة بايدن إلى إسرائيل والسعودية كانت مدفوعة بهدفَين رئيسَين: إقناع السعودية بزيادة إنتاجها النفطي وإنشاء تحالف عربي-إسرائيلي للدفاع الجوي شبيه بحلف شمال الأطلسي (الناتو). وتعزّزت الشائعات عن حلف ناتو محتمل بين العرب وإسرائيل حين انتشرت أنباء عن انعقاد اجتماع سرّي بين مسؤولين عرب وإسرائيليين في مصر. وقد أعربَ العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني عن درجة من التفاؤل بشأن الخطة، وأعلن وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس أيضًا أن إسرائيل انضمت إلى شبكة إقليمية للدفاع الجوي بقيادة الولايات المتحدة. يبدو أن الإصرار الأميركي على تحقيق هذا الهدف دفع بالبيت الأبيض إلى تأجيل زيارة بايدن إلى المنطقة حتى منتصف تموز/يوليو.
ولكن بعدما فشل بايدن في تحقيق هذا الهدف قبل جولته، أعلن عن أهدافٍ متواضعة أخرى لزيارته في مقالٍ بقلمه في صحيفة “واشنطن بوست”. فقد كتب أن الغاية من الزيارة هي التصدي للعدوان الروسي، وجعل الولايات المتحدة في موقع جيد يخوّلها التنافس مع الصين، وتعزيز الاستقرار الإقليمي. وفي محاولة منه لقطع الطريق مسبقًا على الانتقادات، ادّعى أن هذه الأهداف لن تتحقق إلّا من خلال الانخراط المباشر مع “البلدان التي يمكنها التأثير في تلك النتائج”. وسلّط الضوء أيضًا على هدفه الرامي إلى تحقيق التطبيع السعودي-الإسرائيلي، لافتًا إلى أنه سيكون أول رئيس يتوجه بالطائرة من إسرائيل إلى جدّة.
في الواقع، وافقت السعودية على فتح مجالها الجوي أمام الطائرات المدنية الإسرائيلية مقابل الاعتراف بالسيطرة السعودية الكاملة على جزيرتَي تيران وصنافير، وهو ما دأبت إسرائيل على عرقلته منذ قامت مصر بإعادتهما إلى السعودية في العام 2017. ولكن لم تُتَّخذ خطوات إضافية على صعيد التطبيع. إلّا أن بايدن، وعلى الرغم من فشله في الدفع نحو تطبيع العلاقات الإسرائيلية-السعودية، نجح في إقناع السعودية بزيادة إنتاجها النفطي من 9 ملايين إلى 13 مليون برميل في اليوم طوال شهرَي تموز/يوليو وآب/أغسطس. ووقّع أيضًا اتفاقًا للتعاون من أجل إنشاء الجيل المقبل من شبكات الاتصالات “5G” و”6G” في السعودية، أملًا بأن تتخلى المملكة عن العمل مع الشركة الصينية “هواوي” التي تمكّنت من توسيع حضورها إلى حدٍّ كبير في الخليج.
وسعى بايدن أيضًا، خلال زيارته، إلى طمأنة دول الخليج إلى أن الولايات المتحدة لن تنسحب من المنطقة. وأعلن، في الكلمة التي ألقاها في جدة، أن بلاده “لن تتخلى عن المنطقة وتترك فراغًا تملأه الصين أو روسيا أو إيران”. يصعب معرفة ما إذا كان هذا التصريح كافيًا لإقناع قادة الخليج بأن الولايات المتحدة ستفي بوعودها؛ فزيارة بايدن إلى السعودية كانت مدفوعة بسعيه المُستميت لتحقيق انخفاض في أسعار النفط. علاوةً على ذلك، تؤدّي روابط الدول الخليجية مع الصين دورًا حيويًا في تنميتها الاقتصادية، ما يعني أن التعهدات الأمنية الأميركية لا يمكن أن تشكّل بديلًا من العلاقات الاقتصادية التي تقيمها هذه الدول مع الصين.
الإنجازات السعودية
على الرغم من أن إدارة بايدن تمكّنت من إقناع السعودية بزيادة إنتاجها النفطي بنحو 50 في المئة خلال أشهر الصيف، وتمديد الهدنة في اليمن، ودعم الشراكة الأميركية الجديدة من أجل البنى التحتية والاستثمار العالمي، ظهرت السعودية في موقع الرابح الكبير من هذه الزيارة لأسباب عدة. السبب الأول والأكثر وضوحًا هو أن الرئيس بايدن اضطُرَّ إلى التراجع عن وعده بالحد من علاقات بلاده مع السعودية. ثانيًا، لم ترضخ السعودية للضغوط التي مارستها إدارة بايدن من أجل تطبيع العلاقات مع إسرائيل، لا بل ذكّرت الرئيس الأميركي بأن تسوية النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي هي شرط ضروري لنشر الاستقرار في المنطقة. ثالثًا، وجّه بن سلمان رسائل واضحة إلى إدارة بايدن بأنه سيردّ المعاملة بالمثل: فقد رفض استقبال الرئيس بايدن في المطار، وأرسل أمير مكة لاستقباله. علاوةً على ذلك، ذكّر بن سلمان الرئيس الأميركي، ردًا على كلام الأخير عن أهمية احترام حقوق الإنسان والمعارضين، بازدواجية المعايير الأميركية في موضوع حقوق الإنسان، مشيرًا إلى مقتل الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة بنيران إسرائيلية، وسوء المعاملة الأميركية للمعتقلين في سجن أبو غريب، فيما لفت أيضًا إلى أن الجهود الرامية إلى فرض بعض القيم على بلدان أخرى قد تؤدّي إلى نتائج عكسية. أخيرًا، وقّعت السعودية على العديد من الاتفاقات المهمة مع الولايات المتحدة حول مسائل مختلفة مثل الطاقة النظيفة، والأمن السيبراني، واستكشاف الفضاء، والصحة العامة، والأمن البحري وتعزيز الدفاع الجوي السعودي.
يمكن القول، انطلاقًا من الأهداف المُعلنة التي وضعها بايدن، بأن زيارته إلى السعودية لم تحقق نجاحًا كبيرًا ولا مُنيت بإخفاق ذريع. وقد أرسلت السعودية إشارات عن تجاوبها مع زيارته من خلال زيادة الإنتاج النفطي خلال الصيف، وتوقيع العديد من الاتفاقات الاقتصادية والأمنية، والسماح باستخدام مجالها الجوي لمرور الرحلات إلى جميع البلدان. ولكنها رفضت تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ولم تتعهّد بالحفاظ على الزيادة الحالية في الإنتاج النفطي، وامتنعت عن اتخاذ موقف مناهض للصين وروسيا، ورفعت التحدي مباشرة في وجه كلام بايدن عن حقوق الإنسان. يصعب القول بأن زيارة بايدن نجحت في ترميم العلاقات الاستراتيجية التاريخية بين الولايات المتحدة والسعودية. ففي المحصلة، جاءت زيارته استجابةً لأزمة الطاقة في العالم، ولم تكن إقرارًا بالحاجة إلى مباحثات استراتيجية صريحة بين البلدَين.
- الدكتور هشام الغنام هو خبير سعودي في العلوم السياسية وباحث سابق في برنامج فولبرايت. وهو حاليًا زميل بحثي كبير في مركز الخليج للأبحاث في جامعة كامبريدج، وخبير جيوسياسي ومستشار استراتيجي لكبار المديرين التنفيذيين العاملين على مستوى العالم.
- الدكتور محمد ياغي هو زميل بحثي ومدير البرنامج الإقليمي لدول الخليج في مؤسسة كونراد أديناور. تركّز أبحاثه على الدور المتنامي لمجلس التعاون الخليجي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأمن الدول الخليجية، والتحوّل الاجتماعي في دول الخليج.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.