لبنان: إحتِمالاتُ الحَربِ ورِهاناتُ الانتخاباتِ الرِئاسِيَّة

الخوفُ الأكبر اليوم هو أن يقودَ بنيامين نتنياهو المنطقة إلى حربٍ أوسع، يُمكِنُ أن تنسحبَ على لبنان، خصوصًا أنَّ مصلحتَه تقتضي إطالةَ أمَدِ الحرب.

بنيامين نتنياهو: يُمكن أن يقود المنطقة إلى حرب أوسع لمصلحته الشخصية.

الدكتور سعود المولى*

مُنذُ بَدءِ الحربِ على غزّة في 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، قامت إسرائيل بسلسلةِ اغتيالاتٍ في لبنان طالَت كوادِرَ وقادةً ميدانيين من حركة “حماس” و”حزب الله”. رافَقَ ذلك تصعيدٌ مُستَمِرٌّ في القصف الجوي والبري على القرى والبلدات الحدودية اللبنانية مع إسرائيل أعنف من كلِّ ما شهده لبنان سابقًا. وفي ظلِّ توسيعِ هذه العمليات، يُكرّرُ رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قوله إن إسرائيل “عازمةٌ على مواصلةِ الحرب على كل الجبهات”، فيما تستمرُّ استعداداتُ الجيش الإسرائيلي لإيواءٍ مُحتَمَلٍ لأكثر من 100 ألف شخص على الحدود الشمالية، ودعواتٌ للسكان لتخزينِ الطعام في حالِ اندلاع الحرب مع لبنان.

يعني هذا أنَّ احتمالاتَ الحربِ علي الجبهة الشمالية أعلى مما كانت عليه في الماضي.

على المَقلَبِ الآخر يستمرُّ تأكيدُ “حزب الله” على الاستعداد للحرب، وقد أعلنَ في مناسباتٍ عدة أنَّ القلقَ والوَهنَ يطالُ ألوية الجيش الإسرائيلي، مُبدِيًا استخفافه بالتهديدات التي تُطلِقُها إسرائيل والتي تَرِدُ أحيانًا عبر رسائل ينقلها البعض إلى لبنان، مؤكّدًا أنه لا نقاشَ حول تثبيت الحدود البرية ولا حولَ مزارع شبعا أو غيرها، قبل وقف إطلاق النار في غزّة. ويبدو أنَّ الزيارات الأخيرة للمبعوث الأميركي آموس هوكستين إلى بيروت حملت رسائلَ تضمّنت عرضًا أميركيًا واضحًا بتثبيت الحدود البرية، وانسحاب إسرائيل من 13 نقطة مُتنازَع عليها، والبحث في معالجة مشكلة مزارع شبعا.

وكان هوكستين توسّطَ في التوصّلِ إلى اتفاقٍ لترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان في العام 2022، واقترَحَ إمكانية إجراء محادثاتٍ حولَ ترسيم الحدود البرية بين البلدين. لكنَّ الوضعَ اليوم مُختَلِفٌ تمامًا عن تلك المرحلة حيث كانت الحكومة الإسرائيلية برئاسة يائير لابيد، بينما كان نتنياهو مُعارِضًا لهذا الاتفاقِ بشكلٍ كبير، وكانت قدرةُ الأميركيين في التأثير على الحكومة الإسرائيلية في حينها هي التي فرضت الاتفاق. أما اليوم، فإنَّ هوكستين هو مبعوثٌ رئاسي، وبالتالي هو يُمثّل بايدن الذي أصبحت علاقته بنتنياهو متوتّرة جدًا.

أما الاهتمامُ العربي والفرنسي والدولي بضرورةِ مَنعِ توسّعِ الصراعِ وضَبطِ التصعيد في جنوب لبنان، فقد بَرَزَ من خلال تكثيف الزيارات والتصريحات التي تؤكد على هذا الأمر مُترافِقَةً مع التأكيد على ضرورة إنجازِ الإستحقاقِ الرئاسي وفقَ رؤيةِ اللجنة الخُماسية الخاصّة بلبنان. وفي الربطِ بين المسألتَين ما يدعو للقلق طالما أنَّ المساعي الدولية لانتخابِ رئيس لبناني تُسابقُ قرع طبول الحرب الإسرائيلية على لبنان.

فما هي حقيقة النوايا الإسرائيلية بدايةً؟

هناكَ أوّلًا تخبّطٌ كبيرٌ في المستوى القيادي الحاكم، وارتباكٌ واضحٌ حَولَ هذه المسألة على الرُغمِ من التصريحات عن الاستعداد لتوسيع المعركة إلى جنوب لبنان.

وهناك ثانيًا الضغوطُ التي يقومُ بها سكّان المستوطنات الشمالية على حكومة نتنياهو للوفاء بتعهّدات القادة الإسرائيليين بالعمل على فرض الأمن، وتعديل ميزان القوى وعودتهم إلى منازلهم. عِلمًا أن حربَي إسرائيل على لبنان في 1978 و1982، حصلتا ردًّا على شَنِّ عملياتٍ انطلقت من لبنان ضد إسرائيل، وتحت شعار “سلامة الجليل”.

وهناك ثالثًا ضغوطُ بعض الأوساط اليمينية المُتطرّفة في حكومة نتنياهو وفي الجيش، والتي تُطالِبُ بتَصعيدٍ كبيرٍ وواسعٍ ضد لبنان. وقد صدرت تصريحات عن ضباط إسرائيليين كبار يُطالبون “بإنشاء مُعادَلةٍ جديدة مُقابل “حزب الله””؛ كما إنَّ الإدارة الأميركية (وفرنسا أيضًا) أبلغت لبنان مرارًا عن استعدادِ إسرائيل تصعيد هجومها ضدّ لبنان إذا لم يهدأ الوضع على الحدود الشمالية.

وهناك رابعًا ضغوطُ أهالي المُحتَجَزين الرهائن لدى “حماس” والتي تواصلت مع تسييرهم للمظاهرات الكبيرة التي تخرج في تل أبيب. وقد أعربَ “منتدى عائلات المخطوفين الإسرائيليين لدى “حماس”” عن فقدانِ الأمل في تحريرهم في ظلِّ تمسّكِ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بالاستمرار في الحرب؛ وناشدوا المواطنين الإسرائيليين النزول إلى الشارع بالملايين لإرغام الحكومة والجيش على وقف الحرب والتفرّغ لمفاوضاتٍ حقيقية لأجلِ صفقةِ تبادل.

وهناك خامسًا التناقضُ أو الخلافُ الظاهري بين وجهتَي نظر أميركية وإسرائيلية. في حين أنَّ هناك مَن يؤكّدُ أنَّ قرارَ الحربِ قد اتّخذ وأن إسرائيل تقوم بضغوطٍ كبيرة على الأميركيين لمنح تل أبيب الغطاء لعملٍ عسكري في لبنان، يُؤكّدُ البعضُ الآخر أنَّ هناك رفضًا أميركيًا لاستمرارِ هذه الحرب بالشكلِ الذي يريده نتنياهو. ولا بدَّ هنا من طرح تساؤلاتٍ جدّية حول إمكانية انعكاس الخلافات الأميركية-الإسرائيلية على الوضع في الجبهة اللبنانية، مع إصرار نتنياهو على التصعيد.

في هذا السياق، لا بدَّ أن نتوقّعَ إمكانيةَ لجوءِ نتنياهو إلى توسيعِ إطارِ المعركة في لبنان وتحويلها إلى حرب، لا سيما بوجود عراقيل كثيرة تعترضُ طريقَ التفاوضِ التي يسلكها المبعوث الأميركي هوكستين مع وجودِ جهاتٍ في إسرائيل لا تُعَوِّلُ على هذه المفاوضات ولا على نتيجتها، ناهيك عن رفض الطرف اللبناني الرسمي والحزبي لشروطِ الاتفاقِ المُقتَرَح.

بالمُقابل ترى أوساطُ “حماس” و”حزب الله” أنه لا يُمكِنُ تصديق المزاعم عن إنعدام القدرة الأميركية على منع الإسرائيليين من شنِّ حرب، وكلُّ الأحداثِ أكّدت على أن القرارَ لدى أميركا، وأنه لولا الموقف الأميركي لما تمكّنت إسرائيل من شنِّ هذه الحرب على قطاع غزة والاستمرار بها إلى اليوم. كما إنَّ التصريحاتَ الأميركية الرسمية تتحدّثُ عن “اليوم التالي للحرب” وعن مشاريع إعمار غزة، وصولًا إلى عمليات إلقاء الإمدادات من الجو والبدء ببناء ميناء عسكري على شاطئ غزة بحجة المساعدة في تلقي المساعدات الدولية. كلُّ هذا من دون الكلام عن ضرورةِ وَقفِ هذه الحرب لأنَّ الموقفَ الأميركي الواضح هو ضرورةُ الخلاص من “حماس” إنّما الخلافُ حول الأسلوب الأقل كلفة شعبيًا ودوليًا مع تصاعد حملات التضامن العالمي مع غزّة والدعوات لوقف الحرب حتى داخل الإدارة الأميركية. ويبدو هذا الأمرُ واضحًا للغاية في تصويت أميركا بالفيتو في مجلس الأمن عند طرحِ أيِّ مشروعٍ يدعو إلى وقفِ إطلاقِ النار في غزة.

