الدَيرُ القريب
رشيد درباس*
إن صيانةَ خرائط الدولة تحتاجُ إلى رجالِ دولة
غسان شربل
في أقصوصة مارون عبود عن هيلانة التسعينية بِنت قرية فغال، أنها رفضت “وعظة” جارها الخوري بطرس، بانتظار “وعظة بونا اسطفان”، الذي ما أن وَصَلَ إليها من بعد سفره، حتى راحَ يقرأُ عليها أبيات عنترة بن شداد عن الحصان والرمح والتنين، فاطمأنت بالًا إلى أنه كان يُحدّثها عن مار جرجس الذي، من فوق حصانه، شكَّ التنّين برمحه فقتله؛ ما حدا بالخوري بطرس أن يضرب كفًّا بكفٍّ قائلًا: “الخوري القريب، كالدير القريب لا يشفي”.
هكذا تذهب بنا الحالة السياسية الراهنة إلى “سيرة عنترة”، على وَهمِ حلولٍ يجري طَبخُها في مكانٍ آخر، برعاية مار جرجس، بعد أن سقطت رعاية “مار مخايل”، في حين أنَّ أحدًا ليس بجاهزٍ لتلك الطبخة بعد، والطُّهاة المهرة ما زالوا في مرحلة إشعال النار تحت قِدْرِ الحصى.
تستفحلُ المشكلة جدًّا عندما يكون الاختيار محصورًا، بين “رئيس سيادي يستردّ الدولة من خاطفيها، ويَحتَكِرُ لها السلاح دون سواها”، وبين “رئيسٍ مُمانِعٍ مَوثوق لا يطعن المقاومة في ظهرها”؛ فالرئيسان (المطلوبان) مع الأسف، موجودان نظريًّا وغير متوافرَين عمليًّا؛ ولو كان الأمرُ غير ذلك لكان لنا رئيس غِبَّ الاستحقاق، لكن ميزان القوى البرلماني والسياسي والإقليمي والدولي لا يتيح للخطابات الرنّانة، والمواقف الصارمة الغاضبة أن تخرجنا من حالة المراوحة. والصراع الدولي الدائر حول الإقليم ليس في مرحلة الحسم بعد، حتى ولو تصالحت السعودية وإيران برعاية الصين، واتفقتا على إعادة العلاقات الديبلوماسية بينهما، فإن آثارَ هذه المصالحة يعوزُها الوقت لكي تبدو ملامحُها على حقيقتِها، وننتائجُها على أرض الواقع، خصوصًا وأن الأزمة الأوكرانية تزيد الأمور تعقيدًا وتشعّبًا، حيث يتداخل السلاح بالنفط، والغذاءُ بالنووي الذي يلوح به “ميدفيديف”؛ أو ذاك الذي طَبْخَتُه على وشك نضجها في المفاعل الإيراني. هذا المشهدُ قد لا يدفع سريعًا باتجاه إنجاز وصفة متفق عليها لإخراج لبنان من مأزقه، فيما الوطنُ يتسارع به إلى التماثل مع الوضع الإيراني الذي يصارع في مختلف الاتجاهات والمعارك، ومع أحوال سوريا التي لم تخرج من عزلتها إلّا قليلًا، تحت عنوان الزلزال المدمّر الذي ضربها وضرب تركيا، وكذلك بصورة نسبية مع العراق، الذي تقف حكومته على صفيحٍ ساخن، وأخيرًا مع اليمن الذي لست أدري لماذا أَسْمَوْه سعيدًا.
في ظلٍّ دولي وإقليمي كهذا، وتحت وطأة التداعي في مؤسسات الدولة، والفراغ الزاحف إلى أوصالها، كما في ظل ضمور حركة المطابع واقتصارها على طباعة العملة اللبنانية التي تكاد قيمتها الشرائية تساوي كلفة الورقة الموضوعة في التداول، فإن انتظار بزوغ اسم رئيسنا العتيد من وراء الأفق، إنما هو سراب يحسبه الظمآن ماء. ومن هذا المنطلق رأيتُ، رُغمَ المواقف المتصلّبة للأطراف، ثغرات ضوء ضئيل، بمعنى أن السياديين الذي يجهرون بقرارهم باستعمال الوسائل الدستورية لمنع وصول مرشح الممانعة، يقرّون بهذا سلفًا بعدم قدرتهم على إيصال مرشحهم، فيما يقرّ لهم الممانعون بلسان الأمين العام لحزب الله، بحقّهم هذا، بل يضفون بأنهم متمسّكون بالثلثين كنصابٍ انتخابي، بما يفيد أيضًا عدم القدرة – حتى الآن- على تأمين الفوز للمرشح الذي يدعمونه، وهذا يفضي إلى نتيجة من اثنتين: إما الفراغ المتمادي أو الحوار السريع المنتج للاتفاق على خطة المرحلة المقبلة، وعلى الشخص المؤهّل لقيادتها. ولقد تكهنتُ، من متابعتي لتصاريح الأسبوعين الماضيين، أن كلَّ جهة أعلنت سقفًا عاليًا وأضمرت سقفًا أقصر، على أن تترك الحلول للمفاوضات الواجبة على قاعدة ذهاب الأخصام إلى مصالحة إكراهية، سببها أنَّ شبكةَ أمان الدولة قد أصبحت أوهى من خيوط العنكبوت، وأن وزارة تصريف الأعمال قد تفاجئنا بالانصراف من المسرح عندما تيأس من عبثية المشهد وفداحة المخاطر.
قالت لي قراءتي للأمور إن الرئيس نبيه بري، عندما أبدى تصعيدًا، كان يعلن أنه المفاوض الصعب المراس. وعزّز من اعتقادي هذا أن السيد حسن نصرالله تبنّى موقفه تاركًا له زمام المفاوضات التي ستجري تحت مُعطَيين، الأول هو الاعتراف بالعجز المتبادل عن كسر فريق لفريق، والآخر أن فائض القوة سيكون عاملًا ملموسًا لإحراز الأسهم الفضلى في الشراكة الجديدة؛ أي الاتفاق على شخص يشبه الرئيس السابق ميشال عون “بِدَسمٍ” أقل، بالنسبة للممانعة، أو رئيس يقارب ميشال معوض، بدرجة أكثر مرونة بالنسبة للسياديين. هنا يجدر التنبيه أن فائض القوة المشار إليه لا يقتصر على فريق دون آخر، فرُبَّ مواقف وعوامل أقوى من السلاح، وهذا يغريني بالتفاؤل أن الاتفاق، لو تمَّ، فلن يكون اتفاق إذعان ولا اتفاقًا كامل التوازن، وإنما سينطوي على رضوخٍ مُتبادَل مقبول على مضض بشروط مُحَسَّنة. عند هذه النقطة أقول على سبيل التدارك، إن الطوباوية لا تملي هذه السطور، بل هي الواقعية التي تدلني على أنه ليس في انهيار كيان الدولة منفعة يجنيها الأفرقاء الداخليون والخارجيون، ففي هذه المرة يكون العمود الفقري قد انكسر بما يشلّ الحركة والحواس حتى ليستحيل الترميم في مرحلة لاحقة. ولهذا فالمصلحة المشتركة للأطراف هي التوافق على علاجٍ يعطي الدولة عمرًا إضافيًّا ريثما ينجلي غبار المنطقة، الذي ذهبنا إلى تنشّقِ سمومه، والولوغ في وحولٍ لا تعنينا، فقد كان من حقِّ لبنان بعد تحرير أرضه أن يعيشَ فترة نقاهة طويلة من أجل استعادة مؤسّساته واستثمار برّه وجوّه وبحره ومناخه، والنأي به عن مخاطر الانخراط العبثي في الصراع الإقليمي، والاستفادة من مكانةٍ وسطى أو وساطة خير، تكون مَجْلَبَةَ لمنفعة ومنَّاعة لمَضَرَّة.
هناك محللون يذهبون إلى استحالة استنباطِ أيِّ حل، ناسبين إلى “السياديين” رغبتهم في “الفوضى الخلاقة”، أو الانسلاخ والاستقلال عن حالة الممانعة الممسكة بأزِمَّةِ الدولة وأزْمَتِها، وإلى الممانعين سياسة إدامة حال الفراغ حتى يسقط الكيان كثمرة ناضجة في حضن الأقدر على الإمساك بها. ومن وجهة نظري، فإن ذاك التحليل لا يأخذ بعين الاعتبار أن لبنان جَرَّب عمليًّا العيش “الكانتوني” الذي شهد من المذابح والانفلات داخل الطوائف المتجانسة أكثر مما كان بين الطوائف المتنافسة، ولمن ضعفت ذاكرته أو لم يشهد تلك المراحل، نُذَكِّر بحروب “إقليم التفاح” و”العلمين” و”الإلغاء” و”التحرير”، وعليه فإن تركيب خرائط جديدة لدولة صغيرة، لا يقوم على النزق وضيق الصدر، ولا يبصر النور وفق رغبات قصيرة النظر.
أما إذا سيطر التفكير المغامر، وذهب كلٌّ إلى آخر الشوط، فإن على كل لبناني أن يستجدي هوية ما.. من بلد ما، أو يحجز لنفسه خيمة في شوادر إيواء المهجرين الفارين من زلازل الأرض أو إجرام حكام الأرض.
علينا أن نقرّ بأن الاشتباك اللبناني-اللبناني أدخل نفسه في إشكالات بالغة التعقيد، وهذا يؤدي بنا إلى ضرورة الاستنتاج أن الحلول السحرية تنتمي إلى شعر عنترة بن شداد، فلا فارس عندنا يُرْسِلُ رمحه مع جبان لكي يلقى السباع، أو يهزم التنين، بل ربما تكاد تصبح الرماح والصواريخ عبئًا بعد خمود المهمات القتالية وانتفاء الحاجة إليها، بحيث يجب التسليم بضرورة الذهاب إلى الحلول المرحلية التي تأخذ بعين الاعتبار ضرورة التنبه للخطر الاسرائيلي الذي تتزايد فيه نسبة العنصرية المتوحشة، على ألّا يكون الأمرُ ذريعةً دائمة للاستحواذ على الكلمة العليا، وذلك من خلال الامتثال إلى نظام الدولة ودستورها وفق رؤية حديثة تقوم على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنقدية، مشفوعةٍ بالتوافق السياسي والأمن المستتب، على مبدَإِ أن لبنان وطنٌ نهائي عربي لأبنائه فقط كما جاء في خطاب الرئيس تمام سلام خلال مؤتمر القمة العربية في نواكشوط.
“لقد طلبوا الصلح ولو في الصين”، أو ليس من يطلبه بين “عامل” و”صنين”، ليخرج لنا من “الدير القريب” في الوادي المقدس “جرجس” اللبناني فيردي “التنين” من غير حاجة إلى رمحٍ وحصان؟
- رشيد درباس، وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقاً نقيباً لمحامي شمال لبنان.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).