فرنسا… التطرّفُ على أبوابِ الإِلِيزيه!

محمّد قوّاص*

قبل أشهرٍ، لم يأخذ المراقبون في فرنسا طموحات “إريك زِمور” (Éric Zemmour) الرئاسية على محمل الجدّ. لم يُعرَف عن الرجل مشوار سياسي على النسق التقليدي. اكتشفه “المشاهدون” سلعة تلفزيونية ترفع من نسب المشاهدة، وبالتالي جاذبة للإعلانات. أدرك زِمور أن سرّ نجاحه يكمن في قدرته على كسر المُحرّمات (التابوهات) والذهاب إلى أبعد مدى في أطروحاتٍ تعتبرها القوانين، كما الثقافة السياسية الرائجة، شوفينية عنصرية تُحاكي نازية آفلة.

ولئن نجح زِمور كاتباً يمينياً مُساجِلاً يستند إلى ثقافةٍ معرفية تاريخية مُكثّفة لجذب القراء وجمهور التلفزيون، إلّا أنه لم يظهر قبل سنواتٍ أنّ في باله أن يصبح قطب حملة الانتخابات الرئاسية التي من المقرر إجراء جولتها الأولى في نيسان (إبريل) المقبل. على أن النجم التلفزيوني حوّل حملة الترويج لكتابه الأخير “فرنسا لم تقل كلمتها الأخيرة”، إلى حملةٍ انتخابية غير مُعلَنة، مُترافقةً مع تساؤلات تشويقية حول ما إذا كان سينتقل من المرحلة التجريبية إلى تلك الواقعية بالإعلان رسمياً عن ترشّحه لاستحقاق الإِلِيزيه، حتى أتى إعلانه الثلثاء.

وليس اللافت ما قدّمه زِمور خلال الأشهر الأخيرة من مواقفٍ وآراءٍ ليست جديدة على من تابعه واطّلع على نصوصه، وما يُدلي به في تعليقاته الإذاعية والتلفزيونية، كما في المقابلات التي أجرتها معه صحافة البلد. لكن اللافت أن الرجل اليميني القومي الشعبوي تقدّم داخل سلّم المُسترئسين ليزاحم الزعيمة التقليدية لليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبن، ابنة الزعيم التاريخي لهذا التيار جان ماري لوبن.

ولئن تضع استطلاعات الرأي الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون في مقدمة المرشحين للتأهّل للجولة النهائية للانتخابات في أيار (مايو)، فإن استطلاعات سابقة أهّلت زِمور على حساب لوبن للعبور إلى تلك الجولة، فيما أعادت استطلاعاتٍ لاحقة توقّع منافسة نهائية بين ماكرون ولوبن على منوال ما حصل في انتخابات العام 2017. ويكشف استطلاعٌ نُشِرَ الأحد الماضي أن زِمور سيحصل في الدورة الأولى على ما بين 14 و15 في المئة من الأصوات خلف لوبن التي ستحصل على نحو 19 في المئة من نيات التصويت، فيما سيحلّ في المرتبة الأولى الرئيس إيمانويل ماكرون بنسبة 25 في المئة.

وما يلفت في الجدل الحالي أن فرنسا تكشف من خلال زِمور عن وجهٍ يميني عنصري، يُفسّر ارتفاع شعبيّة الكاتب المُساجل الحديث العهد في “الصنعة” السياسية المُعادية للمهاجرين (لا سيما المسلمين)، مُقارنةً بمدرسةٍ تاريخية في هذا المضمار قادها لوبن الأب، قبل أن ترثه ابنته مارين وتنقلب عليه وتُبعده عن حزبه “الجبهة الوطنية”، وتُغيّر اسم الحزب تبرّؤاً من سمعة الأب، وتُطلق عليه اسم “التجمّع الوطني”.

رَوَّجَ زِمور لنظرية “الاستبدال الكبير” للشعب الفرنسي الأصلي بشعوبٍ أخرى، مُسوّقاً لأخطار إحلال الهوية الفرنسية بهويات جديدة، خصوصاً تلك المغاربية الأفريقية.

والنظرية ليست من صنع زِمور، وسبق لأطروحات اليمين القومي تاريخياً أن تداولتها، ناهيك بأن “الاستبدال الكبير” هو عنوان كتاب رينو كامو القريب من حزب “الجبهة الوطنية”، الصادر في العام 2011. إستعاد كامو داخل كتابه نصوصاً وأفكاراً لعتاة القوميين، وخصوصاً تلك لموريس باريس في أواخر القرن التاسع عشر. لكن زِمور راح بجلافة يُبسّط تلك النظرية ويُطوّرها إلى سلعة مفهومة في سوقيتها، حين وعد بمكافحة ذلك الخطر، وتعهّد إذا انتُخِبَ رئيساً أن يمنع إطلاق اسم “محمد” (والأسماء الإسلامية) على مواليد فرنسا.

وأن ترتفع شعبية زِمور على رُغم تجاوزه الحدود التي وصل لها ستيف بانون، مُنظّر الترامبية في الولايات المتحدة، مُخترقاً سقوف اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية في النمسا والمجر وإيطاليا ودول أخرى، فذلك يعني أن زِمور جاء يُلبّي حاجاتٍ مكبوتة داخل “المجتمع العميق” في فرنسا، ويؤكّد في الوقت عينه نزوع البلد نحو الضفاف القصوى لليمين، بحيث يدور لبّ الجدل يميناً، فيما يلعب الوسط واليسار بصعوبة ويأس أدواراً هامشية.

ينعم إريك زِمور بنِعَمٍ لم يتمتّع بها صاحب “الصنعة” التاريخي جان ماري لوبن. كان ناخبو لوبن يخجلون من الكشف عن ميولهم الانتخابية ويتجنّب أنصاره البوح بدعمهم له. ولئن نجحت ابنته مارين  في “أنسنة” مُناصريها، خصوصاً حين باتوا يأتون من أوساط عمّالية بعضها يساري، فإن زِمور حظيَ بشعبية سريعة تجمع، بحسب ما يُفاخر، ما بين النخبة والطبقة الشعبية. ودفع النزوع المجتمعي نحو اليمين الرئيس ماكرون للنهل من هذه المياه، حين أعلن قبل شهرين، ومن خارج أي سياق، أن لا وجود لأمة جزائرية قبل الاستعمار، ليُبارك زِمور هذا “الكشف”، ويُعلن أن “الجزائر هي اختراع فرنسي”.
لا ينتمي زمور إلى شريحة الفرنسيين “الأصليين”. ينحدر من عائلة يهودية أتت من الجزائر، واستطاع مع ذلك أن يُزاحِمَ مارين لوبن ابنة تلك “الأصول” في ميدانها العائلي العريق. واللافت أن زِمور يُقدّم، من حيث لا يدري، خدمةً جليّة لزعيمة اليمين المتطرف في فرنسا، من حيث إن “الشيطنة” التي يُقدّمها في أطروحاته وفق منتقديه، تجعل من أطروحات مارين لوبن “ملاكاً” ومواقفها مقبولة معتدلة متوازنة، تقوّي من حظوظها في مبارزة ماكرون على عتبة القصر الرئاسي. تجمّعت “الكتلة الوطنية” من يسارٍ ويمين لمنع لوبن من الفوز على ماكرون في انتخابات 2017. لكن لوبن تعوّل هذه المرة على ما حققته من تغيير لصورة حزبها، وعلى مواقف ناضجة تليق برئيسة جمهورية مُفترَضة أدلت بها خلال السنوات الأخيرة. وتعوّل على تصدّع صورة ماكرون خلال أداء حكوماته في ولايته. وتعوّل على فشل زِمور في انتخابات الدورة الأولى، وسوق ناخبيه نحو صناديقها في الدورة الثانية.

يستسهل زِمور التسلّل إلى نادي المُسترئسين من دون أيّ برنامج جدي، يُقارع فيه منافسيه في الاقتصاد والنمو والبطالة والتعليم والأمن والجائحة وأوروبا والعالم. يسطو زِمور على تراث الجنرال شارل ديغول (المقاوم للنازية)، ويتبرّع قبل ذلك بالدفاع عن حكومة فيشي برئاسة الماريشال فيليب بيتان (المتعاون مع الاحتلال الألماني).

دقّ زِمور أبواب الرئاسة بأدواتٍ شعبوية ممجوجة حول الهوية والهجرة والإسلام، ويُطوّر في سعيه هذا سلوكاً كانت المحاكم الفرنسية قد دانته مرتين بتهمة التحريض على الكراهية العنصرية. ولا يبدو أن ماكرون يشعر بالقلق من ظاهرة زِمور التي تشغل فرنسا ويراها تستهلك من أرصدة خصومه. لكن لوبن التي تكرّر عدم إيمانها بقدرة زِمور على تجاوز حدودٍ كُبرى عند الامتحان، لا تزال تأمل في انضمامِ الرجل إلى حملتها من دون أن تنجح لهجتها الواثقة في إخفاء ضيقٍ من تضخّم ظاهرة الرجل وخبثها. والأرجح أن ماكرون الذي لم يعلن رسمياً عن ترشّحه، يرصد ساعة بساعة اليمين المتطرف يحوم حول قصره.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره على موقع “النهار العربي” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى