كيفَ تَنظُرُ الصين إلى أزمةِ أوكرانيا؟
كابي طبراني*
أثارت دَعوَةُ الولايات المتحدة أخيرًا الصين إلى استخدامِ نُفوذِها لدى روسيا لحثّها على حلٍّ ديبلوماسي للأزمة الأوكرانية، تساؤلاتٍ حولَ الدورِ الذي يُمكن أن تلعبه بكين في إطار هذه الأزمة، والأوراق التي تمتلكها، وإن كانت راغبة حقاً في لعبِ دورٍ إيجابي لحلّ الأزمة الأوكرانية.
قد تكونُ بكين على بُعدِ 6,500 كيلومتر من العاصمة الأوكرانية “كييف”، لكن المَخاطرَ الجيوسياسية التي تُهدّد الصين جرّاء الأزمة المُتصاعِدة بين روسيا وأوكرانيا لا يُمكن أن تكون أكبر. إذا غَزَت القوات الروسية أوكرانيا وعجّلت بنزاعٍ طويلِ الأمد مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، على الرغم من أن المواجهة العسكرية المُباشَرة غير مُرَجَّحة، فمن الواضح أن الصين ستستفيد. سوف تحتاج أميركا في هذه الحالة إلى تحويلِ الموارد الاستراتيجية لمواجهة روسيا، وسوف يكون حلفاؤها الأوروبيون أكثر تردّدًا في الاستجابة لمناشدات الولايات المتحدة للانضمامِ إلى التحالفِ الأميركي المُناهِض للصين.
ولكن إذا نَزَعَ الرئيسُ الأميركي جو بايدن فتيلَ الأزمة من خلال الاستجابة لبعض مطالب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فمن المُرَجّح أن ينتهي الأمر بالصين إلى وضعٍ أسوأ من الناحية الاستراتيجية. بينما سيحصد بوتين فوائد ديبلوماسيته القِسرية، وسيتجنّب بايدن المُستَنقَعَ المُحتَمَل في أوروبا الشرقية، ستجد الصين نفسها المحور الوحيد لاستراتيجية الأمن القومي لأميركا. والأسوأ من ذلك، بعد أن استغلّ بوتين بمهارة هَوَس الولايات المتحدة بالصين لإعادة تأسيس مجال نفوذ روسيا، فإن قيمته الاستراتيجية لدى بكين قد تَنخَفِضُ بشكلٍ كبير.
بالنسبة إلى بوتين، فإن الاستفادة من خوفِ بايدن من الإنجرار إلى صراعٍ مع خصمٍ ثانوي (روسيا) من أجل انتزاعِ تنازلاتٍ أمنية مهمّة هي خطوة محفوفة بالمخاطر ولكنها ذكيّة. إلّا أن الأمرَ بغزوِ أوكرانيا، وبالتالي التطوّع بشكلٍ فعّال ليكون الخصم الجيوسياسي الأساسي لأميركا، على الأقل في المدى القصير والمتوسط، ليس في مصلحة الكرملين. من شبه المؤكّد أن العقوبات الغربية القاسية، والتكاليف الباهظة لمحاربة التمرّد والمقاومة المحلية في أوكرانيا، والتداعيات الاقتصادية الناتجة، ستُضعِفُ روسيا بشكلٍ كبير وتجعل بوتين نفسه غير شعبي محلّيًا وأكثر اعتمادًا على الرئيس الصيني شي جين بينغ.
واللافتُ هنا، أنه على الرغم من المخاطر الكبيرة التي تُواجِهُ الصين في الأزمة الأوكرانية، كانت الحكومة الصينية حذرة للغاية بشأن خطواتها وردّ فعلها. بينما تُهيمن التوتّرات المُتصاعِدة على عناوين وسائل الإعلام الغربية، تتلقّى أزمة أوكرانيا تغطيةً ضئيلةً في الصحافة الصينية الرسمية. بين 15 كانون الأول (ديسمبر) 2021، عندما عقد بوتين وشي قمة افتراضية، و24 كانون الثاني (يناير) من هذا العام، نشرت صحيفة الشعب اليومية، الناطقة الرسمية باسم الحزب الشيوعي الصيني، مقالًا واحدًا فقط عن الأزمة، وكان حول المحادثات غير الحاسمة التي جرت في منتصف كانون الثاني (يناير) بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو). كما إن الإفتتاحيات أو التعليقات التي تُعبِّرُ عن دعمِ الصين لروسيا غابت بشكلٍ ملحوظ أيضًا.
والأكثر إثارة للاهتمام، أن ملخّصَ قمّة بوتين-شي الذي نشره الكرملين زَعَمَ أن الرئيس الصيني دَعَمَ طَلَبَ بوتين بضماناتٍ أمنية غربية تَحُولُ دون توسّع “الناتو” نحو الشرق، لكن النسخة الصينية، التي نشرتها وكالة أنباء شينخوا الرسمية، لم تتضمّن مثل هذه الإشارة. بدلاً من التأييد الصريح لموقف بوتين، كان بيان شي غامضًا ويتضمّن عباراتٍ عامة حول “توفير دعمٍ مُتبادلٍ قويّ بشأن القضايا التي تنطوي على المصالح الأساسية لبعضهما البعض”.
إستمرَّ هذا النمط عندما تحدّث وزير الخارجية الصيني وانغ يي مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكِن في 27 كانون الثاني (يناير) الفائت. ووصفت وسائل الإعلام الغربية بيان وانغ بشأن أوكرانيا بأنه تعبيرٌ عن دعم بوتين. في الواقع، وَضَعَ وانغ مصلحة الصين الديبلوماسية مُباشَرةً على الهامش، قائلاً فقط إن “مخاوف روسيا الأمنية المعقولة يجب التشديد عليها وحلّها”.
يُشيرُ تحفّظ الصين عن التدخّل في أوكرانيا إلى أن شي يتحوّط بعناية في رهاناته. من المؤكد أن ديبلوماسية بوتين العدوانية تخدم المصالح الصينية، على الأقل في الوقت الحالي. إذا قرّر غزو أوكرانيا وتحويل التركيز الاستراتيجي للولايات المتحدة بعيدًا من الصين، فهذا أفضل بكثير.
ولكن، على افتراض أن شي لا يعرف نوايا الكرملين الحقيقية تجاه أوكرانيا (من المشكوك أن يكون بوتين قد شاركها مع نظيره الصيني)، فإنه من الحكمة عدم إظهار أوراقه الخاصة أيضًا. وأيّ تعبيرٍ عن الدعم الصيني المُطلَق لمطالب بوتين قد يترك للصين مجالٌ ضئيلٌ للمناورة. في أسوَإِ الأحوال، يُمكن تفسير دفع بوتين إلى طريق الحرب في بعض الدوائر في موسكو على أنه مؤامرة صينية شيطانية لاستخدام روسيا كأداةٍ استراتيجية في الحرب الباردة الصينية-الأميركية. بدلاً من ذلك، إذا اختار بوتين تحقيق مكاسب لحفظ ماء الوجه من أجل تجنّب كارثة مُحتَملة، فستبدو الصين حمقاء لأنها دعمت مطالب الكرملين التي لا يمكن تحقيقها.
وبغض النظر عن حالة عدم اليقين الإستراتيجي، فإن حكّام الصين يعرفون أن دعم بوتين بشكلٍ صريح سيُثير بشكلٍ شبه مؤكد عداء الاتحاد الأوروبي، الذي يُعَدُّ الآن ثاني أكبر شريكٍ تجاري للصين. في الحسابات الاستراتيجية لصانعي السياسة الصينيين، من الضروري منع الولايات المتحدة من تجنيد الاتحاد الأوروبي في تحالفها المُناهِض للصين.
إن استقلالَ أوكرانيا وأمنها أمران حاسمان بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، والجهود الصينية لمساعدة وتحريض بوتين من شأنه أن يؤدّي إلى ردِّ فعلٍ أوروبي عنيف. على الأقل، يُمكِن للاتحاد الأوروبي أن يجعل الصين تدفع ثمنًا غاليًا من خلال تقييد عمليات نقل التكنولوجيا والتعبير عن المزيد من الدعم الديبلوماسي لتايوان. على وجه الخصوص، فإن أعضاء أوروبا الشرقية في الاتحاد الأوروبي، والذين ليست لديهم علاقات تجارية مهمة مع الصين ولكنهم أكثر عُرضةً للتهديد من الموقف العدواني لروسيا، هم في وضعٍ أقوى بكثير من الدول الأعضاء الكبيرة للعب ورقة تايوان كردٍّ انتقامي ضد الصين. ولا شك أن هذه المخاطرة هي موضع دراية لدى القيادة الصينية.
قادة الصين واقعيون ويعرفون أنهم لا يستطيعون فعل الكثير للتأثير في نتيجة الأزمة الحالية في أوكرانيا حتى لو اختاروا التدخّل علنًا. مع احتفاظ بوتين بمعظم الأوراق في المواجهة المستمرة، من غير المرجح أن يُغير الدعم الديبلوماسي الصيني الحسابات الاستراتيجية للأطراف الرئيسة في واشنطن أو بروكسل أو حتى موسكو. لن يزداد نفوذ بكين بشكلٍ كبير إلّا إذا رمى بوتين النرد وغزا أوكرانيا، لأنه سيحتاج بعد ذلك إلى الدعم الاقتصادي الصيني لتقليل تأثير العقوبات الغربية.
لكن في الوقت الحالي، كل هذا مجرد تخمينات في كل ما يتعلّق بشي. على الرغم من كونها قوة عظمى، فإن الصين قد تحوّلت موقتًا إلى مُجرّد متفرّجة، تُراقب بقلقٍ وأملٍ على الهامش فيما أزمة أوكرانيا تتكشّف.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على: @GabyTabarani