وبالعودة إلى الوضع اللبناني الداخلي، تبدو الحاجة الدولية لإنجاز الإستحقاق الرئاسي وإعادة تكوين السلطة في لبنان أكثر من مُلحّة؛ فهذه السلطة هي التي ستكون مُولَجَة بالعمل على إبرامِ التفاهُمات وما يتّصِلُ باتفاقاتِ ترسيم الحدود البرية وإرساءِ التهدئة والإستقرار. وقد نشط المرشحون لرئاسة الجمهورية، كلٌّ من جانبه، في القيام باتصالاتٍ دولية، تحديدًا أميركية، لجسّ نبض الموقف الأميركي. كما تواصلت اللقاءات بين السياسيين للاتفاقِ على مُرَشحٍ يحظى بالقبول الدولي والإقليمي بناءً على كيفية إدارته ومُعالجته للتطوّرات الحاصلة في الجنوب، أكانت حربًا أم سلمًا، تصعيدًا للمواجهة أم قبولًا بالتفاهمات التي يُحكى عنها.

وعُلِمَ أنَّ الحراكَ الذي قامت به “اللجنة الخماسية” حول لبنان، على صعيد سفراء الدول المعنية (السعودية، مصر، فرنسا، الولايات المتحدة، قطر)، منها اجتماعها في بيت السفير السعودي وليد البخاري في بيروت يوم 24 كانون الثاني (يناير)، ثم لقاؤها رئيس مجلس النواب نبيه بري في مقره في 30 كانون الثاني (يناير)، إضافةً إلى اتصالاتٍ ثُنائية مع الأحزاب الفاعلة، كان بهدفِ التمهيدِ لزيارة المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان الذي أوضح خلال زيارته لمصر في 13 شباط (فبراير) أنه قام بزيارة لبنان أربع مرات والتقى بجميع الشخصيات المهمّة والمؤثّرة، وأنه فى جميع لقاءاته أكّدَ على أنَّ المسؤوليةَ تقعُ على الأطرافِ اللبنانية للخروجِ من حالةِ الشغورِ الرئاسي الحالية، وأنَّ بقاءَ حالة عدم الاستقرار تؤثّرُ في مصالح العديد من الدول وليس لبنان وحده، ومن ثم يجب التعامل بالجدّية الكافية للبحثِ عن حلولٍ تُسهِمُ في الخروج من حالةِ الجمود. وقد اجتمعَ سفراءُ دول “اللجنة الخُماسية” مُجَدَّدًا في بيروت يوم 20 شباط (فبراير) “لإعادة التأكيد على عزمهم على تسهيلِ ودَعمِ إنتخابِ رئيسٍ للجمهورية”. وأشارت السفارة الفرنسية في بيان، إلى أن السفراءَ “استعرضوا التطورات الأخيرة والإتصالات التي جرت في لبنان والمنطقة، كما تمت مناقشة الخطوات التالية الواجب إتّخاذها”.

ولكن يبدو اليوم أنَّ تصاعدَ الوضع في غزّة ورفح كما في جنوب لبنان قد أوقف تحرّكات فرنسا و”اللجنة الخماسية” حول انتخابات الرئاسة اللبنانية. كما إنَّ هذه الأطراف بدأت ترى أنَّ الحربَ التي قد تشنّها إسرائيل على لبنان أصبحت أمرًا لا يُمكِنُ استبعاده.

وبالتالي فإنَّ المسألةَ اليوم تدورُ بين رحى هذه النقاط المُتشابكة:

  • حاجة نتنياهو لإطالةِ أمدِ الحرب لأسبابٍ سياسيّة وشخصيّة تتعلّقُ برفعِ شعبيته وضَربِ خصومه، ولاستعادةِ المُبادَرة السياسية التي فقدها والتي بلغت حدّ خسارته الأغلبية في استطلاعات الرأي. لذلك هو يحتاج إلى شحنِ جمهوره بإمكانية لا بل بضرورة تحقيقِ نصرٍ ما في هذه الحرب مهما كان ثمن استمرارها وتوسّعها. لكنَّ البعضَ يرى أن نتنياهو لجأ أخيرًا إلى تصعيد الحرب في اتجاهِ رفح كتعويضٍ عن عدم إمكانية توسعة الحرب في لبنان، وتأكيدًا على سَعيه لكسبِ شعبيةٍ جديدة بوصفه القادر على حسم المعركة مع “حماس” إلى الأخير.
  • تصاعد الخلاف بين إدارة بايدن ونتنياهو حول أجندة الحرب خصوصًا لجهة ما أسماه الأميركيون “الانتقال إلى عملياتٍ أقل حدّة في غزة”. ويبرزُ في هذا الإطار خطابُ بايدن الأخير عن حال الأمة، وكلامُ بلينكن عن أنَّ خطةَ نتنياهو لِما بعد الحرب “حلمٌ لا يُمكِنُ تحقيقه”. وقد تصاعَدَ التوتّرُ بين الطرفَين على خلفيةِ تصريحاتِ وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش. وفي الفترة الأخيرة برزَ موقف واشنطن بشأن التوصل إلى هُدنةٍ إنسانيةٍ في قطاع غزة، وأنَّ وقفَ إطلاقِ نارٍ غير مشروط سيكون مُفيدًا ل”حماس”. وقالت الخارجية الأميركية أنها “لا تدعم عملية عسكرية شاملة في رفح في ظلِّ وجودِ أكثر من مليون مدني”، ولكن واشنطن “تدعمُ حقَّ إسرائيل في شَنِّ عمليةٍ عسكرية ضد “حماس”، لكن نُريدُ رؤيةَ حماية المدنيين أيضًا.. وحاليًا لا نعتقد بوجود طريقة لبدء العملية العسكرية من دون نقل بعض المدنيين والاستجابة لحاجاتهم الإنسانية”.
  • الإيرانيون لا يُريدون الحربَ وهم بتصعيدهم المُواجَهة في البحر الأحمر عبر الحوثيين يريدون توجيهَ رسالةٍ إلى أميركا (وأوروبا) بعدم السماح لإسرائيل، بجرِّ الولايات المتحدة إلى حربٍ إقليمية. فيما تعتمد واشنطن مخطّط “ضَبضَبة” الوضع من طريق التّفاوض والحلّ الدّيبلوماسي خشية التّورّط في حربٍ كبيرة وسط معارضة شعبيّة أميركية للحرب. ويبدو أنَّ الضغوطَ الأميركية والأوروبية على إيران تُرَكّزُ على مَنعِ تمدّدِ الحرب إلى لبنان والمنطقة وتوسّعها، ولكنها في المقابل تعتمدُ سياسة ردعية بهدف منع الحوثيين من تعطيل الملاحة والمصالح الغربية في المنطقة.
  • مع الحَربِ في غزّة ورفح والتصعيد اليومي على جبهة الجنوب، أصبح “حزب الله” يمتلكُ عددًا أكبر من الأوراق لفَرضِ شروطه الداخلية، والتمسّك أكثر بمرشّحه للرئاسة مُعتبرًا عن حق أنَّ الرسائل الدولية والإقليمية التي تصله حول ضرورة التهدئة في الجنوب وعدم الذهاب نحو الحرب تُعينه في مسعاه وتفتح له الباب واسعًا لصياغة وَضعٍ سياسي جديد في لبنان.

أخيرًا، إنَّ اتساعَ الهجمات الإسرائيلية إلى عمق الأراضي اللبنانية، قوبلَ بزيادة “حزب الله” لكمية القذائف الصاروخية التي يُطلقها، لكن ليس باتجاه عمق الأراضي الإسرائيلية. ولكن في الفترة الأخيرة حصل تصعيدٌ خطير، وهو مبادرة إسرائيلية بالأساس، ما ينذر باحتمالات الحرب الشاملة، وهذه نتيجة سعى الجانبان إلى الامتناع عنها، منذ بداية الحرب على غزة في 7 تشرين الأول (أكتوبر).

هذا التصعيد الأخير يُعبّر عن زيادةٍ كبيرة في الضغط الإسرائيلي، على أمل أن تتراجع قيادة “حزب الله” عن مواقفها. وهذا كلّه يحدث إثر الجمود في غزة ورفح، وفي ظل عدم التقدّم نحو صفقةِ تبادلِ أسرى ووقف إطلاق نار بين إسرائيل وحركة “حماس”.

والخوفُ الأكبر اليوم هو أن يقودَ نتنياهو المنطقة إلى حربٍ أوسع، يُمكِنُ أن تنسحبَ على لبنان، خصوصًا أنَّ مصلحته تقتضي إطالةَ أمَدِ الحرب.

  • الدكتور سعود المولى هو زميل أوّل زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية (قطر). أستاذ زائر سابق في معهد الدوحة للدراسات العليا ومدير قسم الترجمة السابق في المركز العربي للدراسات وبحوث السياسات (قطر). أستاذ سابق في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى