التَرفيهُ والرياضة في السعودية: تلميعُ صورة أم بِناءُ هوية؟

تعاظُمُ النشاط السعودي في استضافة نجوم ومناسبات عالمية يندرجُ ضمن برنامجَين حكوميين كبيرين يهدفان لتغيير المدينة السعودية وهوية المواطن.

أندريا بوتشيلي: غنّى في حفل ضخم في السعودية.

سلطان العامر*

قدّمَ في الفترة الأخيرة نادي الهلال السعودي لكرة القدم عرضًا رسميًا لنجم كرة القدم الأرجنتيني ليونيل ميسي بقيمة 400 مليون دولار، الذي رفضه وفضّلَ قبول العرض الآخر المُقَدَّم له من نادي “إنتر ميامي” الأميركي. وكان في حال قبول ميسي العرض، فإنه كان سيصبح ثاني نجم عالمي يوقّع مع نادٍ سعودي بعد توقيع نادي النصر مع النجم البرتغالي كريستيانو رونالدو في كانون الأول (ديسمبر) الماضي. لا تقتصر الصفقات السعودية العالمية على نجوم الكرة فحسب، بل تمتد لتشمل إقامة فعاليات ترفيهية ورياضية ضخمة، واستضافة قائمة طويلة من نجوم الغناء العالمي الذين قدموا إلى السعودية لإقامة مهرجانات تبدأ مع جانيت جاكسون، ماريا كوري، وجاستن بيير، ولا تنتهي مع مغني الأوبرا أندريا بوتشيلي وفرقة “بي تي أس” الشهيرة. تنقسم ردّات الفعل إزاء هذا النشاط السعودي المتزايد في مجال الرياضة والترفيه إلى قسمين: الأوّل احتفائي، يعتبره غير مسبوق ودليلًا إضافيًا على نجاح الحكومة السعودية في “تحرير” المجتمع السعودي من “انغلاقه”. أما القسم الثاني، وهو السائد في الدوائر الناشطة في مجال حقوق الإنسان، فيعتبره محاولة من الحكومة السعودية لتلميع صورتها وصرف الانتباه عن – ما وصفته منظمة العفو الدولية في تعليقها على التوقيع مع رونالدو- “سجل البلاد المروّع في مجال حقوق الإنسان”.

كلا هذين الموقفين قاصران ويغفلان السياق العام الذي يُوَجّهُ وتَحدُثُ فيه هذه الأحداث والفعاليات. وهذا السياق العام مرتَبِطٌ بشكلٍ رئيس ببرنامجين حكوميين يُمثّلان جُزءَين رئيسَين من مشروع رؤية 2030: الأول “برنامج جودة الحياة” ويهدف لتحويل المدينة السعودية والحياة اليومية فيها من مدينة خاوية ثقافيًا ورياضيًا وترفيهيًا ومُكبّلة بالقيود القانونية، إلى مدينةٍ “عالمية” مُمتعة تُنافسُ غيرها من المدن العالمية على جذب السياح والاستثمارات والمُبدعين. أما الثاني، فهو “برنامج تنمية القدرات البشرية”، ويهدف لتحويل هوية وسلوك المواطن من مواطن ذي هوية محافظة يعتمد على الإنفاق الحكومي من ريع النفط ليصبح، كما يصفه البرنامج، “مواطنًا منافسًا عالميًا”. والمحرّك الرئيس لهذه البرامج هو نفسه محرّك مشروع رؤية 2030: جذب الاستثمارات الأجنبية، وتنويع مصادر الدخل، وتخفيف الإنفاق الحكومي. ومثل باقي برامج الرؤية، تدير هذه البرامج نخبة بيروقراطية جديدة ذات إيديولوجية إدارية لا ترى بأسًا في تنفيذ أجندتها النيوليبرالية بتوسّلِ أدواتٍ سلطوية لا تأبه برأي وإشراك المواطن الذي تريد تغيير حياته وهويته وسلوكه.

هذه البرامج ليست جديدة في تاريخ المملكة. ففي المجال الرياضي، وابتداءً من العام 1992، أطلقت السعودية فكرةَ بطولةٍ دولية لكرة القدم أسمتها بطولة القارات، ونظّمت دوراتها الثلاث الأولى قبل أن يتبنّاها الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) لتصبح ثاني أهم بطولة دولية في كرة القدم حتى العام 2019. قبل التوقيع مع رونالدو بسنوات، كانت الأندية السعودية محطة في حياة عدد من نجوم كرة القدم العالميين، مثل خوسيه روبرتو جاما دي أوليفيرا المعروف ب”بيبيتو” وخريستو ستويشكوف وكريستيان فيلهامسون. أما في مجال الترفيه، فالأندية السعودية لم تكن أندية رياضية فقط، بل ثقافية واجتماعية، وكانت الفضاءات الرئيسة التي نُظِّمت فيها الأعمال المسرحية والحفلات الغنائية من الستينيات وحتى منتصف الثمانينيات الفائتة. ومنذ نهاية التسعينيات، بدأت المناطق والمحافظات تنظيم المهرجانات الترفيهية والغنائية، كمهرجان أبها الغنائي مهرجان جدة غير ومهرجان الجنادرية للتراث والثقافة إلى جانب الكثير من مهرجانات الصيف واحتفالات الأعياد المتنوعة في مختلف المدن.

عانت هذه البرامج والفعاليات من مشاكل كثيرة، فلم تكن مستدامة ولا قابلة للنمو وتُنَفَّذ بواسطة جهازٍ بيروقراطي متشظى يصعب عليه التنسيق أفقيًا بين المؤسسات المختلفة أو مع القطاع الخاص، وفي حالة توتر مع الهوية المحافظة التي كانت الحكومة تُروّجها عن نفسها وتفرضها على المجتمع في المدارس والإعلام والفضاءات العامة بالتعاون مع الحركات الإسلامية. نتج عن هذا وضعٌ معيشي مُتدَنٍّ مقارنةً بالدول الأخرى المقاربة لحجم المملكة الاقتصادي. فالفروقات بين الذكور والإناث شاسعة في التنقل والتعليم والعمل والأحوال الشخصية، وخيارات الترفيه والفعاليات الثقافية محدودة، ووسائل النقل العام غير سائدة، والوفيات بسبب حوادث السيارة من بين الأعلى عالميًا، ومعدل بطالة السعوديين (وخصوصاً الإناث) عال. تسبّبَ هذا الوضع في خروج الأموال من المملكة، إما على شكل سياحة خارجية حيث حلّ سكان السعودية في الترتيب السابع عشر عالميًا (بمقارنة نسبة السياح لعدد السكان)، والأوّل في الشرق الأوسط، إذ بلغ عددهم 16 مليون مسافر في العام 2015 بإنفاقٍ يعادل 20 مليار دولار، و إما تخرج الأموال على شكل تحويلات خارجية للمقيمين في السعودية (39 مليار دولار في العام 2015).

لمعالجة هذه المشاكل بطريقة سلطوية ونيولبرالية، أطلقت الحكومة السعودية برنامجا “جودة الحياة” و”تنمية القدرات البشرية”، وحدّدت بشكلٍ مُفصَّل أهدافهما ومؤشرات أدائهما الكميّة. فمن بين أهداف برنامج “جودة الحياة” نجد ما هو متعلق بالمدينة مثل “تحسين المشهد الحضري” و”الارتقاء بجودة الخدمات المقدمة”، ونجد أهدافًا رياضية مثل “تعزيز ممارسة الأنشطة الرياضية في المجتمع” و”تحقيق التميّز في رياضات عدة إقليميًا وعالميًا”، وأهدافًا ترفيهية وثقافية مثل “تطوير وتنويع فرص الترفيه لتلبية احتياجات السكان” و”تنمية المساهمة السعودية في الفنون والثقافة”. ونجد من بين المؤشرات وصول ثلاثة مدن سعودية ضمن أفضل 100 مدينة عالمية ملائمة للعيش في العام 2030، ووصول عدد مجموعات الهواة إلى 900 مجموعة. أما أهداف برنامج “تنمية القدرات البشرية”، فتشمل “تعزيز القيم الإسلامية والهوية الوطنية” مثل “قيم الوسطية والتسامح” و”الاتقان والانضباط”، و”تمكين حياة عامرة وصحّية”، و”زيادة معدلات التوظيف” عبر تبنّي استراتيجية تعليمية مختلفة.

ولتجاوز حالة التشظي المؤسساتي وانعدام التنسيق الأفقي، مكّن كل برنامج لينسق العمل بين عدد من الوزارات والمؤسسات لضمان تحقيق أهدافه. فتَحتَ برنامج “جودة الحياة” تندرجُ وزارات السياحة والثقافة والرياضة وهيئة الترفيه وغيرها، وتحت برنامج تنمية القدرات البشرية نجد وزارات التعليم والموارد البشرية والاقتصاد وغيرها. ولا تتوفر معلومات حول موازنة كل برنامج، لكن عندما أطلقت خطة جودة الحياة للفترة من 2018-2020 ذُكِرَ أنَّ موازنته 13.3 مليار دولار، وفي نشرة موازنة 2023 ذُكِرَت موازنة البرنامج ضمن موازنة قطاع الصحة والتنمية الاجتماعية التي تضم غيره من المبادرات حيث قُدِّرت بـ 50 مليار دولار (16.8 في المئة من إجمالي موازنة 2023). أما برنامج تنمية القدرات البشرية، فلا توجد معلومات مُعلَنة عن موازنته.

يمثل هذان البرنامجان السياق العام الذي تَحدُثُ فيه صفقات مثل صفقة التعاقد مع رونالدو أو غيره من النجوم العالميين، أو سعي المملكة إلى استضافة أحداث رياضية أو ترفيهية ذات صدى عالمي، أو إلغاء وتعديل الكثير من القيود القانونية ذات الأثر الاجتماعي. فكما هو معلوم، قامت الحكومة برفع القيود القانونية التي كانت تفرضها في العديد من المجالات: من القيود المفروضة على المرأة، وسياحة الأجانب، وفضاءات الترفيه من دور السينما ومشاريع المدن الترفيهية والحفلات الموسيقية وغيرها. وفي مجال الهوية الوطنية، نجد المناهج السعودية تُعلّم الطلاب في فصل “المواطنة الاقتصادية والاجتماعية” بأن حقوق المواطنة تشمل حفظ الدين والأمن والتعليم والعدل والمساواة وجودة الحياة، أما واجباتها فتشمل الفخر بالوطن واتباع قوانينه وكذلك الصدق والأمانة والمشاركة المجتمعية والتميّز والإبداع والمحافظة على البيئة والممتلكات. فالعقد الاجتماعي الذي يُصاغ بين الدولة والمواطن يُخفّف من شأن الدين ويتجاهل الحقوق السياسية، لكنه يعلي ويضاعف من الشأن الاقتصادي والاجتماعي عبر مطالبة المواطن بالتحوّل من مواطن يعتمد على الرعاية الرعوية من الحكومة إلى منتج ومبدع وبمهارات تسمح له بالمنافسة في الأسواق العالمية.

تُنَفَّذُ هذه البرامج، بلا رقابة شعبية، وهي غير مقيدة بحقوق مدنية وسياسية، ولا تسمح بمشاركة مؤسّسية للمواطنين في صناعة القرار. وعلى ما يبدو، فإن النخبة البيروقراطية التي تدير هذه البرامج، وكثير منهم جاؤوا من القطاع الخاص أو هم خريجو برنامج الابتعاث من الذين درسوا في دول ديموقراطية مثل الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وكندا، لا ترى أن هذه السمات السلطوية للبرامج عبئًا عليها التخلص منها أو صرف الإنتباه عنها، بل عبارة عن مزايا تساعدها على تنفيذ أعمالها. ومن غير الواضح مدى التواؤم والتنسيق بين هذه البرامج والأجهزة الأمنية التي في بعض الأحيان تظهر وكأنها تعمل ضد أهدافها وفي أحيان أخرى بانسجام وتناسق معها. أيًا يكن الأمر، فإن هذه البرامج، بأهدافها الطموحة وموازناتها الضخمة وآثارها الاجتماعية الكبيرة، تتطلّب تعاطيًا أعمق لفهمها وتحليلها ومقارنتها بغيرها من التجارب- في الصين، وسنغافورة، ودبي- التي سبقتها لبناء مدن ومواطنين عالميين بشكل سلطوي ونيوليبرالي.

  • سلطان العامر هو باحث سعودي ومرشح لنيل درجة الدكتوراة في العلوم السياسية من جامعة جورج واشنطن. يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: alamer@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى