ماذا حلّ بكِ يا تونس بعد انتفاضة 2011؟ (6 من 7)

عبد اللطيف الفراتي*

لا أحد يعرف كيف وصل قيس سعيّد إلى قمّة هرم السلطة، ولكن المؤكد هو أنه اعتمدَ أسلوبًا غير معهودٍ قوامه نظافة اليد في بلدٍ استشرى فيه الفساد، وتجنّدت له قوى، بعضهم يصفها بالخفيّة.

كان يبدو مغلوبًا على أمره، خصوصًا بعد أن خانه الشخص الذي عيّنه لرئاسة الحكومة، هشام المشيشي، تمامًا كما كان حصل مع يوسف الشاهد من قبل، ولكنه استجمع من الضعف، الذي كان يبدو عليه، قوّة خارقة كما شمشون، ومزّق قيوده التي قيّده بها دستورٌ مُغلق أوصل البلاد إلى مأزق سواء أرادت ذلك “حركة النهضة”، مصممة ذلك الدستور، الذي وصفه في حينه مصطفى بن جعفر بأنه أحسن دستور في العالم، والذي قلت فيه في بداية 2015 في مقالٍ مطوّل في “أسواق العرب” وفي مناظرة تلفزيونية على “قناة المتوسط” أدارها الصحافي صالح عطية، بأنه سينتهي إلى زقاق مسدود وسينتهي إلى مأزق لا مخرج منه.

في 24 تموز (يوليو) 2021، بدا أن الزقاق قد انتهى إلى طريق مسدود تمامًا كالدستور، حيث صارت السلطة المُنقسمة على نفسها في وضعٍ أعجز من أن تواجه واقعًا متأزّمًا، زادته إدارة في أسوأ حال لبرلمان لم يعد مُعبّرًا عن حقيقة التوازنات في البلاد، ومُعارضة مُنقسمة على نفسها ومُعطّلة للسير الطبيعي مع جزء منها بأدوات غير مقبولة، وحكومة الجزء الأكبر منها بوزراء بالنيابة لا يتمتعون بحقيقة السلطة، ورئيس حكومة همه البقاء في موقعه ولو ذهبت البلاد في داهية، ورئيس دولة وإن تمتع بشعبية كبيرة فإنه معزول في قصره لا حول ولا قوة له، يشعر بالخذلان ممن اصطفاه لأعلى منصب تقريري في الدولة، ولكنه ارتمى في حضن خصمه راشد الغنوشي، لا يرفض له طلبًا .

يوم 25 تموز (يوليو) انفجر الشارع، وفي حركة وُصِفَت بالتلقائية، وما هي كذلك وفقًا لما تبيّن لاحقًا، بالذات ضد “حركة النهضة” وضد الغنوشي، اللذين حمِّلا مع آخرين كل المسؤولية عن كارثة العشر سنين الأخيرة بعد أن فاق عدد “قتلى” الكوفيد 20 ألفًا، وأفلست البلاد أو كادت، ورئيس الحكومة وأصفياؤه يقضون عطلة آخر الأسبوع في أفخم الفنادق، ورئيس مجلس شورى “النهضة”، يهدد بإخراج الشارع إن لم يقع إقرار تعويضات كبيرة لأتباعه وأتباع الغنوشي يوم 25 تموز (يوليو) بالذات.

بدا أن “النهضة” التي كانت تُفاخر بأنها أخرجت إلى الشارع 100 ألف (؟) من الأنصار في شباط (فبراير) السابق، كنمر من ورق في ذلك اليوم، وجماهير غفيرة تهاجم مقرّاتها وتحرق بعضها وتتلف وثائقها بدون ردّ فعلٍ يُذكر، فالأحزاب الحاكمة في البلدان المتخلّفة ينفضُّ عنها من تعتبرهم أنصارًا لها بمجرد هبوب العاصفة، كما حصل مع حزب الدستور سنة 1978 و1984 وفي تلك الأيام المجيدة 14/ 17 كانون الأول (ديسمبر) وكانون الثاني (يناير) 10/11، فلم يرفعوا حتى مكانس للدفاع عن مقراتهم، فتعرّت حقيقة نضالهم جميعًا.

كم عدد الذين خرجوا يتظاهرون ضد “النهضة”، لا أحد يملك قدرة على الإحصاء، فقد شملت المظاهرات المنددة أعدادًا كبيرة من المدن والقرى. وكان مُفترَضًا أن تتواصل تلك الحركة في اليوم الموالي والأيام التالية، ويقول المنظّمون “المجهولون” على الفايسبوك وتويتر، وبالقول في الشارع، إنهم سيجمعون أعدادًا أكبر في الأيام الموالية، وسيقتحمون مقرّات “النهضة” التي لم يقتحموها بعد.

ولا من مُجيب، فقد ظهرت “النهضة” أضعف مما يُظَنّ، وتعرّت على حقيقتها كأيِّ حزبٍ حاكمٍ في بلدٍ مُتخلّفٍ، يأخذ قوّته الظاهرة من وجوده في السلطة، ويستعمل جهاز الدولة، مصدر قوته، بدون قوة ذاتية حقيقية.

كان مُفترَضًا إذا كان الرئيس قيس سعيّد وراء الحراك أن يدعه مُستمرًّا لأيامٍ عدّة حتى يؤدّي دوره، ولكن الرئيس التونسي لم يكن على ذلك الحسّ السياسي المُرهَف، فقد سارع ليلتها لاتخاذ قراراته الاستثنائية، ولم يكن من قدرة على الصبر والمناورة، حتى تصبح قراراته عملية إنقاذ مطلوبة من كل الشعب بما في ذلك النخبة السياسية، وبخاصة الطبقة المؤثّرة في هذه الأحوال بشدة، أيّ كل طبقة رجال القانون الدستوري. كان في عجلة من أمره، وبدا أنه ليس رجل السياسة الحصيف الذي يترك الوقت للوقت ليفعل مفعوله، إتخذ قرارته بعد أن جمع قيادات القوات المسلحة.

خرج الناس ليلًا تأييدًا يكاد يكون إجماعيًا رُغم حالة الطوارئ ومنع التجوّل، بما يُذكّر بكل الذين خرجوا ليلة 13 كانون الثاني (يناير) 2011 بعد خطاب زين العابدين بن علي الإعتذاري، والذي انقلبوا عليه في اليوم الموالي.

سيبدو لاحقًا أن الرئيس قام بحركة غير مُخطَّط لها، فليست له حكومة جاهزة، ولا خطة مبرمجة، وإنما أفكار مبعثرة، ولا برنامج للإنقاذ، ومن هنا انفضّ من حوله كثيرون من الذين أيّدوا قرارات ليلة 25 تموز (يولية) أو جلّهم.

ماذا بعد، لا خريطة طريق، ولا تصور مستقبلي بحكومة رُغم كفاءة أفرادها ليس أمامها مسار واضح إلّا نظافة اليد. هل يكفي ذلك؟

( إلى اللقاء في الحلقة السابعة والأخيرة)

  • عبد اللطيف الفراتي هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي تونسي. كان سابقًا رئيس تحرير صحيفة “الصباح” التونسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى