طهران-فيينا… عبر هوليوود!
محمّد قوّاص*
ثلاث مُسيَّرات هاجمت فجر الأحد مقرّ رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي. العملية استهدفت اغتيالَ الرجلِ بأدواتٍ استعراضية تدلّ من دون لبس عن مصدرها ومَن وراء ذلك المصدر.
قبل ذلك، في 3 من الشهر الجاري، أعلنت طهران عن قيام الحرس الثوري بعملية إنزال استولت خلالها على سفينة نفط في بحر عُمان. بثّت بعد ذلك صوراً عن عملية استعراضية هوليوودية مُتواكِبة مع مؤثّراتٍ صوتية وإخراجٍ مُثيرٍ توضح ملابسات انتزاع الإيرانيين سفينة قالت إن البحرية الأميركية نقلت إليها نفطاً إيرانياً سرقته من سفينة أخرى.
إثر تلك الرواية ذات السيناريو والإخراج المُفرِط في صبيانيته وهوليووديته. اكتفى الطرف الأميركي برد بسيط: “هذا غير صحيح”.
بثّت واشنطن لاحقاً صوراً عن عملية اختطاف قامت بها زوارق سريعة تابعة للحرس لسفينة نفط تحمل علم فيتنام. جرت العملية في 24 تشرين الأول (أكتوبر)، أي قبل 10 أيام من إعلان طهران. قالت واشنطن إنها لم تعلن عن الأمر في حينه لتلافي أي توتر يؤخّر عودة إيران إلى طاولة المفاوضات في فيينا. لاحقاً كذّب موقع تتبع السفن ” Tanker tracker” الرواية الإيرانية بكاملها، فيما طالبت فيتنام إيران بمعلومات عن سفينتها المُختَطفة.
أجهضت الوقائع “الفيلم” الإيراني. سكتت طهران.
لم تنجح إيران في محاولتها الاستعراضية لتمرير ما يمكن أن يُغطّي إنهاء مسلسل تدلّلها ثم خضوعها الكامل للأمر الواقع بوجوب العودة إلى مفاوضات فيينا في 29 تشرين الثاني (نوفمبر). إنتظرت طهران ضمانات وشروطاً طالبت واشنطن بها، فلم تأتِ. روّجت لسيناريو العودة إلى اللحظة التي انسحب منها دونالد ترامب من الاتفاق النووي في العام 2018، فأتت تغريدة مندوب روسيا لدى المنظمات الدولية في فيينا ميخائيل أوليانوف: “عودوا إلى النقطة التي وصلت إليها الجولات الست”، ونقطة على السطر.
أرادت طهران من ضجيج بحر عُمان التذكير بما تمتلكه داخل الممرات الدولية البحرية في المنطقة. وهي في الطريق إلى فيينا توّاقة لتحقيق ميليشياتها في اليمن النصر الموعود في مأرب. والظاهر أن إيران قررت الاندفاع نحو فيينا قبل أن ينكشف تضعضع أوراقها المزعومة الأخرى.
تلقّت في العراق ضربة إثر الانتخابات التشريعية الأخيرة، وضربة ثانية إثر تفاهمات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت حول سوريا، وضربة ثالثة في سحب دول الخليج ديبلوماسييها من لبنان.
لم تعد إيران تتحكّم بخطوط الخرائط نحو فيينا. اطّلعت طهران على معلومات مباشرة واضحة عن أن نقاش الخيار العسكري بات قائماً وأن العواصم الكبرى، بما فيها موسكو وبكين، تدرج هذا الاحتمال بصفته بات مُرجَّحاً. رفضت بكين شحنة النفط المُرسَلة من إيران والتي حاولت طهران تغطيتها بعمليتها الهوليوودية المزعومة في بحر عُمان. وكلّفت موسكو مندوبها في فيينا بصعق الحلفاء في طهران بتغريدات نخزٍ تُعبّر عن امتعاضٍ روسي من سلوك لم يعد بالإمكان الدفاع عنه.
للدول الكبرى مصالح وحسابات كبرى تدفعها للتقاطع والعمل معاً في ملفاتٍ استراتيجية مُشتركة حتى لو أن السجال يستعرُ بينها في ملفات أخرى. لا يمنع الصراع بين الولايات المتحدة والصين البَلَدان من الاتفاق على منع إيران من اقتناء قنبلة نووية. كما أن أي اتفاق استراتيجي تمّ التطبيل له بين بكين وطهران لا يمكن أن يرى النور إذا ما بقيت إيران خارج اتفاق دولي حول برنامجها النووي. وليس سراً أن روسيا الحريصة على التحالف مع إيران وصون العلاقة معها، لن تسمح لطهران بدخول نادي الدول النووية. يكفي تأمل احتكاك مصالح البلدين في سوريا لاستنتاج الخطوط الحمر التي لم يعد بالإمكان مواراتها.
تبدو إيران مُتعثّرة في أوحال المنطقة التي نشرت نفوذها داخلها. انتقلت طهران من مرحلة السيطرة على أربع عواصم عربية إلى مرحلة تخفيف الخسائر والحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه. وما محاولة اغتيال رئيس وزراء العراق، التي تُذكّر باغتيال رئيس وزراء آخر في لبنان قبل 16 عاماً، إلّا واجهة للهلع من فقدان طهران لنفوذها على بغداد. وحتى في لبنان الذي يسيطر حزبها على قراره، فإن قطع السعودية ودول الخليج سُبُل الوصل مع بيروت في نسخة أولى، واحتمال اللجوء إلى نسخ أكثر قسوةً وحزماً لاحقاً، أربك الستاتيكو الذي على أساسه طوّر “حزب الله” هيمنته على البلد ومؤسساته.
تكتشف طهران أن قاضياً لبنانياً يقضّ مضجع حزبها “الجبّار” في لبنان، وان اعتراضاً شعبياً على سلوك حزبها ظهر في بلدة شويّا جنوب لبنان مع الدروز، وفي ضاحية خلدة مع العشائر العربية السنية، وفي الطيونة-عين الرمانة مع المسيحيين. ذلك التتالي يُفاقم حالة اعتراضٍ شعبي سياسي بات صاخباً جريئاً صادماً. يتمسّك “الحزب المقاوم” الذي يتوعّد بأن يكون ندّاً للولايات المتحدة وإسرائيل و”قوى الاستكبار” بوزيرٍ نَهَلَ من روايات إيران لانتقاد الخليج، لعلّ في الأمر ما يُمكن مقايضته لإبعاد سيف التحقيق حول كارثة مرفإِ بيروت، ذلك، وعلى ما يبدو، أن في ملفات القاضي ما يمكن أن يفضح الحزب ويُحرج الحاكم في إيران.
تسعى إيران على طريق فيينا إلى تثبيت قواعدها السياسية في لبنان في وقت تهتزّ قواعدها في ميادين النفوذ الأخرى. وفي الطريق إلى فيينا تُعيد طهران رفع أوراقها في الشرق الأوسط. ولئن تعجز إيران عن إثبات استقرار نفوذها في المنطقة، فإن اللجوء إلى الهوليوودية سبيلٌ بائسٌ لعرض العضلات حتى لو كانت عمليات “إنزال” بحر عُمان وإطلاق مُسيّرات اغتيال الكاظمي تُحرِّكُ ماكيافيلي في قبره.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: (@mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)