“قندلفت يصعد إِلى السماء”: ضحكة المرارة في الكوميديا السوداء

هنري زغيب*

المسرحُ إِيقاع.. والإِخراجُ إِدارة ممثلين.. في الإِيقاع يَدخل النص وأَداؤُه.. في إِدارة الممثلين يَدخل “كيف” يكون الأَداء..

رفْعت طربيه نجح بالاثنين معًا: ضبط الإِيقاع و”كيفية” الأَداء، في توقيعه إِخراج “قندلفْت يصعد إِلى السماء”، مسرحية  ريمون جبارة المستعادة الرابعة من رباعية “4 لـريمون” التي نسجِّل بتحيةٍ عالية جرأَةَ جوزيان بولس لإِنتاجها هذه الرباعية على “مسرح مونو” وهي تديره منذ سنوات وحوَّلَتْهُ نقطةَ ضوءٍ للمسرح اللبناني في لبنان الوطن وسْطَ عتمة الأَوضاع المنهارة في لبنان الدولة.

قبل 45 سنة

“قندلفت يصعد إِلى السماء” كان ريمون جبارة (1935-2015) قدَّمها في موسم 1979-1980 على مسرح “سِتْ إِنّ” (Sit-in)-طبرجا.. وكانت لافتةً فيها نبضةُ ريمون الجريحة الحادَّة إِنسانيًّا حتى أَنني، حين شاهدتُها يومذاك في عرضها الأَول قبل 45 سنة وكتبتُ عنها، لم أَستطع تجاهل تلك النبضة في مقالي فجعلتُ عنوانَه: “قندلفت يصعد إِلى السماء: ساديَّة أَرابال تنقلب آخًا إِنسانية مع ريمون جبارة” (“النهار العربي والدولي” – السنة الرابعة – العدد 191 – الإِثنين 29 كانون الأَول/ديسمبر 1979 – الأَحد 4 كانون الثاني/يناير 1980).

اليوم، بعد 45 سنة، وبإِخراج رفْعت طربيه على “مسرح مونو”، ما زالت تلك “الآخ” ذاتُها حادَّةً تُوجِع مشاهديها، لشدَّة ما في نص ريمون جبارة من أَلَمٍ في ثنايا حواره ورموزه وأَلغازه مع أَنه لم يؤلِّفْها بل اقتبَس معظمها عن آرابال الغرائبي هو الآخر.

آرابال: النص الأَصليّ

كان الكاتب الإِسباني فرناندو آرابال (م. 1932 في ميليليا) وضع مسرحيته هذه بعنوان “احتفال لزنجي قتيل” سنة 1965، وصدرَت سنة 1986 في أَعماله المسرحية الكاملة (نحو 100 مسرحية) في مجلَّدين من 2000 صفحة.. وأَولُ عرض لها كان سنة 1966 بإِخراج أَندريه بينيديتُّو في “مهرجان أَفينيون للمسرح”.. يومها قطفَت نجاحًا استثنائيًّا لأَن كاتبها كان سنة 1955 هاجر إِلى باريس هربًا من إِسبانيا وحكْم الدكتاتور فرنكو الذي هدَّده بالاعتقال كما اعتَقل قبله أَباه وحكَم عليه بالإِعدام لأَنه مُعارِض.. من هنا المرارة والسادية في مسرحيته تلك.. وريمون جبارة، في اقتباسه إِياها وإِخراجه، لم يَخرج عن تينك المرارة والسادية، فحمَّلها جرعات خاصة وشخصية من كوميدياه السوداء وعبَثيته التي نعرفها في معظم مسرحياته.

أَبرزَهم ممثلين فأَبرزُوه مُخرجًا

رفْعت طربيه قدَّم هذه المسرحية برؤْيته الإِخراجية الخاصة، مع أَنه قبل 45 سنة لعب دور “القندلفت”، ليلةً منه وليلةً من ريمون جبارة الذي حنَّ فترتئِذٍ إِلى التمثيل فلَعِب الدور تبادُلًا مع رفْعت.. يومَها لعبَت رضى خوري دور “لوسيا” (اليوم تلعبه يارا زخُّور)، ولعِب كميل سلامة دور “فنسان” (اليوم يلعبه طوني فرح)، ولعِب منير معاصري دور “منصور” (اليوم يلعبه وسام بتدِّيني)، ويلعب اليوم محمد حجيج دور “القندلفت”.. سوى أَن رفْعت طربيه اليوم لم يلتزم بإِخراج ريمون جبارة الأَمس، فعمِل على نمط إِخراجيّ شخصي آخَر، وأَعطى المسرحية مناخًا من مزاجهِ، فنجح في عرضها بإِيقاعه الخاص المختلف، وأَدار فريقَه الرباعيّ فنجَح في إِبراز مواهبهم ممثِّلين ولبَّوه فنجحوا في إِبراز موهبته مخرجًا وهو، كما يردِّد دومًا، يفضِّل التمثيل على الإِخراج.

العرضُ الـمُستعاد

مع أَن رفْعت احتاج جهدًا مُضاعفًا من أَنطوانيت الحلو، مساعدة المخرج التي، بكل مسؤُولية مسرحية، سهرَت مرارًا على تنفيذ رؤْيته الإِخراجية بسبب غيابه أَحيانًا عن التمارين، سوى أَن بَصْمته اللاذعة كانت بيِّنة، وساطعًا كان الجوُّ الساخر الذي رسمه للأَدوار تتاليًا وتواليًا، فأَبرزَ للجمهور انفلات ريمون جبارة على قهره من السوى، وعلى موقفه من الإِكليروس ومخاطبته الــ”فوق” بين الفَينة والفَينة (كما أَبرزه ريمون واضحًا بـدُرْجته الساخرة مخاطبًا جدَّته “فوق” في “آلو ستي”).

هكذا، بين الكوميديا السوداء في نص آرابال، والمواقف الشخصية في نص ريمون جبارة وإِخراجه سنة 1979، وما اختصَّ به رفْعت طربيه في إِخراجه، رَبِحنا عمَلًا مسرحيًّا مضيئًا، برزَت فيه ممتازةً يارا زخور التي نفّذَت موفَّقةً دور “لوسيا” حوارًا حين تؤَدِّي وإِنصاتًا حين تتابع ما حولها، فحافظَت بأَمانةٍ على كاركتير “لوسيا” الساذجة، وأَثبتَت أَنها على طريق احترافٍ واثقٍ بموهبةٍ سيكون لها سُطوع بعدُ على خشبتنا اللبنانية، كما نفَّذ الثنائي طوني فرح ووسام بتدّيني تبادُلَ مواقفها في إِيقاع متوتر مدروس حوارًا وأَداءً، ولا يقلُّ عنهما أَداء محمد حجيج.

إِنقاذ المسرحيات بإِصدارها كتُبًا

في نهاية العرض كان نبيلًا تذكيرُ رفْعت طربيه بغبريال يمين صاحب فكرة استذكار ريمون جبارة في هذه الأَعمال الأَربعة، وبمغامرة جوزيان بولس الناجحة في إِنتاج هذه الرباعية التي استقطبَت كثافةً مباركة من الجيل الجديد طيلة ليالي العروض، ما يشير إِلى عودة العافية الباهرة إِلى جمهور المسرح في لبنان.

سوى أَن ذلك يبقى ناقصًا إِذا بقيَت النصوص نُسَخًا بين أَيدي الممثلين فقط لتنفيذ المسرحية (لو لم يكُن كميل سلامة محافظًا على نص ريمون جبارة سنة 1979، لَما كان لهذه المسرحية أَثرٌ لإِعادة تقديمها).. من هنا ضرورة إِصدار المسرحيات اللبنانية مطبوعةً في كتُبٍ مستقلَّة، مع أَسماء ممثِّليها عند انطلاقها وعند استعادتها، ومع صُورٍ من عروضِها وتعليقاتِ بعض النقاد في حينها، تمامًا كما يحصل في نصوص المسرح العالمية، كي تبقى متوفِّرة للأَجيال المقْبلة، دراسةً في معاهد الفنون وكليات المسرح، ونصوصًا يستعيدُها، في أَيِّ زمن مقْبل قريب أَو متوسط أَو بعيد، من يأْتي لاحقًا لينَفِّذَها على الخشبة أَعمالًا ذات عافية من زمان العافية في المسرح اللبناني.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).
  • يستمر عرْض “قندلت يصعد إِلى السماء” على “مسرح مونو” ليليًّا حتى مساء هذا الأَحد 7 نيسان/أبريل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى