كيفَ تُواجِهُ الولايات المتحدة القوّة الاقتصادية الصينية في آسيا

هناك ثلاثةُ أسباب رئيسة لعدم قدرة أميركا على المنافسة بفعالية ضد الصين في آسيا، ولكن رُغمَ ذلك لا يزال هناك أمل للنجاح.

كامالا هاريس مع رئيس فيتنام نجوين شوان فوك: زيارة هدفها تطوير التعاون لمواجهة النفوذ الصيني في آسيا

ريتشارد جواد هيدريان*

خلال زيارته الأخيرة إلى جنوب شرق آسيا في كانون الأول (ديسمبر) الفائت، أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكِن: “بناءً على توجيهات الرئيس [جو] بايدن، نعمل على تطويرِ إطارٍ اقتصاديٍّ شاملٍ لمنطقة المُحيطَين الهندي والهادئ لتحقيق أهدافنا المشتركة”.

من الواضح أنه كان هناك شعورٌ بالإلحاح والعَجَلة والضرورة في خطاب الديبلوماسي الأميركي، على الرغم من نجاح سياسة إدارة بايدن في آسيا في العام الماضي. لكن إدارة بايدن تُواجه الآن التحدّي النهائي: توفير بديلٍ من نفوذ الصين الاقتصادي في آسيا.

إذا كان هناك أي شيء، فإن “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” (Regional Comprehensive Economic Partnership) التي تم إطلاقها حديثًا، والتي تضم 15 اقتصادًا من المُحيطَين الهندي والهادئ باستثناء الولايات المتحدة، من المتوقع أن تزيد من الهيمنة الاقتصادية للصين. ومع ذلك، فإن معدلات النمو المتباطئة للقوّة الآسيوية الكبرى والاعتماد المتناقص على الصادرات بحاجة أيضًا إلى أخذهما في الاعتبار.

من المشكوك فيه أن تستعيد الولايات المتحدة هيمنتها التاريخية في آسيا، وبخاصة مكانتها في فترة ما بعد الحرب الباردة. بفضل سياستها التجارية الصناعية الباهتة، كافحت واشنطن لمواكبة المبادرات الاقتصادية الصينية في آسيا. لكن إدارة بايدن يمكنها ويجب عليها تعزيز البصمة الاقتصادية لأميركا إذا كانت تسعى إلى الحفاظ على وجود كبير هناك.

لقد أدّى تقاربٌ بين عوامل ثلاثة إلى تقويض قدرة أميركا على إبرازِ قوّةٍ إقتصادية في المنطقة. أولًا، أدّت عقودٌ من الإصلاحات النيوليبرالية إلى إفراغ قاعدة التصنيع الأميركية. وتحوّلت المدن الصناعية التي كانت مُزدهرةً في الغرب الأوسط إلى أحزمة صدأ من اليأس.

منذ منتصف التسعينات الفائتة، توجّهت المصانع الأميركية، وخصوصًا الكبيرة منها، إلى الاستعانة بمصادر خارجية حيث انتقلت إلى أسواق ناشئة في آسيا وأميركا اللاتينية. وهكذا، خلال جيلٍ واحد، تحوّلت الولايات المتحدة من أكبر قوّة صناعية ودائنة في العالم إلى أكبر الأسواق الاستهلاكية (والأكثر مديونية). في ستينات القرن الفائت، كان ناتجها المحلي الإجمالي يعادل 40 في المئة من إجمالي الناتج الاقتصادي العالمي. بعد نصف قرن، وصل الرقم إلى 22 في المئة فقط.

وهذا يقودنا إلى العامل الثاني، وهو صعود الحمائية التجارية – بشكل أساسي اعتماد سياسات دفاعية تُقَيِّدُ التجارة الدولية لمساعدة الصناعات المحلية وحمايتها – في المجالات التي أثّرت في قطاعات كبيرة من الطبقة العاملة الأميركية التي عبّرت عن سخطها على ركود الأجور وتزايد عدم المساواة.

أشعلت الأزمة المالية العالمية في العامي 2007 و2008 موجة من القومية الشعبوية التي قلبت الديموقراطية الأميركية. وكانت النتيجة انتخابات 2016 التي أدت إلى نجاح دونالد ترامب، أول أميركي يميني شعبوي منذ جيل، والذي فاز على أجندة “أميركا أوّلًا” الحمائية.

ألغى ترامب مبادرات السياسة الخارجية المُمَيَّزة لسلفه باراك أوباما، وأبرزها “إتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ” التي كان من المفترض أن تساعد الولايات المتحدة على تعزيز نفوذها الضعيف في آسيا. في الخارج، شدّد ترامب على الحاجة إلى إحياء التصنيع في الداخل.

