أشباحُ لبنان!

لرؤية ما ينتظرنا في غزة، أنظروا إلى الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982 وما نتجَ عنه.

الرئيس جو بايدن: هل يفعل مع نتنياهو ما فعله رونالد ريغان مع مناحيم بيغن؟

سارة باركنسون*

يُسَمِّيهِ الناسُ الآن مُخَيَّم الشهداء. هذا المُخيّم للاجئين الفلسطينيين الذي يقع بين تلالٍ خلّابة وبساتين حمضيات بالقرب من الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، كان موطنًا لجهازِ تجنيدٍ اجتماعي وسياسي ومتشدّد واسع النطاق أنشأته المنظمات الفلسطينية. لذا، عندما بدأ الغزو، كان على رأس قائمة إسرائيل. أوّلًا، حاصرت القوات شبه العسكرية المدعومة من إسرائيل المخيم مع مَن فيه من المدنيين. وبعد ذلك وصلت عشرين دبابة تابعة للجيش الإسرائيلي. وطبقًا لشهود عيان، فإن هذه الدبابات أطلقت النار على سلالم وأدراج المباني –وهي في كثير من الأحيان أضعف نقطة في المبنى– لتدميرِ طُرُق الهروب واختراق الملاجئ تحت الأرض. وأعقب هذا القصف غارات جوية مُكَثَّفة. أصابت قنبلة مركزًا مجتمعيًا؛ ومن بين المدنيين الـ96 الذين لجَؤوا هناك، لم يبقَ سوى اثنين على قيد الحياة. وصمدت الميليشيات الفلسطينية في المخيم لمدة ثلاثة أيام ونصف. وفي نهاية المطاف، استخدم الجيش الإسرائيلي أيضًا قنابل الفوسفور الأبيض لإخضاعهم. ويقول الناجون إنهم يتذكّرون الآثار الغائمة التي تركتها المادة الكيميائية في الهواء، إلى جانب الحروق السوداء التي تشبه الحفرة التي تركتها على جلد الناس. ووفقًا لزعماء المخيم، فقد أسفرت المعركة عن مقتل ما يقرب من 2600 شخص من سكان المخيم البالغ عددهم 16,000 نسمة.

قد يكون هذا الهجوم مَشهدًا من حرب إسرائيل الحالية في غزة، حيث استخدم الجيش الإسرائيلي الدبابات والغارات الجوية و(وفقًا لجماعات حقوق الإنسان) الفوسفور الأبيض في هجماته على المدن الفلسطينية ومخيمات اللاجئين. لكن المعركة حدثت أصلًا خلال صراعٍ حدث قبل 41 عامًا. كان الهجوم على مخيم البرج الشمالي، وهو الاسم الرسمي لمخيم الشهداء، واحدًا من أولى المعارك الحضرية خلال الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982. بدأت الحرب بعد أن حاولت مجموعة فلسطينية هامشية اغتيال سفير إسرائيل لدى المملكة المتحدة. وكان الهدف المباشر للغزو هو القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، وفصائلها الفدائية (ومن بينها حركة “فتح” والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، وغيرها من الجماعات الفلسطينية المسلحة. ولكن كان للمسؤولين الإسرائيليين طموحاتٌ أخرى أيضًا. وبينما استهدفت البنية التحتية العسكرية والمدنية الفلسطينية في جنوب لبنان، كان القادة الإسرائيليون يأملون في إنشاء منطقة عازلة على طول الحدود الإسرائيلية-اللبنانية، وإنهاء الوجود السوري في لبنان، وتنصيب حكومة مسيحية يمينية صديقة في بيروت.

إنَّ أوجهَ التشابه بين غزو إسرائيل للبنان وعملياتها في غزة تتجاوز مجرد اختيار التكتيكات. ثم، كما هو الحال الآن، بدأ الغزو بعد هجوم فلسطيني مُروّع. وآنذاك، كما هي الحال الآن، اختار قادة إسرائيل الصقور الرد الأقصى. وآنذاك، كما هي الحال الآن، كان قسمٌ كبيرٌ من القتال يدور في مناطق حضرية مكتظّة بالسكان، حيث كان المسلحون ينتشرون في كثير من الأحيان بين المدنيين. وفي ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، استخدم الجيش الإسرائيلي القوّة العسكرية غير المُتناسبة.

وهذا التوازي ليس مُشَجِّعًا. إذا كان لنا أن نسترشد بلبنان فإنَّ حربَ إسرائيل في غزة سوف تنتهي بشكلٍ سيئ بالنسبة إلى كلٍّ من الفلسطينيين والإسرائيليين. ورُغمَ تفوّقها العسكري، لم تنجح إسرائيل قط في القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية. وبدلًا من ذلك، كانت الإنجازات الأساسية للجيش الإسرائيلي هي قتل عشرات الآلاف من المدنيين؛ وتجزئة الجماعات الفلسطينية إلى خلايا أصغر أمضت سنوات في تنفيذ عمليات كرٍّ وفرّ؛ وإلهام صعود حزب لبناني متشدّد جديد، “حزب الله”؛ وخسارة أكثر من 1000 من مواطنيها في احتلالٍ امتد حتى العام 2000. وهو النمط الذي بدأ يتكرر بالفعل مرة أخرى. حتى 12 تشرين الثاني (نوفمبر)، عندما قطع هجوم الجيش الإسرائيلي الاتصالات مع العديد من مستشفيات غزة، كان ما لا يقل عن 11 ألف مدني فلسطيني ماتوا بسبب القتال، وهو رقمٌ سيستمر في الارتفاع. وأدّى الهجومُ الذي شنّته “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) إلى مقتل نحو 1200 إسرائيلي، أغلبهم من المدنيين، وزعمت “حماس” أن بعضًا من الرهائن الإسرائيليين الـ 240 الذين تم أسرهم أثناء التوغل لقوا حتفهم في قصف القوات الإسرائيلية. كما فقد الجيش الإسرائيلي ما لا يقل عن 39 جنديًا في غزة أيضًا.

بعد كل هذا، فمن غير المرجح أن تتمكن إسرائيل من القضاء على “حماس” أو “الجهاد الإسلامي الفلسطيني”. وقد تؤدي العملية العسكرية إلى إضعافهما إلى حدٍّ كبير، كما فعل الجيش الإسرائيلي مع منظمة التحرير الفلسطينية والعديد من فصائل حرب العصابات في العام 1982. لكن الجماعتين ستُعيد تشكيل نفسيهما، وسوف تظهر منظمات أخرى لملءِ أيِّ فراغ – تمامًا كما فعلت الجماعات الإسلامية في أواخر الثمانينيات الفائتة. وبدلًا من ذلك، فإنَّ ما سيكتشفه صنّاعُ القرار الإسرائيليون هو أمرٌ كان ينبغي عليهم أن يفهموه أصلًا، ويعرفه الخبراء الإقليميون منذ سنوات: لا يوجد حلٌّ عسكري للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.

فيتنام الإسرائيلية

يعيش اللاجئون الفلسطينيون في لبنان منذ نكبة العام 1948 عندما أُجبِرَ أكثر من 700 ألف فلسطيني على ترك أراضيهم بسبب الجماعات شبه العسكرية الصهيونية التي عملت على طرد العرب من الأراضي التي أصبحت في ما بعد إسرائيل. وقد فرَّ ما بين 100,000 إلى 130,000 من هؤلاء اللاجئين إلى لبنان. وهناك، استقرَّ معظم الفلسطينيين –بشكلٍ مؤقت كما افترضوا– في المدن الساحلية اللبنانية. وذهب أفقرهم إلى مخيمات اللاجئين. وقد منعت القوانين اللبنانية الفلسطينيين من امتلاك العقارات، أو العمل في 72 مهنة مختلفة، أو التجنّس، ما أدى إلى انزلاقِ الكثيرين إلى الفقر الدائم ووضعٍ من الدرجة الثانية.

في العام 1969، أبرمت السلطات اللبنانية والفلسطينية اتفاق القاهرة، الذي حوّلَ إدارة مخيمات اللاجئين من المكتب الثاني (المخابرات العسكرية اللبنانية) إلى منظمة التحرير الفلسطينية. ثم أمضت منظمة التحرير الفلسطينية سنوات في إنشاء جهاز واسع للحُكمِ والخدمة الاجتماعية في لبنان من خلال الفصائل المسلحة المُكَوِّنة لها. وقد قامت تلك الفصائل المسلحة، مثل حركة “فتح” والجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، ببناء رياض الأطفال والعيادات الطبية كما قامت برعاية مجموعات الكشافة وفرق الرقص. وفي الوقت نفسه، أدارت معسكرات تدريب وقامت بتجنيد أعدادٍ كبيرة من اللاجئين المُهَمَّشين، وكذلك من المجتمعات اللبنانية، مما حوَّلَ جنوب لبنان إلى قاعدة يمكن منها إطلاق صواريخ الكاتيوشا وعمليات التمرّد القاتلة على بلدات شمال إسرائيل. وردت الدولة العبرية بقصف المخيمات الفلسطينية والقرى الحدودية اللبنانية بشكل متكرر، فضلًا عن قيامها باغتيالات مستهدفة وغارات الكوماندوز.

ونَفَّذَ الجيش الإسرائيلي أيضًا عملياتٍ أكبر، لم تكن عملية “سلام الجليل” -الإسم الإسرائيلي لغزوها في العام 1982- هي الأولى منها. في الواقع، قام الجيش الإسرائيلي بغزو جنوب لبنان قبل أربع سنوات من ذلك ردًّا على عملية اختطاف حافلة عبر الحدود بقيادة “فتح” والتي أسفرت عن مقتل العشرات من الإسرائيليين. كان غزو العام 1978 أصغر من غزو العام 1982، لكنه أدى إلى نزوح أكثر من 285 ألف شخص من جنوب لبنان وقتل الآلاف من المواطنين اللبنانيين والفلسطينيين. وانتهت باعتماد قرارَين من مجلس الأمن الدولي يدعوان إلى انسحاب إسرائيل، وإنشاء قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، واتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. لكن العملية لم تُضعف الحركة المسلّحة الفلسطينية.

تمَّ تصميم عملية “سلام الجليل” لتكون أكثر اتساعًا وحسمًا من خطة العام 1978. ولكن في البداية، كان من المُفترَض أيضًا أن تكون سريعة. خطّطَ صنّاع القرار العسكريون والاستخباراتيون في الأصل لهذه المهمة على أنها عملية مدتها 48 ساعة يقوم فيها الجيش الإسرائيلي بالقضاء على البنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية ومنشآت حرب العصابات داخل منطقة حدودية يبلغ طولها 40 كيلومترًا قبل الانسحاب منها.

لكن عندما أُطلِقَت عملية “سلام الجليل” في أوائل حزيران (يونيو)، تأثرت على الفور بتوسّع المهمة والتفكير الجماعي. كان رافائيل إيتان، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، وأرييل شارون، وزير الدفاع، عدائيين بشكلٍ خاص، ودفعا الجيش إلى التوغّل في عمق الأراضي اللبنانية أكثر مما كان مُخَطَّطًا له. واتُّهِمَ شارون، مثله كمثل رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو، بمتابعة الحرب لخدمة مصالحه السياسية. (تُظهر استطلاعات الرأي الإسرائيلية المحلية مستويات بالغة السوء من الدعم لنتنياهو، الذي يُحاكَم بتهمة الفساد وربما يُطيحه ذلك عندما تنتهي الحرب).

يُهَيمِنُ المتشددون على حكومة نتنياهو، مثل حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن في العام 1982، وعلى هذا فإنَّ الحرب تتخذ مسارًا عدوانيًا. وتقاتل القوات الإسرائيلية بالفعل داخل أكبر مدينة في غزة، والهدف الأقصى للحكومة -استئصال “حماس”- يعني عدم وجود استراتيجية واضحة لكيفية ومتى يجب أن ينتهي القتال. وفي لبنان، كلفت استراتيجية عدوانية وغير دقيقة مماثلة عشرات الآلاف من أرواح المدنيين ودمّرت البنية التحتية للبلاد. حتى أن شارون وإيتان أمرا الجيش الإسرائيلي بفرضِ حصارٍ على بيروت خلال صيف العام 1982، وبالتالي قطع المياه والغذاء والكهرباء والنقل عن سكان العاصمة الذين يزيد عددهم عن 620 ألف نسمة لأكثر من شهر. وفي نهاية المطاف، أجبرت إسرائيل منظمة التحرير الفلسطينية والمقاتلين الفلسطينيين على الانسحاب، ولكن فقط بعد مقتل ما لا يقل عن 6775 من سكان بيروت، من بينهم أكثر من 5000 مدني.

تفرضُ إسرائيل حصارًا أكثر شمولًا على غزة، ويؤدي إلى نتائج كارثية مماثلة. لكن لا يبدو أن القادة الإسرائيليين منزعجون من التكاليف الإنسانية. على سبيل المثال، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أن بلاده تحارب “حيوانات بشرية” وسوف تتصرّف على هذا الأساس. ويعكس خطه مشاعر إيتان، الذي تفاخر في نيسان (أبريل) 1983 بأنه بمجرد أن “يستوطن الإسرائيليون الأرض، فإنَّ كلَّ ما يستطيع العرب فعله حيال ذلك هو الركض مثل الصراصير المخدَّرة في زجاجة”.

ويوضح تقييم إيتان المثير للدهشة جُزءًا من الأسباب التي جعلت الجيش الإسرائيلي يواجه الكثير من المتاعب في جنوب لبنان. واقتناعًا منهم بتفوّقهم، لم يتوقّع القادة العسكريون الإسرائيليون أو يتدرّبوا بشكلٍ مناسب على مواجهة مقاومةٍ فلسطينية أو لبنانية مكثّفة. ونتيجةً لذلك، عندما تحركت القوات الإسرائيلية على الطريق السريع الساحلي الذي يربط بين المدن الكبرى في لبنان، كانت في كثير من الأحيان تطغى عليها المقاومة الشرسة التي واجهتها في مخيمات اللاجئين الفقيرة المكتظة بالسكان والمجتمعات اللبنانية المحلية. حتى مع انهيار العديد من وحدات جيش التحرير الفلسطيني وفرار قادة حرب العصابات تحت نيران الجيش الإسرائيلي، تمكنت الميليشيات على مستوى المعسكرات -أي المجموعات المُخصَّصة للدفاع عن مجتمعاتها المحلية- بشكلٍ فردي من صدِّ الجيش الإسرائيلي لأيامٍ عدة من طريق توريطه في حرب المدن وتفجير الدبابات وقتل العديد من الضباط والجنود الإسرائيليين.

لننظر، على سبيل المثال، إلى معركة الجيش الإسرائيلي للسيطرة على عين الحلوة، وهو مخيم للاجئين في مدينة صيدا. لمدة أسبوع كامل، تمكنت مجموعات من رجال الميليشيات الفلسطينية من إحباط هجومات الجيش الإسرائيلي من خلال المراوغة عبر الأزقة المُتعرِّجة، والمباني العشوائية، والأنفاق تحت الأرض ومن ثمَّ نصب الكمائن للقوات الإسرائيلية. لقد فجّروا الناقلات الشخصية المدرعة والدبابات التابعة للجيش الإسرائيلي باستخدام الأسلحة الصغيرة فقط. اشتهر شابٌ فلسطيني واحد على الأقل بقدرته على ضرب أبراج الدبابات في المكان الصحيح تمامًا بالقذائف الصاروخية، ما أدى إلى تدمير مفاصل الدبابات وتعطيل المركبات وكشف الجنود بداخلها. كان المخيم قاتلًا للإسرائيليين لدرجة أن الجيش الإسرائيلي كان ينسحب كل ليلة بحثًا عن الأمان، وكان يضحّي بالمكاسب الإقليمية التي حققها خلال النهار. وفي نهاية المطاف، لجأ الجيش الإسرائيلي إلى قصف المخيم بالذخائر التقليدية والأسلحة الحارقة، بما في ذلك الفوسفور الأبيض، من أجل الاستيلاء عليه وتجريف الأنقاض ومواصلة التقدّم شمالًا.

لم يكن القتال على المستوى الأرضي هو الطريقة الوحيدة التي سعت بها إسرائيل للقضاء على المقاومة. لقد استخدم الجيش أيضًا الاعتقالات الجماعية، حيث اعتقل 9,064 رجلًا فلسطينيًا ولبنانيًا في معسكر اعتقال واحد في العام 1982. لكن هذا أيضًا جاء بنتائج عكسية على الجيش الإسرائيلي. بعد تعرضهم للاستجواب والضرب، قام النزلاء -ولم يكن جميعهم من المسلّحين- بالانتفاضة والهروب. عاد العديد من مقاتلي حرب العصابات إلى فصائلهم السابقة واستمروا في القتال. كما أدى الحبس الجماعي وتدمير المخيمات إلى خلق أعدادٍ كبيرة من النساء والأطفال وكبار السن الفلسطينيين المشرَّدين الذين لم تكن القوات الإسرائيلية مستعدة لمساعدتهم، والذين تحوّلوا إلى بعض أقوى منتقدي الجيش الإسرائيلي. على سبيل المثال، قامت حركة احتجاجية تقودها نساء فلسطينيات في عين الحلوة بالاتصال بمجموعات حقوق الإنسان الدولية، والمنظمات الإعلامية، والأمم المتحدة في محاولة ناجحة للفت الانتباه إلى محنتهن. نظمن مظاهرات، وأغلقن الطرق، وأحرقن بشكل رمزي الخيام غير الكافية التي قدمتها الأمم المتحدة، وهي أفعال أبلغ عنها ونشرها الصحافيون ومنظمات حقوق الإنسان. وتلقت سمعة إسرائيل الدولية، التي كانت تكافح أصلًا، ضربة سيئة أخرى.

اليوم، لم تتحسّن سمعة إسرائيل كثيرًا. بعد تدفق التعاطف الدولي في أعقاب الهجوم الوحشي الذي شنّته “حماس”، ركّزت القصص الإخبارية حول الصراع بشكلٍ متزايد على المذبحة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة. ونشرت وسائل الإعلام الدولية قصصًا عن العنف الذي تمارسه ميليشيات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية أيضًا. ووفقًا لتقارير نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، ورويترز، ومنظمات حقوق الإنسان، فقد قتل المستوطنون في الضفة الغربية ثمانية فلسطينيين منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، من بينهم طفل. وقد قتل الجيش الإسرائيلي، الذي يحمي المستوطنين، ما لا يقل عن 167 آخرين، من بينهم 45 طفلًا. وبالإضافة إلى قتل الفلسطينيين، استخدم المستوطنون عمليات الحرق المتعمَّد والاعتداءات المسلحة والتهديدات بالقتل لطرد ما يقرب من 1000 مواطن فلسطيني من قراهم. تشبه هذه الهجمات أعمال العنف التي نفذتها الميليشيات اللبنانية اليمينية في العامين 1982 و1983، والتي هددت وطردت السكان الفلسطينيين في صيدا – مرة أخرى تحت مراقبة الجيش الإسرائيلي.

في الواقع، ساعد التحالف بين الجيش الإسرائيلي والميليشيات على إنتاج ما أصبح يُعرف بأكبر وأشهر مذبحة لعملية “سلام الجليل”. بعد أن قتلت قنبلة الرئيس اللبناني المنتخب بشير الجميل في أيلول (سبتمبر) 1982، احتل الجيش الإسرائيلي بيروت الغربية وحاصر مخيم صبرا وشاتيلا للاجئين. وقام الجيش الإسرائيلي بعد ذلك بمنع الفلسطينيين من الدخول أو الخروج من المخيم أو الأحياء المحيطة به. لكنه سمح لرجال الميليشيات اللبنانية المسيحية المتحالفة معه بالدخول إلى المنطقة. وعلى مدى يومين متتاليين، اجتاح رجال الميليشيات المنطقة المحيطة بمخيم صبرا وشاتيلا، فقتلوا ما لا يقل عن 2,000 مدني فلسطيني وارتكبوا مجموعة من الفظائع الأخرى، بما في ذلك التعذيب وأعمال العنف الجنسي. وفي هذه الأثناء، قصف الجنود لإسرائيليون المنطقة وأضاؤوها بالقنابل المضيئة.

أثارت المذبحة غضب الناس في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك داخل إسرائيل. وانضم ما يقرب من 350 ألف إسرائيلي إلى مظاهرة في أنحاء البلاد للمطالبة باستقالة بيغن وشارون، ما دفع الحكومة إلى إجراء تحقيق عام في المذبحة. ووجدت لجنة كاهان أن شارون كان مسؤولًا شخصيًا عن أعمال العنف، وأعلنت أن تصرفات إيتان كانت “بمثابة انتهاك للواجب”. أُجبر شارون على الاستقالة وتقاعد إيتان، كلاهما في العام 1983. وتنحى بيغن في وقت لاحق من ذلك العام.

الماضي كسابقة

امتدت المفاوضات حول الحرب، التي توسط فيها جُزئيًا المبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط السفير فيليب حبيب، طوال صيف العام 1982. وفي آب (أغسطس)، اتفق الطرفان على وقف إطلاق النار. وبموجب شروطه، قامت منظمة التحرير الفلسطينية وأعضاء الفصائل الفدائية –حوالي 14,398 شخصًا– بإخلاء لبنان. كما اتفقت القوات الإسرائيلية والسورية على الانسحاب من بيروت. وتم تشكيل بعثة لحفظ السلام مكوَّنة من جنود من المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا في آب (أغسطس) لتسهيل عملية الإخلاء وحماية المدنيين الفلسطينيين والمساعدة على الحفاظ على وقف إطلاق النار. انتقلت منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس حيث افتتحت مقرها هناك، في حين توزعت فصائل حرب العصابات الأخرى إلى مواقع في بلدان عربية مختلفة. ووقعت مذبحة صبرا وشاتيلا بعد أقل من شهر.

كانت المذبحة مجرد واحدة من المؤشّرات العديدة التي تشير إلى أن هزيمة منظمة التحرير الفلسطينية لم تكن نهاية الحرب. ولم تكن تلك نهاية منظمة التحرير الفلسطينية أيضًا. وعلى الرغم من نجاح إسرائيل في قتل العديد من قادة حرب العصابات وحرمان منظمة التحرير الفلسطينية من قاعدتها في لبنان، إلّا أنَّ المنظمة أعادت تجميع صفوفها في تونس. وقد واصلت إسرائيل احتلالَ جُزءٍ كبير من جنوب لبنان، وشكل المقاتلون الفلسطينيون الذين نجوا من عملية سلام الجليل خلايا ووحدات جديدة واستمرّوا في قتال إسرائيل. أثبتت هذه المجموعات، المنفصلة عن هيكل القيادة والسيطرة الرسمي، قدرتها على شنِّ هجماتٍ عنيفة وفوضوية على قوات الاحتلال الإسرائيلي واستهداف المتعاونين مع الجيش الإسرائيلي. عملت الجماعات الفلسطينية أيضًا في بيئةٍ تتشكّل بشكلٍ متزايد من خلال المقاومة اللبنانية المحلية للاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك “حزب الله” – الذي تم إنشاؤه بدايةً لطرد الجيش الإسرائيلي- والجماعات اليسارية مثل الحزب الشيوعي اللبناني. وبشكلٍ جماعي، ثبت أنه من المستحيل هزيمة هذه المنظمات. احتلت القوات الإسرائيلية مناطق في جنوب لبنان لمدة 18 عامًا أخرى، وقامت بشنّ غاراتٍ عدة واعتقالات عديدة. ولكن على الرغم من كل قدراته –الضربات الجوية وعملاء المخابرات ودوريات الجيب ووحدات الكوماندوز– لم يتمكن الجيش الإسرائيلي من القضاء على خصومه.

إن النتائج في غزة سوف تعتمد على المفاوضات حول قضايا مختلفة تمامًا عن تلك التي كانت موجودة في لبنان. الأخير دولة ذات سيادة لها حكومتها ومواطنيها واقتصادها وديناميكياتها المعقدة. (إن استضافة منظمة التحرير الفلسطينية والمقاتلين الفلسطينيين أدت إلى إحداث إسفين في السياسة الداخلية اللبنانية وساعدت على تأجيج الحرب الأهلية التي دامت 15 عامًا في البلاد). أما غزة فهي عبارة عن أرض فلسطينية تقول المنظمات الدولية وجماعات حقوق الإنسان إن إسرائيل تحتلها، وتفرض عليها، إلى جانب مصر، حصارًا دام 16 عامًا. ليس لديها اقتصاد قائم بذاته أو السيطرة على الكهرباء والمياه.

لكن الدروس العسكرية والإنسانية التي تفيدنا من لبنان تشير بقوة إلى أن الظروف الكارثية الحالية في غزة سوف تزداد حدة، وأنَّ العواقبَ الكارثية طويلة الأمد سوف تترتب على كافة الأطراف. النهج الذي تتبعه إسرائيل منذ فترة طويلة في حرب المدن، وخططها للاحتلال (قال نتنياهو إن إسرائيل ستتولى “المسؤولية الأمنية الشاملة” عن غزة “لفترة غير محددة من الزمن”)، وتحالفاتها مع الميليشيات غير الحكومية (من المستوطنين)، واستخدامها للسجن الجماعي كله يردد ما حدث في لبنان. ولذلك فمن الصعب أن نتصوّر أن النتيجة ستكون مختلفة بشكلٍ جوهري.

يمتد ذلك، للأسف، إلى عدد القتلى. لا أحد يعرف على وجه التحديد عدد الأشخاص الذين قتلوا في حرب العام 1982؛ ولا تشمل السجلات الرسمية الأشخاص المدفونين تحت الأنقاض، أو الأشخاص الذين دفنتهم عائلاتهم في الساحات أو على سفوح التلال، أو الأشخاص الذين اختفوا خلال أحداث مثل مجزرة صبرا وشاتيلا. لكن وفقًا لتقديرات الحكومة اللبنانية وسلطات المستشفيات، قتلت عملية “سلام الجليل” 19,085 لبنانيًا وفلسطينيًا في الأشهر الأربعة التي تلت بدايتها، حوالي 80 في المئة منهم من المدنيين. وقدّرت منظمة التحرير الفلسطينية أن 49,600 مدني قتلوا أو جرحوا، وأن هناك 5300 قتيل عسكري. وفي تلك الأشهر الأربعة نفسها، تم الإبلاغ عن مقتل 364 جنديًا إسرائيليًا أثناء القتال وإصابة 2388 آخرين. وعلى مدار حرب لبنان برمتها والاحتلال اللاحق لجنوب لبنان من العام 1982 إلى العام 2000، قُتِلَ 1216 جنديًا إسرائيليًا، معظمهم في اشتباكات مع “حزب الله”.

وبطبيعة الحال، فإن أعداد الضحايا الفلسطينيين تفوق أعداد الضحايا الإسرائيليين – وهو مؤشر آخر إلى مدى عدم تناسب تكتيكات الجيش الإسرائيلي. وهذا لا يجعل الخسائر الإسرائيلية ضئيلة. الضرر حقيقي للغاية، ويمتد إلى ما هو أبعد من مجرد الوفيات والإصابات الجسدية. قدّرت دراسة أجراها المركز الإسرائيلي للصدمة والمرونة أنَّ ما يقرب من 20% من 70 ألف إسرائيلي خدموا في حرب العام 1982 تظهرُ عليهم أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، وأن 11% منهم فقط طلبوا العلاج. يُشار إلى لبنان بأنه “فيتنام إسرائيل” لسببٍ وجيه.

على الرُغم من العواقب المُحتَمَلة اليوم، إلّا أنَّ إسرائيل ليست على استعداد للنظر في وقف إطلاق النار، زاعمةً أن ذلك يعني انتصار “حماس”. هذا مُضَلِّل. إن المنتصرين الحقيقيين من وقف إطلاق النار هم المدنيون والحركات الاجتماعية اللاعنفية، التي طالما دعا العديد منها إلى إنهاء الاحتلال والحصار والمستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، والاعتراف بالمساواة الفلسطينية باعتبارها ضرورة أساسية للأمن الإسرائيلي والفلسطيني. في المقابل، فإن الخاسرين من وقف إطلاق النار هم “حماس” والمتشددون الإسرائيليون، وكلاهما يلاحقان أنماطًا متطرفة من العنف ــولو بدعم من قوة المؤسسة العسكرية التابعة للدولة وأجهزة مراقبة ضخمةــ لتحقيق أهدافهما الإيديولوجية. على سبيل المثال، دعا بعض المتطرفين الإسرائيليين علنًا إلى تطهير غزة أو دفع سكان غزة إلى مصر. ولا يمكن لأيٍّ من هذه النتائج أن تحدث من دون إطلاق الرصاص.

نظرًا إلى التوترات الشديدة الحالية، فمن الصعب أن نقول كيف ومتى يمكن أن تنتهي هذه الحرب. لقد أصبحت قطر مركزية بشكل متزايد كوسيط في هذا الصراع، حيث قامت بالوساطة بين “حماس” وإسرائيل والولايات المتحدة. لكن واشنطن هي الجهة الفاعلة الوحيدة التي يمكنها الضغط بشكلٍ فعال على الحكومة الإسرائيلية لوقف القتل الجماعي في غزة والعنف في الضفة الغربية. ويبقى أن نرى ما إذا كانت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ستفعل ذلك. وحتى الآن، يرفض بايدن بشدة مثل هذه المطالب، مُرَدِّدًا ادعاءات إسرائيل بأنَّ وقفَ إطلاق النار سيفيد “حماس”. وقد نجح المسؤولون الأميركيون في دفع إسرائيل إلى قبولِ سلسلةٍ من “التوقفات الإنسانية” لمدة أربع ساعات لإيصال المساعدات. وبالنظر إلى حجم المساعدة المطلوبة، وضراوة الأعمال العدائية، فمن المرجح أن يكون لها تأثير دائم ضئيل في رفاهية المدنيين في غزة. ولكن نأمل أن يقرر بايدن في النهاية الضغط من أجل نهاية فعلية.

إذا فعل بايدن ذلك، فإنه سيتبع سابقة أرساها رئيسٌ أميركي آخر: رونالد ريغان. عندما بدأت حرب لبنان، انقسمت إدارة ريغان: فقد أراد البعض المطالبة بالانسحاب الفوري لإسرائيل تحت التهديد بفرض عقوبات، في حين رأى آخرون أن منظمة التحرير الفلسطينية وسوريا لا بدّ أن تُرغَما على الانسحاب أيضًا. لكن مع تحوّلِ الصراع إلى كابوسٍ إنساني، أصبح الرئيس أكثر انتقادًا. في تموز (يوليو) 1982، أوقف البيت الأبيض شحنات الذخائر العنقودية إلى إسرائيل، مُعلنًا أن الإسرائيليين انتهكوا اتفاقيات الأسلحة بعدم استخدام هذه الأسلحة في المناطق المدنية. بعد قصف الجيش الإسرائيلي المميت بشكلٍ خاص خلال حصار بيروت، اتصل ريغان ببيغن وطالب الجيش الإسرائيلي بوقف القصف. وللقيام بذلك، استخدم مصطلحات عاطفية عميقة. قال ريغان: “هنا، على تلفزيوننا، ليلة بعد ليلة، تُعرَضُ على شعبنا رموز هذه الحرب، وهي محرقة”. في نيسان (أبريل) 1983، أعلن أن إدارته أوقفت مبيعات طائرات “أف-16” (F-16) لإسرائيل، وقال إنها لن تُستأنف حتى انسحاب الدولة العبرية من لبنان.

هناك أدلة على أن مطالب الإدارة الأميركية أجبرت صنّاع القرار الإسرائيليين على تغيير سلوكهم. في تموز (يوليو) 1982، كتبت صحيفة واشنطن بوست عن الاعتدال “الملفت للنظر” في سلوك الحكومة الإسرائيلية – واستشهدت بريغان باعتباره السبب الرئيس. وجاء في المقال: “ذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن العامل الرئيس في “المرونة” الجديدة لحكومة بيغن كان الرسالة الصارمة التي وجهها الرئيس ريغان في الأسبوع الماضي”.

واليوم، يجب على بايدن استخدام النفوذ الأميركي مرة أخرى للضغط من أجل إنهاء الحرب الإسرائيلية. إنَّ وقفَ إطلاق النار هو السياسة الوحيدة المعقولة سياسيًا والمُعَزِّزة للأمن والتي يمكن الدفاع عنها أخلاقيًا، خصوصًا إذا كان لدى واشنطن أي أمل في البقاء لاعبًا محترمًا في الشرق الأوسط. والبديل هو الحُكم على سكان غزة ـ لذين يعارض معظمهم “حماس”ـ بمزيد من القنابل والرصاص والحروق، وجعلهم يتحملون الجفاف المستمر والجوع والمرض. إن هذا الوضع يأخذ جيبًا فقيرًا ومكتظًا بالسكان أصلًا وجعل أي فرصة متاحة له للتنمية معدومة إلى عقود من الزمن. ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى خلق جيلٍ جديد من المُسَلَّحين والناشطين الذين يخاطرون بحياتهم لمحاربة إسرائيل. “لقد حدث كل هذا من قبل” هي أقوى حجة لمنع حدوث شيء ما مرة أخرى.

  • سارة باركنسون هي أستاذة مساعدة في العلوم السياسية والدراسات الدولية في جامعة جونز هوبكنز. وهي مؤلفة كتاب “ما وراء الخطوط: الشبكات الاجتماعية والمنظمات الفلسطينية المسلحة في لبنان في زمن الحرب”. وقد أجرت عملًا ميدانيًا مكثفًا بين اللاجئين الفلسطينيين والسوريين في لبنان وكذلك مع المستجيبين الإنسانيين في كردستان العراق.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى