كرسي منصور
هنري زغيب*
منذ غياب منصور الرحباني (13كانون الثاني/يناير 2009) ما عدتُ زرتُ بيتَه. ولي فيه ذكرياتٌ معه غاليات، منها على شُرفته الغربية سهراتٌ ربيعية أَو صيفية كان خلالها، بحضور الكبير عاصي، يَقرأُ آخرَ أَعمال “الأَخَوَين” لشُلَّة أَصدقاء: سعيد عقل، محمد الفيتوري، عبدالله الأَخطل، … كان من سَعادتي أَن أَكون بينهم.
ومن ذكرياتي معه في غرفته (المكتب) جلساتي الطويلةُ إِليه دوَّنتُ خلالها ذكرياتِ مسيرتِه مع عاصي والخالدة فيروز، هي الجلسات التي شكَّلَت لاحقًا كتابي “طريق النحل” وطبعتَه الثانية “في رحاب الأَخوَين رحباني”.
منذ غيابه انقطعْتُ عن زيارة البيت، حتى كان ذلك صبيحةَ الأَحد الماضي، إِذ دعاني ابنُه أُسامة إِلى جلسةٍ يُسْمعني فيها أَحدثَ تآليفه الموسيقية.
استقبلَني أُسامة على الباب، ورامَ يُواكبني حتى الصالون حيث الپيانو لأُصغي. سوى أَنني استأْذَنْتُهُ لأُطِلَّ بُرهةً على غرفة المكتب أُحيِّي صامتًا حضورَ منصور في غيابِه الساطع. رأَيتُ المكتب كما أَعرفُه، وكرسيَّ منصور شاخصًا إِليَّ كما يَسأَلني عن عودته.
بعد جلسة الاستماع على الپيانو إِلى تآليف أُسامة انتقلْنا إِلى غرفة الطعام، فإِذا بالخادمة هيَّأَتْ صحونًا ثلاثة وتوابعَها: لأُسامة، لي، وصحنًا أَمام كرسيّ فارغ عند رأْس الطاولة كان يجلس عليه منصور. سمعَ أُسامة السؤَال في عينيَّ فاستدرك: “هكذا كلَّ يوم، دائمًا صحنٌ فارغٌ وتوابعُه أَمام كرسيّ منصور الذي منذ غيابه لا يجلس عليه أَحد، كما كرسيّ مكتبه لا يجلس عليه أَحد”.
ما أَنبلَ ما أَسمع: كرسيّ منصور فارغ دائمًا لا يجلس عليه أَحد.
تناهى فورًا إِلى ذاكرتي مقالُ فؤَاد سليمان في “النهار” (1951) “الكرسيّ الفارغ” (صدَر لاحقًا في كتابه “القناديل الحمراء” – 1963)، ومنه: “في المجلس الوطني التركيّ، بعد الانتخابات الكُبرى، وقفَ سكرتير المجلس يأْخذ أَسماء النواب الحاضرين: “عصمت إِينونو” – حاضر. “أَحمد بكير” – حاضر. “حسين يالتشين” – حاضر. وكان كرسيٌّ فارغٌ عليه مهابةٌ حزينةٌ يتصدَّر قاعة المجلس. “كمال أَتاتورك” ويَنهض نوَّابُ الأُمة كلُّهم يهتفون: “حاضر”. ما أَعظمَها عبرةً: الرجل الذي غاب قبل عشر سنواتٍ لا يزال حاضرًا في المجلس الوطني، دائمًا هناك، في صدر القاعة الكبيرة! “حاضر”… والجثةُ في التراب منذ عشر سنوات، والقاعةُ الكبرى لم تعُد تسمع صوته ولا تلتمع في جنَباتها عينا “الذئْب الرمادي”… ليته كان لنا، بدَل هذه الكراسي الخشبية، كرسيٌّ واحدٌ فارغٌ لرجل كبير يبقى دائمًا حاضرًا ولا تغيب قسَماتُ وجهه عن عيوننا…”.
الكرسيُّ الفارغ! غيابٌ أَقوى من الحضور. هكذا يَحفَظه أُسامة، وشقيقاه مروان وغدي حين يجتمعان وأُسرتاهما في البيت الوالديّ للمناسبات العائلية: يبقى كرسيّ منصور فارغًا كما في انتظار وُصُوله.
إِنه الصمتُ الأَبلغُ في اختراق الزمان. وهو ما شعرتُ به كذلك يوم صديقُ العمر الأَديبُ عبدالله نعمان اصطحبَني في پاريس إِلى الپانتيون: كنتُ أَتجوَّل بين أَضرحة الخالدين الصامتة حجارتُها، كأَنني أَسمع صُوَرَهم تتردَّد حولي في الردهات الوسيعة، وأَرى أَصواتهم تخترق الزمان.
تمامًا كما عاصي ومنصور، الساكنان اليوم عند تلَّةٍ بشكلِ ضريح، ما زالا معنا كلَّ يوم في أَعمال تخترق المستقبل وتسابقُنا إِليه.
هذا هو معنى كرسيّ منصور في بيت منصور: حضورٌ أَبلَغُ من الغياب، حياةٌ أَقوى من الموت، خلودٌ لا يَطالُه تثاؤُبُ فناء.
يا منصور، وأَنت مالئٌ بغيابكَ كرسيَّكَ الفارغ: أَطال الله عمْر غيابك.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في صحيفة “النهار” (بيروت).