ولكن في حين استسلمت الولايات المتحدة لدوافع الحمائية، سرعان ما أصبحت الصين الصاعدة مصنع العالم. في شرق آسيا، على سبيل المثال، تضخّم نصيب الصين من الناتج المحلي الإجمالي الإقليمي من 8 في المئة في العام 1990 إلى 51 في المئة في العام 2014.

السبب الثالث لعدم قدرة أميركا على المنافسة بفعالية ضد الصين هو أنه على عكس القوة العظمى الآسيوية، فإن الحكومة الأميركية لديها قدرة محدودة على حشد الشركات المحلية الكبرى للاستثمار الاستراتيجي في الخارج. في المقابل، يمكن لبكين حشد كل شركات البلاد الوطنية للمشاريع الدولية، وبخاصة لمبادرة الحزام والطريق.

عند تولّيها السلطة، وعدت إدارة بايدن باستعادة القيادة العالمية لأميركا من خلال مواجهة الصين الصاعدة. وسط تفشّي جائحة كوفيد-19 في العام الماضي، عقد كبار المسؤولين اجتماعات مع نظرائهم الآسيويين. في غضون أسابيع، قام وزير الدفاع لويد أوستن ونائبة الرئيس كامالا هاريس بزيارة دول عدة في جنوب شرق آسيا، وبعد أربع سنوات، حضر رئيسٌ أميركي قمة الولايات المتحدة ومجموعة دول “آسيان”.

لكن إدارة بايدن ذهبت أبعد من تبنّي القول المأثور بأن 80 في المئة من الديبلوماسية تظهر ببساطة في الاجتماعات الحاسمة. بفضل “ديبلوماسية اللقاح” الواسعة، التي شهدت حصول جنوب شرق آسيا على أكثر من 23 مليون جرعة لقاح، استعادت واشنطن سمعتها الطيبة في المنطقة.

حتى الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي، صديق بكين، أعاد بالكامل “اتفاقية القوات الزائرة” الحاسمة، التي تُسهّل التدريبات العسكرية الأميركية في الدولة الواقعة في جنوب شرق آسيا، تقديرًا للتبرعات الكبيرة التي قدمتها واشنطن من اللقاحات.

قامت إدارة بايدن أيضًا بإضفاء الطابع المؤسّسي على التعاون الاستراتيجي والدفاعي مع اليابان وأوستراليا، وكذلك الهند تحت رعاية “الرباعية”. هدف التجمّع هو إنشاء استراتيجية “ردع متكاملة”، حيث يمكن للولايات المتحدة وحلفائها الرئيسيين التحقّق من توكيد الصين ومراقبة سلوكها عبر المحيطين الهندي والهادئ.

ومع ذلك، فقد أدرك المسؤولون الأميركيون أن منطقة المُحيطَين الهندي والهادئ، التي تُمثّل 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وأكثر من نصف سكان العالم، لها أهمية اقتصادية هائلة. لتعظيم البصمة الاستراتيجية لأميركا، تحركت إدارة بايدن على ثلاث جبهات.

أولًا، أطلقت مبادرة “صُنِعَ في أميركا” لإحياء التصنيع المحلي. ثانيًا، أطلقت مبادرات البنية التحتية مع كيانات متشابهة التفكير – اليابان وأوستراليا وأوروبا – للاستثمار في جنوب شرق آسيا. وأخيرًا، تدفع باتجاه صفقة التجارة الحرة الرقمية لتعزيز الروابط الاقتصادية مع الاقتصادات الأكثر تقدمًا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

على الرغم من هيمنتها، إلّا أن مركزية الصين في التجارة الإقليمية ربما بلغت ذروتها في الواقع. على مدى العقدين الماضيين، انخفضت التجارة كحصة من الناتج المحلي الإجمالي للصين من 35 في المئة إلى أقل من 20 في المئة في السنوات الأخيرة. ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه مع تباطؤ الاقتصاد الصيني واعتماده بشكل أكبر على المستهلكين المحليين.

في المقابل، يمكن لإدارة بايدن أن تخطو خطوات واسعة من خلال وضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية التجارة الرقمية الحرة، والتي يمكن أن تؤدي إلى المزيد من اتفاقات التجارة والاستثمار عبر الاقتصادات الآسيوية الرئيسة. بشكلٍ عام، المشهد الاقتصادي الآسيوي يتطوّر بسرعة إلى ما وراء التجارة التقليدية – التي هي موطن قوة الصين – مما يوفر فرصًا لقوى مثل أميركا لإعادة تأكيد نفوذها.

  • ريتشارد جواد هيدريان هو أكاديمي متخصّص بالجغرافيا السياسية وهو أستاذ في جامعة البوليتكنيك في الفلبّين.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى